اعتاد صديقي محمد المتفوق في الصف الثانوي أن ينظم وقت دراسته كجندي يؤدي خدمته بمواعيد صارمة وقواعد واضحة بلا تأخير ودون قبول أي أعذار، يقسو على نفسه كثيرًا ويقتطع من وقت راحته ونومه ونزهته كي ينال المراد، وما نيل المطالب بالتمني. طمح محمد من ممارسته تلك إلى الترقي الطبقي والخروج من عباءة أبيه الفقيرة إلى عالم أكثر براحًا وراحة حيث المال الوفير الممهد لكل الصعاب، حيث البنكنوت صار رمزًا للقوة والأحلام والخلاص، وكمراهق ساذج اتخذ طريق التعليم راغبًا في الحصول على أعلى الدرجات الدراسية للالتحاق بإحدى الكليات المسمّاة بكليات القمة (الطب، الهندسة، الصيدلة.. إلخ).
قلّل الطالب المصري من التبديل بين الأقلام، وتوقف عن شربه للمياه بكثرة أثناء جلوسه للمذاكرة كي لا يضطر للذهاب إلى دورة المياه، وكل ذلك من أجل الاستفادة الكاملة من كل ثانية
تحدثت إلى محمد في إحدى المرات وقد أصابتني الغيرة من تفوقه الدراسي في جميع المواد، سألته عن أسلوبه الخاص في تنظيم الوقت واستذكار الدروس. كان محمد فقيرًا للدرجة التي لا تسمح له بدروس خاصة أو مجموعات تقوية، كما أنه يدرس بالتعليم الحكومي المجاني، حيث لا فائدة مرجوة من الذهاب إلى المدرسة، ورغم كل الصعاب تفوق محمد دراسيًا والتحق في النهاية بكلية الهندسة، أجابني الطالب الدؤوب قبل أن يصير مهندسًا أنه يستثمر وقته بأفضل شكل ممكن ولا يضيع أي دقيقة من ساعات الاستذكار، ثم حكى لي عن اكتشافه الوقت الضائع في التبديل بين الأقلام، أو وضع الغطاء على قلم أزرق قبل تبديله بآخر أسود، ثم وضع الغطاء على الأسود والرجوع إلى الأزرق وهكذا، يقول محمد إنه أولى بتلك الثواني الضائعة في تبديل الأقلام والأغطية، ففي نهاية اليوم قد يضيع من وقت استذكاره 10 دقائق، فقلل من التبديل بين الأقلام ولم يعد يضع الأغطية من الأساس إلا قبيل انتهائه، أخبرني أيضًا بعدم شربه للمياه بكثرة أثناء جلوسه للمذاكرة كي لا يضطر للذهاب إلى دورة المياه، يرغب في الاستفادة الكاملة من كل ثانية.
ما قاله محمد في وقتها كان مذهلًا وملهمًا بحق، كيف لمراهق أن يفكر بهذه الكيفية؟ حتى أنني فكرت في تقليد بعض من عاداته غير أنني لم أمتلك نفس الإرادة، الأمر ممل ومرهق وكئيب ولا يناسبني.
بعد سنوات من هذا الموقف، شاهدت للمرة الأولى الفيلم الأمريكي "The Pursuit Of Happyness" إنتاج عام 2006 للمخرج الإيطالي غابرييل موتشينو، ومن بطولة الممثل ويل سميث في دور كريس غاردنر، يحكي الفيلم عن رجل مبيعات فاشل وبائس تطارده الديون ولم يتمكن منذ شهور من التسويق وبيع واحدة من الآلات الطبية التي يسعي لبيعها للمستشفيات والمراكز الطبية المتخصصة، وهو مشروعه الخاص الذي وضع فيه أمواله كلها، يقرر غاردنر وهو مفلس تمامًا وتتولى زوجته الالتزامات المالية أن يتحول إلى مضارب في البورصة عبر شهور من التدريب المجاني، لا تتحمل زوجته حماقاته فتتركه لأحلامه الزائفة، وخلال الفيلم يتعرض غاردنر إلى الكثير من الصعاب التي يتجاوزها بفضل الإرادة والإصرار والاستمرارية، ولا ينفك أن يخبرنا بجمل حماسية وتشجيعية كل حين وآخر، حتى ينجح في النهاية في تحقيق السعادة المتمثلة في المال، وهذه نقطة أخرى وتساؤل مختلف، كيف أصبحت الأموال مقابل للسعادة؟
لكن ما يهمنا في هذا السياق هو مشهد مناظر لما حكاه محمد عن علاقته بالأقلام والأغطية واستثمار الوقت، حيث كان دور غاردنر أن يتواصل هاتفيًا مع أكبر عدد ممكن من العملاء المحتملين ويحاول إقناعهم، ومن ينجح في جذب أكبر عدد من الزبائن/الأموال يتم توظيفه في نهاية الفترة التدريبية المجانية المقدّرة بستة أشهر. يقول غاردنر : "بغية عدم هدر المزيد من الوقت، لم أقفل سماعة الهاتف بين مكالمة وأخرى، لاحظت أنني أكسب 8 دقائق إضافية في اليوم بعدم إقفال السماعة، كما لم أشرب الماء فلم أهدر الوقت في دورات المياه".
