ألتراصوت- فريق التحرير
شهدت السنوات الأخيرة تبدلًا كبيرًا في مشهد فن الكاريكاتير في العالم العربي، تزامن مع اضطرابات وتغيرات اجتماعية وسياسية واسعة، وتحوّل عميق في الأدوات والأساليب والمستويات التقنية ومنصات النشر وسبل الوصول إلى الجمهور. وقد كان لهذا التبدّل أثر في بروز طبقة جديدة من فناني الكاريكاتير الشباب العرب الذي يمتازون بالقرب من اليوميّ والراهن في مجتمعاتهم، وبدأوا باجتهادهم الخاص ودافعهم الشخصي وموهبتهم الفطرية، ليقدموا فنًا تعبيريًا قريبًا من الشارع ومشتبك مع قضاياه.
ولعل من أبرز التحولات التي شهدها هذا الفن هي تغير منبره التقليدي، فلم تعد الصحافة، بجرائدها ومجلاتها وتلفزيوناتها، مجالًا وحيدًا لعرض هذه الإبداعات، فبعد انتشار السوشيال ميديا وجد الكاريكاتير فيها بيئة مثالية. لطالما كانت طبيعة الهوية الصحافية التي تحتاجها كل مطبوعة مشكلة كأداء، كونها تتطلب تعاملًا مع عدد محدود من الرسامين، الأمر الذي يجعل فرص الفنانين الجدد لنشر رسوماتهم ضئيلة، إن لم نقل معدومة. وربما باستثناء المعارض الفنية المخصصة لهذا الفن لن يتسنى لهم التفاعل والتواصل مع محيطهم. لهذا فالحل الذهبي الذي قدمته السوشيال ميديا لا يكمن في توفير المنبر وحسب، إنما في أن كثيرًا هذه المنابر بدت وكأنها مصنوعة خصيصًا لكي تكون مجالًا حيويًّا للصور، الأمر الذي مثّل غنيمة كبرى لرسامي الكاريكاتير، ومن من بين هؤلاء صعد اسم فنان الكاريكاتير الأردني رأفت الخطيب، المقيم حاليًا في الولايات المتحدة، والذي أتيحت لنا في "الترا صوت" فرصة الحديث والحوار معه*:
- ما الذي يدفعك للرسم وما هي الرسالة التي توّد إيصالها من خلال الكاريكاتير؟
من الضروري التأكيد في البداية على أن الرسم شكل من أشكال التعبير الإنساني، أي أن أي فنان، أيًا كان نوع الرسم الذي يقدّمه، يمارس شكلًا من أشكال التعبير عن النفس. فالإنسان يعبّر عن نفسه بعدة طرق، والرسم إحداها. أما عند الحديث عن الرسالة التي يحملها الرسم، فهي إما أن تكون مقصودة، أي أن الفنان فكر برسالة معينة وأراد فعلًا أن ينقلها للآخرين عبر الرسم، وإما أن تكون غير مقصودة، بحيث يرسم الفنان عملًا ما ويترك تقدير الرسالة وفكها للمتلقي.
اقرأ/ي أيضًا: كارلوس لطّوف.. فنان حرافيش الثورة بلا منازع
بالنسبة إلي، فثمة بالتأكيد رسائل في قضايا معيّنة أهتمّ بأن أساهم بها خلال الرسم الكاريكاتيري، وهذا يعني أن شكل الرسالة والرسم يتأثر بطبيعة تلك القضية التي أرسم عنها. فأنا أولي اهتمامًا مبدئيًا بالشأن المحليّ، لكني كذلك أتفاعل طبعًا مع القضايا العربية، وبعدها العالمية، لكن تركيزي يتدرّج في أولوياته من الشأن المحليّ أولًا وصولًا إلى العالميّ. فعلى الصعيد المحليّ، عادة ما أرسم انطلاقًا من رغبة في تسليط الضوء على المشاكل التي تطرأ في البلد، الدفع نحو الإصلاح المطلوب لحلّ تلك المشاكل المزمنة. ليست وظيفتي بالطبع طرح الحلول، ولكني أستطيع عبر الرسم أن ألقي الضوء على مواطن الخلل وأساهم في زيادة مستوى الوعي بالإصلاح المطلوب، والقيم الرئيسية التي يلزم أن يتسم بها العمل العام، كمحاربة الفساد ومعالجة أسبابه من جذورها، ومواجهة العنصرية والطبقية، وهي مواضيع أهتمّ بها بشكل خاص وأعالجها في أعمالي.
