أعتقد أن إحدى المشكلات التي تنطوي عليها الكتابة العربية هي البحث عن الأصل، والوقوف عنده. إنها كتابة، غالبًا، مساطة بالتاريخ: البداية، التطور، المستقبل.. إلى ما هنالك. نتذكر البحث المرير عن أصل لقصيدة النثر العربية، إبان ظهورها، عن أب تراثي: النص القرآني أحيانًا، والنفري أحيانًا أخرى. ولم تزل الرواية العربية تبحث في المقامة والسير وألف ليلة وليلة وباقي المدونات العربية التي تنطوي على حكاية أو ما يشبهها، أو حدث ولو كان ضئيلًا، لعلها تجد فيه شرعيتها، وعندما لم تجد لها أبًا عربيًا تراثيًا حقيقيًا، أقرّت أن نجيب محفوظ هو ذلك الأب.. وهكذا.
الكتابة "الشجرية" تنطلق من بنية، من نسق، وتؤسس لبنية، لنسق. فيما الكتابة "العشبية" تطفح، وتنتشر كالرائحة، إنها لا تؤسس أنساقًا
ويمكن القول، أيضًا، إن الفن التشكيلي، بوصفه كتابة لونية، اقتنع منذ البداية بعدم وجود أب عربي، فاعتبر نفسه ابنًا مطيعًا ومخلصًا لكل الآباء الذين مروا في العالم، والذين تسمت بأسمائهم مذاهب، ولا يجوز للتشكيلي العربي أن يتجاوز أي مذهب، فأضاف إلى مذاهبه الفقهية (مالكي ـ حنفي ـ شافعي ـ حنبلي ـ أرثوذوكسي ـ بروتستانتي..) مذاهب فنية: مذهب سوريالي ـ مذهب تجريدي ـ مذهب تعبيري..) فيما بقي الفن: ابن الهواء والبراري والسهوب، المهاجر الذي لا يستقر، يئن داخل تلك المذاهب، محاصرًا بعلب الألوان الجافة.
اقرأ/ي أيضًا: اضمحلال "ثقافة الآخر"
زرعت الثقافة العربية في دماغ الكتابة مفهوم البذرة، وذلك من حيث كونها الأصل الذي تنبت منه الشجرة وفروعها.. كل شيء في الثقافة العربية شجرة: شجرة المعرفة، شجرة العائلة، شجرة الأنبياء، وبالتالي فإن الكتابة فُصّلت على هذا المقياس: كتابة شجرية: جذر، ساق، فروع، قمة. إنها تاريخ كامل: ماض، حاضر، ومستقبل.
الكتابة العربية كتابة نسق، بنية، كتابة تكشف عن نفسها أنها تتشكل مثل الشجرة تمامًا: البذرة تعني الساق، الجذع، الفروع والأغصان.
فيما يمكن أن ننحاز للعشب الذي لا ينمو وفق مخطط مسبق، بل على شكل طفح، يمكن أيضًا أن نستند، تأويليًا، على قول هنري ميلر: "لا يوجد العشب إلا بين مجالين واسعين غير مزروعين. إنه يملأ الفجوات.. إنه ينمو وسط الأشياء الأخرى. فالوردة جميلة والكرنب نافع والخشخاش شديد الإثارة، غير أن العشب عبارة عن طفح، إنه درس في الأخلاق".
هكذا، فإن الكتابة، كما يمكن أن تكون، لا تنطلق من أصل، بل تظهر "بين". الشعر يظهر بين المعارف، وسط الفراغات التي تخلّفها اللغة أثناء تشكلها كمعرفة. إنه كالعشب تمامًا، ينبت "بين" إنه، كالعشب، طفح.
المسرح، كذلك، لا يوجد عبر الملاسنة بين الشخصيات الموجودة على الخشبة، ثمة ملاسنة بين كل الناس، تجدها في الشارع، في المقهى، في المنزل، وعلى المقبرة، المسرح يوجد بين الشخصيات، بين الخشبة، والجمهور، بين الشخصيات والخشبة، في هذا الفضاء الصامت الذي لا يتكلم، لكنه، في الوقت ذاته، يقول الكثير.
