بات من الواضح لنا، نحن البشر في كل أنحاء العالم، أو نصفنا المتصل بالإنترنت على الأقل، أننا دخلنا في مرحلة جديدة بدأت قبل عدّة سنوات، وهي مرحلة استحواذ وسائل التواصل الاجتماعي على مناحي حياتنا. بات من الواضح أيضًا، أن عمليّة الاستحواذ هذه مستمرة وبشكل تصاعدي مع مرور الوقت، ومع استمرار إنتاج شركات الحوسبة والبرمجة المزيد من المواقع والتطبيقات الحديثة لوسائل التواصل الاجتماعي، واستمرار تزايد عمليّة الاستهلاك والمشاركة، حتى أصبحت الـ"سوشيال ميديا" أمرًا واقعًا، لا مناص من عدم الانضمام لهذه "الحفلة" الافتراضيّة، وكأنّ من يتخلّف عن العالم هذا، يتخلّف عن العصر وأدواته وروحه.
بتنا متورّطين بتفاعلاتنا الحياتيّة في الـ"السوشيال ميديا"، وباتت هي الأخرى متوغلّة في تفاصيلنا الصغيرة
وبتنا من حيث لا ندري فجأة، متورّطين بتفاعلاتنا الحياتيّة المختلفة في الـ"السوشيال ميديا"، وباتت هي الأخرى متوغلّة للعمق بتفاصيلنا الصغيرة، إذ تنوعت المواقع والتطبيقات الافتراضيّة، وتنوعت طبيعة عملها واستهدافها لنا، حتى أصبح كل مبرمج شاب طامح بفكرة جديدة لموقع/تطبيق اجتماعي، يفكر كيف سيكون منتوجه الجديد منغمس أكثر في مناحي حياة البشر الاجتماعيّة والشخصيّة، عمّا هو موجود حاليًا في السوق من مواقع وتطبيقات "رحم الله أيّام الماسنجر"، سعيًا منه للتكسب المادي والتقدم المهني والترقّي في الشركة، أو تأسيس شركته الخاصّة، التي قد تُصبح فيما بعد جمعيّة خيريّة، بعد أن يتمكّن من جمع الملايين والمليارات من جيوبنا.
بالإضافة لجمع الملايين والمليارات، تجمع هذه الشركات التفاصيل والمعلومات من مستخدميها بحكم طبيعة عمل هذه المواقع والتطبيقات، وتتخزن لديها في مراكز للبيانات، كما يملك أصحاب الشركات وبعض العاملين فيها القدرة للدخول على الحساب الشخصي لكل فرد مشترك في "السوشيال ميديا"، والوصول لهذه المعلومات فيما لو أرادوا ذلك، حيث أصبح اليوم كمية ضخمة من المعلومات المخزّنة في حواسيب وأجهزة خاصة، في مراكز لحفظ البيانات التي بدأت تتوسع وتتحول مع الوقت، لأكبر أرشيف عالمي للبشر في عصر ما بعد الحداثة، يحوي على كل تفاصيل حياتنا التي شاركناها في "السوشيال ميديا"، من صور وفيديوهات ومحادثات وكتابات وتفاعلات.
ولنا أن نفكّر ونتخيّل فيما لو حصل تغيّر في الوضع القائم المحافظ على سريّة هذه المعلومات المخزّنة وخرجت للناس من مراكز البيانات محكمة الإغلاق وانتشرت بحريّة، فماذا سيحدث؟ بعيدًا عن أن الفكرة ملائمة لسيناريو فيلم أو رواية خياليّة، لا أحد يضمن لنا حقًا أن تبقى هذه المعلومات محافظ عليها، وتاريخ البشريّة مليء بالتسريبات واللا متوقع، ولنا في وثائق ويكيلكس السريّة أكبر مثال على إمكانية تسريب معلومات ومن أكثر الأماكن المحصنة أمنيًا. كما أنه لا أحد يعلم ما يدور في خلد عامل أمريكي في مركز بيانات ضجر من حياة الحواسيب والبرمجيّات "وأفلام هوليوود على الأغلب"، وبات يشعر أنه لا معنى لحياته، ويريد قبل الإقدام على الانتحار، أن يخلّد اسمه في التاريخ كأكبر مسرّب لأكبر كم من المعلومات.
أو قد تنجح مثلًا، مجموعة هاكرز فوضويّة مجهولة في اختراق الحصن المنيع لمراكز البيانات، وتقرر أن تنشر ما وصلت إليه يدها من معلومات، إيمانًا منها بمحاربة الشركات الرأسماليّة المسيطرة والمؤثرة على نمط حياة البشريّة، بهدف تحرير العالم من الافتراضيّة المفرطة التي تورّط فيها البشر بعد مائة عام من "العزلة" الإلكترونيّة.