هنالك موضوعات وقضايا يصعب الانفصال عنها، عربيًا وعالميًا، من ضمنها بالطبع القضية الفلسطينية، والتي تتقاطع بالضرورة من قضايا العنصرية والطبقية بأفظع صورها وأكثرها كارثية. فهذه معضلة لا بدّ من مقاومتها، وتسليط الضوء على بشاعتها اليومية.
اقرأ/ي أيضًا: حوار| المترجم البرتغالي هوجو مايا: أنا صياد يتصيّد الجنون
أما الدافع، فأجد أحيانًا بسبب طبيعة الأحداث وتسارعها وطبيعة التواصل مع الآخرين على وسائل التواصل الاجتماعي، أن الرسم قد يكون منطلقًا من استشعار مسؤولية ما تجاه المجتمع بحكم الانتماء العضوي إليه، كما يمكن أن يكون مدفوعًا برغبة طبيعية للتعبير بالشكل الذي يتقنه الرسام، بل قد تكون أحيانًا نابعة من غضب شخصي أو رغبة بالهروب من الضغوطات المختلفة، بما في ذلك ضغط العمل، والانشغال بأمر ذي معنى، مثل الفنّ، الذي يشكّل مساحة الراحة المثلى لي.
- من الاعتقال السياسي والتحول الديمقراطي، إلى الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، وقضايا البيئة والوباء، لا تبدو معظم رسوماتك تعليقًا على شأن محلي، وإنما على راهن عربي وإقليمي وأبعد. هل تعتقد أن هناك علاقة تجمع كل هذه القضايا؟ وما هو دور المقاربة الفنية في هذا الشأن؟
ربما أكون قد أجبت بشكل غير مباشر أعلاه عن الشق الأول من السؤال. هنالك قيم أساسيّة يسعى الفنان للتأكيد عليها، تلك القيم التي تتعلق بحقوق الفرد الدستورية والإنسانية، حقه بالكرامة والمساواة، حقه بالمشاركة السياسية، والحق في العدالة الاجتماعية. هذه القيم وغيرها تحاول مقاومة الانجرار نحو قضايا قد تبدو ذات أولويّة حقوقية عاجلة من منظور معولم، مثل قضايا المثليّة الجنسية والتحوّل الجنسي وبعض الجوانب المتعلقة بحقوق المرأة، إلا أنّ مقاربتها أحيانًا قد تشكّل صدمة للإنسان العربي في الأوضاع القائمة حاليًا، والتي تتسم بالحرمان من الحقوق والحريّات الأساسية، في مشهد عربي عام يبدو كارثيًا، ولا يكاد ينفصل بحال عن كارثة الاحتلال الصهيوني لفلسطين، المدعوم من الولايات المتحدة عسكريًا وسياسيًا وماديًا. لذلك أنا لدي أولويات في الانفعال مع القضايا والتعبير عنها، وأولي أولية للمحلي والعربي، وأعتقد أن نجاح الرسام يعتمد على كيفية ترتيبه لهذه الأولويات، دون أن يهمل المقاربة الفنيّة التي تحدّد نجاح الفنان وتميّزه.
هذه المعادلة صعبة وقد تكون معقّدة، وذلك لأن حسابات الفنّي يجب أن لا تتعارض مع المبدئي. ولنأخذ مثلًا التعامل مع الأخبار التي تردنا من فلسطين. هنالك رسومات كثير تعبر عن القضية، بعد تنفيذ عملية من أحد المقاومين، أو عند هرب بعض الأسرى كما حصل مؤخرًا مع عملية سجن جربوع، أو سقوط شهيد، أو اقتحام إسرائيلي للمقدسات أو اعتداء على بيوت الفلسطينيين وهدمها. هذه الوقائع تستحق مقاربة فنية لائقة، كي تصل إلى الإعلام وتؤثر في الرأي العام. لكن من المهم أيضًا عدم تجاهل أهمية التعبير عن الشارع، وتفهّم غضب الناس أو إحباطهم أو حزنهم أو خوفهم أو أملهم. الهدف هنا قد يكون ببساطة ليس تقديم رسمة "عظيمة" بالمستوى الفني، ولكن رسمة "تفشّ الغلّ" حسب التعبير المحلّي، أي أنها تضرب على الوتر من دون تكلّف ولا مبالغة.