الكتابة "الشجرية" تنطلق من بنية، من نسق، وتؤسس لبنية، لنسق.. فيما الكتابة "العشبية" تطفح، وتنتشر كالرائحة، إنها لا تؤسس أنساقًا، هي كالهواء.
هومي بابا والتوجه ما بعد الكولونيالي استفاد من /أو تقاطع مع فكرة الـ"بين" هذه، وإن كان في منحى آخر، فهو يعتبر أن سؤال الثقافة ينطلق من الحدود البينية: بين ـ قوميات. بين ـ حضارات، بين ـ وضعيات معرفية.. الخ، ويعتبر أن تلك الحدود تتجاذب لتشكل فضاء ثالثًا صالحًا/ أو هو الصالح لسكنى العالم. هذا الفضاء أسسه اللسان المهاجر الذي اخترق الحدود المعرفية المزعومة لثقافة المتروبول الغربي، وأسس لثقافة لم تكن معهودة قبلًا: لا للمتروبول ولا للمهاجر ذاته، وذلك عبر التقاء ثقافة المهاجر التي حملها من بلده الأصلي وثقافة المركز الذي هاجر إليه.
لا نقصد، ولا يقصد التوجه ما بعد الكولونيالي، باللسان المهاجر الذي أسس لتلك الثقافة، أن هذه كتبت بلغة أجنبية عن ثقافة المركز، أي بلغة المهاجر الأصلية. فمن المعروف أن المهاجرين (أغلبهم) كتبوا بلغة البلد الذي هاجروا إليه (إدوارد سعيد في الولايات المتحدة، وسلمان رشدي في بريطانيا، كمثال، كتبا بالإنجليزية) إنما المقصود أنهم كتبوا بلسانهم الخاص ضمن اللسان العام ذاته، بدا وكأنه أجنبي. توني موريسون عرّفت، برأي إدوارد سعيد، على الطرائق التي يحوّل بها الكتاب مظاهر من خلفيتهم الاجتماعية الى مظاهر لغوية، ويعتبر أن هذه الخلفية الاجتماعية للكتابة تُحدث تشوهات والتواءات في اللغة.
حققت كتابة المهاجرين وجودًا شديد الفاعلية ورئيسًا لهم، الأمر الذي اضطر المركز الغربي ذاته أن يعتبر ذلك الوجود مكونًا حيويًا لوجوده هو ذاته
لقد حققت كتابة المهاجرين، ضمن تلك الاعتبارات، وجودًا شديد الفاعلية ورئيسًا لهم، الأمر الذي اضطر المركز الغربي ذاته أن يعتبر ذلك الوجود مكونًا حيويًا لوجوده هو ذاته، واضطره أن ينظر إلى نفسه على أنه، هو ذاته أيضًا، جزء منهم، وذلك على الرغم من كل الإقصاءات التي مارسها إزاءهم، وإزاء الثقافات الأخرى، مستندًا على تاريخ مبرمج لما سمي: النقاء العرقي والثقافي. لقد شككت تلك الكتابة بذلك التاريخ، وأثبتت بطلان هذا النقاء، وأن الثقافة لا تتكون "داخل"، بل "بين"، وعبر اللسان البيني/ المهاجر.
اقرأ/ي أيضًا: ثلاثة أسئلة حول الواقعية السحرية
تنطلق، في جانب آخر، من المستوى ذاته، ثقافة بلا مركز، بلا بحث متواصل عن أصل، ثقافة لا تشكل، لتخلقها المستمر، نسقًا. تنطلق دون بداية، ودون نهاية أيضًا، تنمو وسط التشكيلات الثقافية والاجتماعية، بين الصخور الراسخة، دون جذور، ولا ساق ولا فروع. وبعبارة أخرى: دون هم شجري. تنطلق عشبيًا، على شكل طفح، إنها الثقافة الشعبية.
اقرأ/ي أيضًا:
عبد الفتاح كيليطو في "الأدب والغرابة".. سندباد أدبي
رواية "مقبرة الفراشات" لسامي المقدم.. أعطه قناعًا وسيصدح بالحقيقة