أتسائل وأنا أبدأ الكتابة هل نحن البشر كائناتٌ محبّة وعاشقة؟ هل تملؤنا مشاعر الحب أم نحن مجسماتٌ فارغةٌ تتصنع على مدار السنين، أو تتوهم أنها تحمل بين ثناياها مشاعر وأحاسيس؟! أم ربما هي أرواحٌ فارغة تكتسب من محيطها وتمتزج بها...
لماذا كلّما تمّ فتْح باب الحديث عن الحب والعشق يذكرون عشْق قيس وليلى، فرهاد وشيرين وغيرهم من الذين لا ينتمون إلى هذا الزمان بصلة؟
هل يا ترى قصص العشق نادرةٌ في زماننا هذا؟! أجل تراودني الكثير من التساؤلات حول مفهوم العشق الذي هو برأيي الشخصي لم يعدْ له وجودٌ في وقتنا الحاضر. لكن، لطالما كنت أفكر وأحلل الأمور لأصل لجوابٍ أو نتيجةٍ ترضي فضولي وحيرتي..
فأعود بالإجابة على نفسي بالقول: لا يعقل أنّه تلاشى هكذا، فإن كان للشيء وجودٌ ومعنى سيبقى كذلك في مختلف الأزمنة. إن كان الخمْر يسكر المرء، سوف يبقى كذلك، وإن كانت المياه تروي الظمآن، ستبقى كذلك، و إن كانت رائحة المطر تنعش الأنفس سيبقى دومًا لها ذلك التأثير، فكيف لم يعد هنالك ماكان يسعد المرء ويتباهى به كسلطانٍ اعتلى عرشه فخورًا لأنه أمتلك الدنيا بين يديه.
يبدو إنّ كلّ ما في الأمر إنّ وجهة نظرنا للأمر أصبحتْ مختلفة.
بالحديث عن اختلاف الأشياء ما بين العصْر القديم والعصْر الحديث لنوضّح فكرة تطور الأشياء مع مرور السنين، وسأخصّ بالذكر الأشياء المعنوية، مثل العادات والتقاليد المتعلقة بسلوك الرجال والنساء، سواء كان في العمل أو الإبراز في المجتمع بشكل عام. فقد كان التقاء النساء بالرجال معًا في الحياة من الأمور غير الشائعة. كانوا محكومين بالعادات والتقاليد المجتمعية من جهة، وبالدين من جهةٍ أخرى، لذلك كان كلٌ من الطرفين توّاقين لاكتشاف أحدهما الآخر، وكأن كل منهما لغزٌ يحاول الثاني اكتشافه..
فنحن لانستطيع نكران فكرة إنّ كل ما هو ممنوع، مرغوب. من هنا كنت أحاول فهم الذي كان يعيشه الرجال والنساء في ذلك الوقت وكيف إنّه كان الحب عظيمًا في وقتهم.. كان الرجل ممنوعًا على المرأة والعكس كذلك إلا بشروطٍ معينةٍ، طبعًا يتم تحديدها من قبل المجتمع والدين.
كانت المرأة ترسم خيالًا للرجل في عقْلها، فتراه إلهًا، منقذًا، فارسًا، أميرًا.. حلمًا! إنك عندما تقوم بخلْق شيءٍ مقدسٍ وخارق في ذاتك لتنْعش وتغذّي بها روحك المقيدة الجائعة فمن الطبيعي عند أول لقاء حقيقي به، أول تماس معه، ستعيش حالةً خيالية، لا يستوعبها العقل، ستقتلع جذورك اليابسة من الأرض وتحلق هائمًا في السماء. وهذا ما كان يعايشه الرجل أيضًا بلهفته للمرأة..
العقل لا يستوعب ويصبح خارج المعادلة لأنّه طوال تلك الفترة كان منشغلًا ومنْهكًا بتهيئة وإثارة القلب من خلال رسْم صورٍ وخيالات وإرسالها إليه، ليقوم هو بدوره بصنع مشاعر لها وتزيينها بها، وهذه العملية كانت نتيجتها وتأثيرها تختلف من شخصٍ لآخر حسب المدة الزمنية التي استغرقتْها في الصّنع لديه.. تذكرت وأنا أتحدث عن عملية الصّنع (غزل البنات).. فالتي يتم الإجهاد والتعب في صنعها بعشر دقائق تختلف عن التي يتم صنعها في نصف ساعةٍ أو أكثر.. فالحجم والشكل يختلفان واللّهفة عليها تفْرق بالتأكيد.. طبعًا حبي للسكّر منع مخيلتي من التفكير بمثالٍ آخر هاهاها.
لذا أعود بالقول إن الحرمان هو الذي يقوّي المشاعر ويغذّي الخيال والروح، حتى إنهم كانو يعيشون حالةً من العشقْ، لإنّ كلاهما الرجل والمرأة، كان يدرك قيمة الآخر، قيمة الحصول على شيءٍ يحرّمهما منه المجتمع أو الدين، قيمة النظرة الأولى، وأول سلامٍ ، وأول لمْسةٍ بريئة، أول همْسةٍ، كلّ الأشياء المحرّمة والمقدّسة التي لربما لن تدوم طويلًا لذلك كانت على المشاعر أن تكون هائجة، مبالغة، مفرطة، جائعة، لافتة،....لتصبح مايسمٍّى بالعشق!
أمّا بالنسبة لزماننا هذا فقد خفّ التوتر وخفّت التساؤلات وكذلك الغموض فيما يتعلّق بكلا الجنسين، لأنّه لم يعد هنالك حرمانٌ كالسابق، تجد النساء جنبًا إلى جنب مع الرجال في كافة مجالات الحياة، فأصبح الإعجاب والحب بديلًا عن العشق. فمثلًا بالحديث عن النساء، بدلًا من الرّغبة واللّهفة بالوصول إلى رجلٍ واكتشافه، أصبح الطموح هو إيجاد صفاتٍ معينةٍ في الرجل الذي معها. في السابق إن كان حلم المرأة أن تتكلم مع رجل، أصبح الآن حلمها عندما تكلّم رجلًا أن يكون شخصًا واعيًا ومثقفًا. إن كان حلمها سابقًا أن تكون إلى جانب رجل، أصبح الحلم الآن أن يكون الذي بجانبها رجلًا بمعنى الكلمة، وهكذا..
نحن كبشر يغرينا الفضول وتملكنا حالةٌ من التّوق واللّهفة على كلّ ما لا نستطيع الوصول إليه بسهولة، كاللّهفة إلى تسلّق جبلٍ عالٍ، وأنت قبل أن تبدأ رحلة التسلق تنْتابك مشاعر قوية لأنك متجهٌ لشيءٍ لم تجربه من قبل، وأنت بنفسك تقوم بتغذية هذه المشاعر منذ اللحظة الأولى التي بدأْت تطمح فيها بالتسلق إلى لحظة الوصول، بالطبع تكون عاجزًا عندها أمام ثورة أحاسيسك التي هي نتيجة إشباع فضولٍ وتحقيق غايةٍ واكتشاف ما كان مجهولًا. لكن بعد ذلك كلّ مغامرات التسلّق التي سوف تليها لن تكون بمثابة المرة الأولى، سوف تستمتع بالتأكيد، لكن لم يعدْ هنالك أيّ غموضٍ تريد اكتشافه أو أيّ لهفةٍ تريد إشباعها.