- ولكنك أشرت إلى أنّك أحيانًا ترسم لك
أشعر أحيانًا أنني إذا رسمت خمس رسمات، فإن ثلاثة منها تكون للجمهور، واثنتين لي. أي أني أرسم للتعبير عن قضية عامّة ما، محلية أو عربية، لكن هنالك رسمات هي تعبير عن شخصي أنا، رؤيتي للظواهر أو الأحداث، أو فكرة لمحت لي، أو موقف أثر بي. هذه رسمات قد لا أصنفها بفئة الكاريكاتير السياسي، ولكني لست مسؤولًا حينها عن تفاعل الجمهور معها والمعاني التي يمكن أن يستنبطها منها. هنالك رسمة رسمتها مؤخرًا، هي بصمة أصبع وفي داخلها شخص يغرق وهو رافع يده إلى الأعلى. تلك الرسمة كانت تعبيرًا عن وضع جديد وجدت نفسي به، وتجربة جديدة في الولايات المتحدة حيث أعيش الآن، فأتت تلك الرسمة تعبيرًا عن أزمة أو قلق شخصي. لكن ثمة من فهم منها معاني أوسع من منظور مختلف.
- كيف ترى مستقبل الكاريكاتير في ظل الانحسار المستمر للصحافة التقليدية؟ هل تلعب وسائل التواصل الاجتماعي دورًا بديلًا عن هذه الصحافة بالنسبة بالنسبة لرسامي الكاريكاتير المعاصرين؟
أنا في الواقع لست جزءًا من مشهد الصحافة التقليدية، ولم أدخل في مطحنتها، ولست رسامًا مخضرمًا انخرط في هذه التحوّل وتأثر به بشكل مباشر، مثل الرسامين من الجيل الأكبر مني، كعماد حجاج وناصر الجعفري وغيرهم، والذين يعرفون تمامًا معنى أن تكون تحت ضغط العمل اليومي في مؤسسة صحفية. أنا أنشر رسوماتي بشكل أساسي على وسائل التواصل الاجتماعي، والناس يتابعون عملي على حساباتي، لأني لا أرسم بشكل حصري لصحيفة ورقية أو رقمية معينة. وقد منحني ذلك قدرًا أعلى من الأريحية بعيدًا عن قيود العمل الرسمي، وبالتالي فإن ما أرسمه غير مرتبط بمتطلبات عمل رسمي ولا يشكل حاليًا مصدر دخل أساسي لي، وذلك لأني أعمل في مجال مختلف عن الرسم الكاريكاتيري.
هذا الوضع الخاص، والذي يزداد شيوعًا مؤخرًا، خاصة مع الشروط التي تفرضها منصات التواصل الاجتماعي، قد غيرت بشكل جذري من طبيعة التواصل بين الرسام والجمهور. فصناعة المحتوى تأخذ أشكالًا مختلفة، عبر المنصات المتعددة، والتي تضمن وفق شروط معينة قدرًا كبيرًا من الانتشار والوصول، وهو ما يجعلني أتحفّظ على حالة التحسّر على وضع الصحافة التقليدية، والتفكير بدل ذلك بمتطلبات هذا الواقع الجديد الذي فرضته وسائل التواصل الاجتماعي ومنصات النشر الإلكتروني والتكيّف معه.
- إذن هل تشعر أن هناك مساحة منفلتة من الرقابة في وسائل التواصل الاجتماعي أم أن الأمر لا يختلف كثيرًا بالنظر إلى سياسات مراقبة المحتوى التي بدأتها هذه الشبكات في السنوات الماضية؟
الرقابة على وسائل التواصل الاجتماعي موجودة، لكنها اختلفت واتّسعت. فهي قائمة بالشكل التقليدي الذي نعرفه، غير أنها أيضًا باتت اليوم تشمل رقابة الجمهور وضغطهم وتوقعاتهم، وهذا يشكّل متغيّرات لا تقلّ في تأثيرها السلبي أحيانًا عن الرقابة التقليدية، بل وقد تكون أشدّ إيلامًا. يحدث هذا بصور مختلفة، كاستنزاف الفنّان اليوميّ عبر افتراض قدرته على التعبير عن كل شيء وتقييمه بناء على هذا الافتراض، بل ومحاكمته في حال تخلّف أو تأخر عن الرسم حول قضيّة ما، أو رسم عنها من منظور نقدي مختلف، ولاسيما مع القدرة الهائلة لوسائل التواصل الاجتماعي على التجييش والجلد العام. إذ يحدث أن يتجاوز النقد هدفه ومداه المعقول، حتى يتحوّل إلى ما يشبه حملات منظمة تنضوي على قدر كبير من المبالغة والإساءة. وقد تعرضت لذلك في موقفين سابقين، ووجدت أن الغضب الذي يصبّه الجمهور على الفرد بسبب خطأ قد يكون غير مقصود أو عفوي، يفوق الاحتمال والتصوّر، ولكن هذه طبيعة السوشال ميديا، ولا بدّ من التعامل بذكاء معها، وإن كنت لا أفلح دومًا في ذلك، فهذا تحدّ صعب.