نجح غاردنر في الحلم الأمريكي بينما ترك محمد الهندسة وعمل بورش حرفية بأجر زهيد ولم يحقق أي نجاح يذكر حتى اليوم، وبالكاد يتكسب قوت يومه، كان غاردنر مستعدًا لتملق المديرين والعمل الآلي وابتلاع الإهانات من أجل النجاح، وكذلك فعل محمد فلماذا لم ينجح هو الآخر؟
يشير غاردنر في إحدى جمل الفيلم إلى الخطأ الإملائي في كتابة كلمة Happyness حيث لا تُكتب بشكلها الصحيح هكذا Happiness، وتعمد المخرج استخدام الخطأ الإملائي في عنوان الفيلم، ربما كانت هذه الملحوظة هي أصدق ما في الفيلم حيث زيف التسويق إلى السعادة في هيئة نقود، وزيف حتمية النجاح بالإرادة والاستمرار. فكرة أشبه بعلاقات عامة للحلم الأمريكي ومنظومة الشركات الخاصة.
طُرح الفيلم المصري "مطب الصناعي" في السينمات في نفس العام، ويتناول الفيلم نفس الفكرة تقريبًا بروح ونكهة مصرية، حيث يقوم الممثل أحمد حلمي بدور الشاب العاطل "ميمي" الذي تقوده الصدفة إلى العمل لدى أحد أكبر رجال الأعمال في مصر، وتقود الصدفة ميمي مرة أخرى إلى مسؤولية إدارة مجموعة الشركات، ليخوض صراعًا ينتصر في نهايته ليصير هو الآخر رجل أعمال ناجح وغني ويحقق السعادة المرجوة. فلماذا لا يتكرر هذا السيناريو مع ملايين البشر المقهورين في المنظومة والذين يعملون ليل نهار كالآلات والبهائم؟ هل حقًا يقترن الفشل والفقر بالكسل وعدم السعي؟
تقول فيرونيكا ميرلو، وهي باحثة متخصصة بدراسات الشرق الأدنى، أن هناك صورة نمطية في الدول الأوروبية عن شعوب المنطقة العربية بأنهم يستحقون الفقر لكونهم كسالى
تقول فيرونيكا ميرلو، إيطالية الجنسية كما المخرج موتشينو، وهي باحثة متخصصة بدراسات الشرق الأدنى، أن هناك صورة نمطية في الدول الأوروبية عن شعوب المنطقة العربية بأنهم يستحقون الفقر لكونهم كسالى. تغيرت تلك النظرة كليًا عندما سافرت ميرلو إلى مصر ضمن منحة دراسية في عام 2017، عاشت ميرلو ثلاث سنوات في مصر بين القاهرة والإسكندرية وجنوب سيناء، تعلمت خلالهم العربية والعامية المصرية، وتعرفت على أصدقاء جدد وكونت الكثير من الخبرات والمعلومات الحياتية من الواقع المعيش. تحكي لنا ميرلو أن صورتها الذهنية عن كسل الشخص العربي تغيرت كليًا خلال رحلتها في مصر، كانت تجري المحادثات مع قائدي سيارات الأجرة لتجد أن الكثير منهم يضطر إلى العمل لساعات طويلة دون راحة، وأحيانًا لا ينامون الليل كي يوفروا لعائلاتهم الأساسيات المعيشية. تقول ميرلو "عندما أتيت إلى مصر كان عمري 21 عامًا فقط ومازلت طالبة بدون عمل، أما أصدقائي المصريون الذين تعرفت عليهم في نفس عمري، كانوا يعملون منذ سنوات ولديهم الكثير من الخبرات والتجارب، اليوم لديهم مليء بالأنشطة والالتزامات، أدركت للمرة الأولى فداحة النظرة الأوروبية والصورة الذهنية لكسل الشعوب العربية".
في مواجهة فيلم The Pursuit Of Happyness يوجد فيلم آخر من عالم وقارة مختلفة، فيلم واقعي رغم فانتازيته. فاز المخرج الكوري الجنوبي بونج جون هو بأربع جوائز أوسكار في عام 2020 عن فيلمه Parasite، يناقش الفيلم أيضًا أحلام الفقراء في الترقي الطبقي، ولكن فقراء جون هو مختلفين كليًا عن فقراء موتشينو. فقراء الجنوب الكوري لديهم سقطاتهم الأخلاقية وبيئهم القذرة، يتخلقون بخصال الطبقات المطحونة من النصب والأكاذيب والنفاق واحتقار الأغنياء والحقد عليهم، فقراء الجنوب الكوري نهايتهم بائسة تشبه حيواتهم التي حاولوا الانسلاخ منها ففشلوا، أم فقراء الحلم الأمريكي فشيمتهم الإخلاص والدأب والإرادة الحديدية، هم آلات مُهانة لا ينفكوا حتى ينجحوا في تأسيس شركاتهم الخاصة والخروج من بيئة الفقر إلى الرخاء. فقراء جونج هو يشبهوننا أما فقراء موتشينو فلا يشبهوا إلا فقراء السينما في خيال مخرجي العالم الأول.