قد نشهد شكلًا جديدًا للاستعمار من خلال التحكم في نشر معلومات في دول أخرى تريد استعمارها
أو من الممكن وبكل بساطة، أن تُجن الـ"سوشيال ميديا" فجأة، نعم هكذا تُجن، ويصبح بإمكاننا أن نرى كل شيء: من زار بروفايلي في الفيسبوك، من زار بروفايل الآخرين، الدخول إلى إنبوكس أصدقائنا وقراءتها، الدخول للمجموعات المغلقة وإلى إنبوكس الصفحات، الدخول لحسابات الإنستغرام المقفلة، ماذا شاهد كل شخص على يوتيوب من فيديوهات، سناب شات "من غير هدوم"، إمكانية معرفة كل شخص كتب في تطبيق سيكريت، "ادخلوا قبل الحذف: بالفيديو.. كل محادثات السكايب آخر عشر سنوات لمنطقة الشرق الأوسط في موقعنا الجديد"، إمكانيّة الدخول لواتس آب الآخرين وقراءة ما كُتب في مجموعات النميمة، "أعتقد أن مجموعات النميمة هي الهدف الأساسي من نجاح تطبيق الواتس آب"، ماذا كتب كل شخص لديه حساب جيميل في محرك البحث جوجل، الإيميلات، المواقع والقائمة تطول وستطول في العقود القادمة أكثر وأكثر.
ولعل المعركة القادمة بين الدول الإقليميّة ليس في امتلاك السلاح النووي والأسلحة الفتاكة والمتطوّرة، بل قدرة كل دولة في الوصول إلى هذه المعلومات عبر اختراق/شراء/بناء مراكز البيانات، بهدف السيطرة واستعمالها كسلاح في مواجهة الدول الأخرى في النزاعات، وقد نشهد شكلًا جديدًا للاستعمار من خلال التحكم في نشر معلومات في دول أخرى تريد استعمارها، وفي نفس الوقت قد نشهد أيضًا شكلًا جديدًا من مقاومة الاستعمار عبر نشر معلومات خصوصية عن الشعب المُستعمِر.
غياب الخصوصيّة الفرديّة المتراكمة لكل إنسان "تورط" في الـ"سوشيال ميديا"، على مدار سنوات وافتضاحها علنيًا بهذا الشكل، سيكشفه ويضعه على حقيقته ويعريه ويعري أفعاله وممارساته هناك. وبغض النظر عن الأحكام الأخلاقيّة عليها، سوف تُطرح العديد من الأسئلة أمام الإنسان في لحظة عُريه الجماعيّة، وفي هذه الحالة يُسأل أيضًا هل سيبقى مفهوم الأخلاق هو نفسه بما أنه "كلنا في الهوا سوا"؟ وستخاض النقاشات الفكريّة والفلسفيّة والدينيّة حول العديد من المفاهيم والمعتقدات، وستتخلخل العديد من النظريّات والمنظومات والروابط، وتختفي أطر وحركات وأحزاب وجمعيّات ومؤسسات، وسيعلن البعض طبعًا عن يوم القيامة، وربما نشهد حالة عنف مخيفة وغيابًا للدولة، بعد انهيار شامل في القيم والمجتمعات، تقوم على أثرها تحركات لتخليص البشرية من هول تسريب المعلومات من مراكز البيانات، ووضع حد لفضح الخصوصيّة بشكل جماعي للبشر، يترتب عليها التوقف عن اتبّاع هذا النموذج في الحياة المتمثل بتجميع معلومات البشر في مراكز بيانات، والبدء بعصر جديد لا نعرف شكله وطبيعته الآن لأننا لا نشعر حاليًا بالحاجة له.
وقد تصبح فيما بعد، ما تبقى من مراكز بيانات وحواسيب وأجهزة أخفاها بعض البشر، بعد أن تقرر تدمير جميع مراكز البيانات بالعالم، واحتفظوا بها لبيعها في السوق السوداء لجهات أو حكومات معينة أو كمقتنيات أثرية، قد تصبح متاحف إلكترونية عن العصر الافتراضي، أو يصبح جزء منها في المختبرات العلميّة والجامعات لإقامة الدراسات البحثيّة عليها، وقد تتحول حياتنا الآن مادة معروضة للترفيه، تشاهدها الأجيال القادمة لمعرفة كيف تصرف البشر قبل ألف عام، ونستطيع الجزم في هذا الشأن أنهم سيضحكون علينا كثيرًا، وقد يعودون لهذه المقالة يومًا ما في حال نجاتها وبقائها في أحد أجهزة حفظ المعلومات ويقولون: "العرب أوّل من تنبّأ بنهاية العصر الافتراضي".
اقرأ/ي أيضًا:
وسائل التواصل تدك معاقل الفاشية الثقافية
الكتابة الأدبية في المستنقع الفيسبوكي