في كتابه "من شرفة ابن رشد"، يُورد عبد الفتاح كيليطو ملاحظة حول الفيلسوف ابن رشد يُشير فيها إلى أنّ ابن رشد، ورغم نذره حياته في سبيل تقديم شروح لأعمال فلاسفة اليونان وفي مقدمتهم أرسطو، إلا أنّه لم يكن على علم جيّد باللغة اليونانية، حيثُ إنّه لم يكن على معرفة باللغة اليونانية، ولم يكن على علم ودراية بتعابيرها الاصطلاحية الفلسفية.
بسبب عدم معرفته باللغة اليونانية، كان ابن رشد يلجأ إلى قراءة ترجمات كتب أرسطو عن السريانية التي كانت من ترجمة عدد من المترجمين الذين لم يكونوا على معرفة جيدة باللغة العربية
وإنّ ملاحظة كيليطو السابقة حول الفيلسوف ابن رشد قادتني إلى بحث كنتُ قد قرأته حول ابن رشد "وقلق عبارة أرسطو"، ويتحدّث فيه الباحث جمال حمود عن العقبة اللسانية التي واجهت ابن رشد أثناء محاولته تقديم شروح لأعمال أرسطو، حيثُ إنّه وبسبب عدم معرفته باللغة اليونانية، فقد كان يلجأ إلى قراءة ترجمات كتب أرسطو عن السريانية والتي كانت من ترجمة عدد من المترجمين الذين لم يكونوا على معرفة جيدة باللغة العربية مثل: "إسحاق بن حنين" ويحي بن عدي" وغيرهم.
يُورد الباحث في بحثه بأنّ الترجمات الركيكة لأرسطو عن اللغة السريانية والتي كان ابن رشد يطلّع عليها من أجل تقديم شروحات لأعماله قد ولّدت لديه عقبة لسانية عند تقديمه لشروحه، وهي عقبة نتجت عن الاختلاف والتفاوت بين عبارات اللغة العربية واللغة اليونانية، وتفاقمت بسبب الترجمات السيئة لتلك اللغة عند نقلها للعربية، حيثُ يؤكّد الباحث بأنّ ابن رشد لم يستطع تجاوز هذه العقبة في الكثير من مؤلفاته عن منطق أرسطو مثل كتابيه: "المقولات" و"العِبارة".
إنّ الباحث في إشارته السابقة حول العقبة التي واجهها ابن رشد في تقديم شروحات لأعمال الفلاسفة اليونانيين وخاصة أرسطو، والتي كان سببها ركاكة ترجمة النصوص الفلسفية الأصلية؛ إنّ الباحث في إشارته يـأتي لينبّه إلى مسألة ترجمة الكتب الفلسفية من حيث إنّها اشتغال فكري يتطلّب من المترجم وجود شكل من أشكال المعرفة السابقة بالنصّ الفلسفي الذي يُترجمه.
وضمن الإطار السابق، فإنّ عبد السلام بنعبد العالي يُورد في كتابه "القراءة رافعة رأسها"، بأنّ الإشكالية الكبرى التي تُعاني منها منظمات الترجمة في العالم العربي تتمثّل في عدم إدراكها لحقيقة أنّ ترجمة الكتب الفلسفية عبر الاقتصار على نقلها إلى العربية لا يكون حلًا لمعضلة الترجمة، لأنّ عملية ترجمة هذه الكتب بالذات لا تكون بمجرّد تحقيق الكتب واقتراح المصطلحات، وإنّما تكون بإعمال الفكر في النصوص التي تحتويها تلك الكتب وبإعادة تأويلها بشكل يُنتج ترجمة حقيقية لها.
وبحسب بنعبد العالي: "إنّ ترجمة النصوص الفلسفية لا يُمكن إلا أن تتلبّس الممارسة الفلسفية ذاتها، ولن تعود الترجمة مجرّد فعل في تلك النصوص، وإنّما تغدو تفاعلًا معها، لن تعود تفكيرًا في تلك النصوص، وإنّما تفكيرًا بها".
عبد السلام بنعبد العالي: "الترجمة الفلسفية، مثل الفلسفة، همّ فكري ومعاناة من يَفلح النصوص ويعشق اللغة، ويرعى صقلها، وصفاءها"
كما يُورد بنعبد العالي -ضمن الإطار السابق كذلك- "الترجمة الفلسفية، مثل الفلسفة، همّ فكري ومعاناة من يَفلح النصوص ويعشق اللغة، ويرعى صقلها، وصفاءها. صحيحٌ أنّها لا يُمكن أن تستغني ماديًا عن المؤسسات والمنظمات، إلا أنّها لا يمكن البتة أن تتم خارج مختبرات الفكر، وبعيدًا عن قاعات الدرس وفضاءات الإنتاج الفلسفي".
إنّ بنعبد العالي يأتي ليؤكّد في كلامه السابق على أنّ ترجمة النصوص والكتب الفلسفية لا يُمكن أن تتمّ بشكل صحيح في ضوء امتلاك المترجم للأداة اللغوية بعيدًا عن أداة المعرفة والاطلاع الفلسفي، لأنّها في هذه الحالة ستغدو مجرّد نقل لغوي حرفي خالٍ من أشكال التفاعل والانفعال مع النصّ المترجَم، حيثُ إنّ الترجمة في هذه الحالة ستكون فارغة من أي طاقة تأويلية تأتي -في إطار التفاعل مع النصّ الفلسفي المترجم- لترقى وترتقي به.
ويُمكن القول بأنّ امتلاء النصّ الفلسفي المترجَم بهذه الطاقة التأويلية التي يُضفيها عليه مترجم عارف بالفلسفة وحقولها هو أمر مهم جدًا، وإنّ أهميته لا تأتي فقط من كونه قد يُساعد أصحاب المؤلفات الكبيرة كابن رشد على تجاوز ما يعتريهم من عقبات لسانية في تقديم شروحهم، بل تأتي كذلك من أهميته لنا نحن القراء العاديين، التي تُشعرنا هذه الطاقة التأويلية بحيوية داخلية وتَأتي كمن يُصيبنا بعدوى الرغبة في الشرح والحاجة إلى التأويل أو كما عبّر أحدهم: "كنتُ أشعر أنّ النصّ يكشف... عن طاقات تأويلية ظلّت غائبة عني، كما كنتُ أشعر أن بإمكان الترجمة أن ترقى به في بعض الأحيان".