في رسالة القضاء الشهيرة التي بعث بها عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري مشيراً فيها إلى أصول القضاء قال: " فإنَّ القَضاء فَريضةٌ مُحكَمَة، وسُنّةٌ مُتَّبَعة، فَافهَم إذا أُدْلِيَ إِليْك، واقضِ إذا فهمت، وأنفذ إذا قضيت، فَإِنَّهُ لا يَنفع تَكلم بِحقّ لا نَفَاذ لَه، وآسِ بَينَ النَّاس في وجهِك وعَدْلِك ومَجلسك، حتّى لا يَطمَع شَريف في حَيْفِك، ولا يَيأَس ضَعيف مِن عَدلِك...".
تاريخ ممارسة العفو العام في كثير من الدول يظهر تكييف قضايا فساد لمسؤولين وانتهاك حقوق إنسان بحيث شملها العفو، مذكراً بأنه ليس كل فعل قانوني هو فعل أخلاقي
وبعيداً عن اختلاف الروايات، ففكرة هذه الرسالة تعد من أولى الإشارات الى مبدأ العدالة الناجزة، وجوهرها الذي يمكن أن يترجم في أيامنا هذه إلى قضاء سريع الفصل في الدعاوى وفقاً لمعايير واضحة وادلة حاسمة، وإصدار أحكام قطعية بعد استيفاء مراحل التقاضي كاملةً. فإذا ما صدر الحكم القطعي أصبح لزاماً المسارعة إلى تنفيذه دون أي إرجاء أو تعليق أو نقضٍ خارج سلطة القضاء، لتصل الحقوق إلى أصحابها ويتحقق العدل والتوازن المنشودان.
ولكن للأسف يطل بين الحين والآخر خرق قد يكون مقوننًا أحياناً لمبادئ العدالة الناجزة وسيادة القانون تحت مسمى "العفو العام"، وهو فعل تشريعي أو تنفيذي متعارف عليه في العديد من الدول تحت مسميات مختلفة، بحيث يلغي هذا العفو أثر الأحكام والعقوبات التي فرضت سابقاً، تحت مظلة مبررات مختلفة تتراوح ما بين الاقتصادية والاجتماعية. ولكن السبب الحقيقي في غالب الأحيان لا يعدو كونه محاولة لتحقيق مكاسب سياسية وإضفاء بعض الشرعية على الأنظمة والسلطات الحاكمة. ويقابل العفو العام ما يعرف بالعفو الخاص وهو فعل مسامحة صادر في الغالب عن رأس السلطة في البلد يلغي عقوبة ويعيد الحقوق المدنية لأحد الأفراد، دون إسقاط الإدانة في الغالب. والعفو الخاص غالباً ما يكون محدودًا ومحددًا وفي حالات خاصة مبررة.
ولما يعرف بالعفو العام العديد من الآثار السلبية على نظم العدالة بشكل عام، فأولاً نجد في هذه الممارسة تعزيزاً لعدم المساءلة، فالعفو العام يعني أن أولئك الذين ارتكبوا جرائم وخالفوا القوانين لن يحاسبوا على أفعالهم ويمكنهم العودة لتكرار الجرم دون الخوف من العقاب، في تقويضٍ واضحٍ لقدرة نظم العدالة على الردع. ففي الأردن مثلاً، تشير بعض الإحصائيات إلى أن 33% ممن شملهم العفو العام في عام 2011 عادوا وارتكبوا جرائم خلال بضعة أشهر من إطلاق سراحهم، مما يعزز الفرضية القائلة بأن الجناة يتجرؤون على ارتكاب الجرائم بسبب علمهم أنهم قد لا يعاقبون.