- ما الذي تطمح إليه كفنان عربي شاب في المستقبل؟
هنالك إجابة لا أجد سبيلًا لعدم تكرارها، وهي أني أطمح إلى الوصول إلى جمهور أكبر وأوسع، وأن يكون لرسوماتي تأثير أوسع بالرأي العام، وعلى نحو يحمل إمكان التأثير على عمليات رسم السياسات وصنع القرارات، ولاسيما فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، والتي يرتبط بها الكاريكاتير بشكل وثيق تقليديًا منذ عقود طويلة، وأعتقد أن هذه العلاقة دخلت في طور جديد في عصر السوشال ميديا، والتي يمكن أن تمنح الزخم للأصوات التي تدافع عن عدالة هذه القضيّة، رغم التضييقات والقيود المعروفة. أعمل كذلك على فكرة كتاب يدوّن رسوماتي على نحو أكثر اتساقًا ومنهجية، مع العناية بتوثيق عدد من الأحداث المتعلقة بفلسطين. غير أن المشروع الأهم بالنسبة إلي هو أن أحظى بفرصة إقامة معرض شخصي، يكون لي فيه كتابي الأول، وأحلم أن ينعقد هذا المعرض يومًا في بلدي الأردن. وأنا إجمالًا أركّز جهودي حاليًا لأحقق قدرًا أكبر من الوصول على أكثر من مستوى، سواء مع الجمهور أو المؤسسات أو الفنانين من دول مختلفة.
- هل يتميز الكاريكاتير من وجهة نظرك عن الفنون الأخرى من ناحية قدرته على التعبير المباشر والفوري عن قضايا سياسية يومية وراهنة؟
بالتأكيد، ربما بسبب ثلاثة عناصر تحرك الكاريكاتير السياسي وتعطيه هذه القدرة التعبيرية المكثفة، وأول هذه العناصر هي الموضوع الذي يتناوله الرسم، والثاني هو قوة المفارقة التي يحاول الرسام الاستثمار فيها لخدمة رسالته، والعنصر الثالث هو مقدار اقتراب الرسم من إحساس الشارع، وهي عناصر لو توفرت فإنها تضمن نظريًا نجاح العمل الفني، وبالتحديد العنصر الثالث. فالكاريكاتير يتميز دونًا عن الفنون الأخرى بأن شكل من التواصل الموجز والمكثف مع الشارع، وفيه اشتباك مع قضاياه اليومية، سواء الجادّ منها أو العادي.
- يعرف تاريخ الصحافة العربية فناني كاريكاتير كان لهم بصمة كبيرة في الشأن السياسي. هل هناك من تأثرت به أو ألهمك على نحو خاص؟
أول من تأثرت به فعليًا وألهمني بشكل خاص كان فنان الكاريكاتير اللبناني حبيب حداد، المقيم حاليًا في فرنسا، وأعتقد أن كثيرين من الرسامين من جيلي قد تأثروا به، نظرًا لعمره وتجربته. هذا على المستوى العربي. هنا في الولايات المتحدة، تأثرت بفنان أتابعه منذ فترة طويلة، وقد توفي مؤخرًا بعد معاناة مع المرض، واسمه ريتشارد طومسون، وهو فنان صاحب تجربة فريدة، أعماله تجمع بين العبقرية والبساطة، أو هي تجسيد للبساطة العبقرية بأجمل صورها. أحب أيضًا أعمال الفنان الإيطالي ماركو دي إنجلز، ويعجبني أسلوبه وطريقته، وهو يعد حالة متميّزة جدًا في إيطاليا. لكن لا يفوتني طبعًا أن أذكر أنني تعلمت الرسم أول ما تعلمته على يد أبي، أحمد الخطيب، وهو فنان تشكيلي، وقد تأثرت به كثيرًا، وكان له الفضل عليّ في تعليمي كيف أمسك القلم وأصنع منه شيئًا، وله فضل كبير علي بمسيرتي في هذا المجال.
* تم تلقي الإجابات مسجّلة صوتيًا وتم تفريغها وتحريرها واختصارها بالشكل الأنسب للقراءة.
اقرأ/ي أيضًا:
الرسم والكتابة في تجربة أفونسو كروش
آية منصور: أن تخاف أمرٌ طبيعي في العراق
حوار| المؤرخ شكري عرّاف: التحدي الأكبر هو ألّا تقبل أن تراهم يلغونك