ثانياً، زيادة المخاوف المتعلقة بالأمن والسلامة العامة. فقد يشكل بعض المدانين الذين أطلق سراحهم بموجب عفو عام تهديداً للأمن المجتمعي وللسلامة العامة. وخصوصاً أولئك الذين ارتكبوا جرائم عنيفة أو الذين لديهم تاريخ من تكرار الجرائم، ناهيك عن المتطرفين من المجرمين. ومن أبرز الامثلة على ذلك أبو مصعب الزرقاوي الذي شمله العفو العام سنة 1999 في الأردن، حيث أطلق سراحه قبل وقت طويل من إنهاء محكوميته ليصبح لاحقاً أحد أكبر المطلوبين دولياً.
ثالثاً، يمكن أيضاً استخدام العفو العام للتستر على انتهاكات حقوق الإنسان أو جرائم الفساد التي ارتكبها المحسوبون على الأنظمة. فتاريخ ممارسة العفو العام في كثير من الدول يظهر تكييف قضايا فساد لمسؤولين وانتهاك حقوق إنسان بحيث شملها العفو، مذكراً بأنه ليس كل فعل قانوني هو فعل أخلاقي. فاستغلال مثل هذه الثغرات يمكن الأنظمة من تجنب المساءلة بشكل يقوض سيادة القانون، ويمثل تهديد مخيف للجهود المبذولة لمكافحة الفساد ومحاسبة المسؤولين عن الانتهاكات، مما يديم ثقافة الإفلات من العقاب بين المحسوبين على السلطة.
رابعاً، لطالما عزز العفو العام المخاوف من إستغلال هذه الممارسة لتحقيق مكاسب سياسية، من خلال محاولة الأنظمة تعزيز هياكل السلطة بشكل عام بممارسة شعبوية تسهل كسب ود بعض الجماعات أو الأفراد، حتى أنها يمكن أن تمكن بعض المتنفذين من تسهيل إطلاق سراح بعض المجرمين المحسوبين عليهم. هذا التدخل السياسي يعزز الانطباع بأن بعض السلطات تتغول على أخرى بشكل يقوض نزاهة نظام العدالة.
خامساً، ما ينتج عن هذه الممارسة من انعدام العدالة لضحايا الجرائم التي ارتكبها المحكوم عليهم الذين تم العفو عنهم. فبعيداً عن مثاليات ممارسات التسامح والعفو والتي تتم غالباً تحت ضغوط اجتماعية واقتصادية هائلة تمارس على الضحايا وعائلاتهم للتنازل عن حقهم الشخصي، مما يفسح المجال لشمول مرتكبي الجرائم الخطيرة بالعفو ويحول دون مواجهتهم أي عواقب لأفعالهم، هذا بالتأكيد لن يحقق الشعور بالعدل والتوازن بل سيؤدي إلى تقويض الشعور بالعدالة والإنصاف الضروريين للحفاظ على الاستقرار الاجتماعي والثقة في النظام القانوني.
يصعب تجاهل العواقب السلبية الكبيرة والكثيرة للعفو العام، بما في ذلك إعاقة العدالة الناجزة، وتقويض المساءلة
في الختام، يروج الكثيرون للعفو العام بحجج التخفيف من اكتظاظ السجون أو إعطاء فرصة أخرى للمحكومين أو التخفيف من التبعات الاقتصادية أو المجتمعية، ومعظم هذه المبررات يمكن الاستجابة لها بوسائل وأدوات أخرى غير العفو العام، الذي يصعب تجاهل عواقبه السلبية الكبيرة والكثيرة، بما في ذلك إعاقة العدالة الناجزة، وتقويض المساءلة، وخلق مخاوف تتعلق بالأمن وسلامة الأفراد والمجتمع، واستغلاله لتحقيق مكاسب سياسية، وحرمان الضحايا من الإحساس بالعدل والإنصاف، وعليه من المهم دراسة جميع هذه العواقب المحتملة بعناية والتأكد من سيادة القانون وتحقيق العدالة الناجزة قبل الإقدام على تطبيق ممارسات قد تهز الثقة بكامل نظام العدالة.