خلال الحروب والمجاعات والأوبئة، تبرزُ مهنٌ وتخبو أخرى. في الفترة الأخيرة، أدّى الأطبّاء والممرّضون وخبراء الفيروسات دورًا مهمًّا لإنقاذ المرضى من الوباء المستجدّ، ولمع نجم الخيّاطين الذي أغرقوا الأسواق بالكمّامات والملابس الواقية وعلا شأن النجّارين صانعي التوابيت. طفتْ على السطح مهنٌ مهمّشةٌ، مثل حفّاري القبور وانطلقت دورات تدريبيّة في بلداننا تختصّ بهم لتطوير تعاملهم مع جثث ضحايا الكوفيد 19، وفق الضوابط العالميّة الجاري بها العمل.
المهنة كهويّة فرديّة وجماعيّة
صنّف ابن خلدون في كتابه المقدّمة الصنائع على أنّها وجه من وجوه المعاش "المعاش إمارة وتجارة وفلاحة"، وتصرف فيها الأفكار والأنظار ولهذا توجد غالبًا في أهل الحضر واعتبر حينها أن العرب أعرق في البداوة وأبعد عن الصنائع، لذلك تجدهم يتّجهون إلى مهن وحرف تتعلّق بالتجارة بسبب الثقافة الدينيّة المهيمنة على المجتمع.
في كتابه "إنسانيّ مفرط في إنسانيّته"، يؤكّد الفيلسوف الألماني نيتشه أنّ "المهنة هي العمود الفقريّ للحياة"
في كتابه "إنسانيّ مفرط في إنسانيّته"، يؤكّد الفيلسوف الألماني نيتشه أنّ "المهنة هي العمود الفقريّ للحياة". تؤسّس المهنة أو الصنعة خصوصيّة للفرد الذي يمارسها، قد تتوارث من جيل إلى جيل بالتعلّم أو بالقرابة العائليّة. تنتقل الصنعة من معلّم خبير إلى شابّ أو مراهق متدرّب. يسير نقل التعلّمات هذا بصفة تصاعديّة وعلى فترة طويلة، ويتضمّن استعمال الأدوات والتجهيزات والمهارات وطرق العمل. إنّها تشكيل للجسد والروح يهدف إلى خلق توافق بين ما يراه المتعلّم وما يحاكيه، أي فيما يتعلّق بالتقنيّ منه والتعبيريّ. تملك كلّ حرفة حركاتها ومفرداتها والأرغونوميا الخاصّة بها، وهذا ما يسمح للفرد بتأسيس هويّة خاصّة به تحدّد مركزه الاجتماعيّ والاقتصاديّ. كما يسعى أصحاب الصنائع إلى ترسيخ هويّات جماعيّة عبر تأسيس فيديراليّات أو نقابات أو جمعيّات خاصّة بمهنة ما، تسعى للدفاع عن حقوق منظوريها والتفاوض مع شركائها في المجتمع حول تحديد الضرائب أو تحرير وتقليص الأسعار أو الحصول على قروض ومنح حكوميّة أو غيرها.
اقرأ/ي أيضًا: ويكيبيديا تزدهر والسبب كوفيد-19!
العرب وركب المهن السريع
يذكرُ عالم الاجتماع عبد الرحمن بن خلدون أيضًا أنّ "تقدّم الشعوب والأمم مرتبط بتقدّم الصنائع فيها". كانت المهن تزدهر في أوج قوّة الحضارات، انطلاقًا من الحضارة الفرعونيّة إلى الفارسيّة والرومانيّة وغيرها. لم تشذّ الحضارة العربيّة الإسلامية عن القاعدة واستعانت بتلك الخبرات لبناء المدن وتصريف المياه والكيمياء والطبّ والكتابة والترجمة وفي كلّ مناحي الحياة، واستعان الأوروبيّون بالعرب الأندلسّيين خاصّة بمجال علوم الملاحة ما مكنّهم من استكشاف أراض وثروات جديدة. تواصل هذا الإرث بعد اكتشاف البترول في البلدان العربيّة في القرن الماضي، خاصّة في دول الخليج التي استوردتْ عمالة أجنبيّة من الهند والصين وأوروبا لتأمين حاجياتها. طوّرتْ بعض الدول العربيّة مثل تونس ومصر والمغرب قطاع المهن خاصّة في ميدان الصحّة، لكن بقيتْ هذه التجارب محتشمة.
خلقتْ الثورة الصناعيّة أواخر القرن التاسع عشر مهنًا جديدةً، وصارت تلك المهن تضمّ اختصاصات دقيقة مضبوطة بمعايير دوليّة وتكنلوجيّات عالية الدقّة. صرنا نتحدّث عن المهن الرقميّة الجديدة مثل مدير استراتيجيّات الاتصال الرقمي وتحليل البيانات الرقميّة ومواقع الإنترنت والتسويق عبرها. لكن ورغم ذلك بقي العالم العربيّ متخلّفًا عن الركب، والدليل على ذلك احتشام مشاركاتها في أولمبياد المهن التي تمثّل تجمّعًا دوليًّا يتنافس فيه شبّان من كافّة الدول في أكثر من خمسين صنعة معتمدة.
هُمِّشَ دور المهن طول التاريخ واعتبرت بعض المهن بدعة مثل تطويف الحجّاج في مكّة، وحرّم بعض الفقهاء مهنًا أخرى مثل تلك المتعلّقة بصناعة الخمور أو العمل في البنوك ذات الصيرفة غير الإسلامية وغيرها. من جهة أخرى، لا زالت الثقافة العربيّة تنفي اعتبار المهنة علمًا من العلوم التي يجب تثمينها.على سبيل المثال، لا يزال تلقين مهنة صيانة السيّارات يشبه تعليم الحلاقة، دون أخذ بعين الاعتبار لضخامة علم ميكانيكا وكهرباء العربات وعلاقته مع علوم أخرى متطوّرة. كما تحقّر العائلات التدريب المهنيّ وتجعل منه آخر حلّ لأبنائهم في صورة فشلهم في التحصيل الدراسيّ الذي يؤدّي إلى مهن أخرى "مرموقة" مثل الطبّ والهندسة والمحاماة والقضاء والخبراء المحاسبين، إلخ...
ساهمت المنظومة التربويّة والتعليميّة في هذا التهميش، لأنّها بنيتْ على الحفظ لا على الخلق والإبداع. وهذا ما يفسّرُ استماتة الكثيرين في الحفاظ على مهنهم وعدم تطويرها وتحيين مهاراتهم، كما يعجز أغلب من تكسد مهنته -أو من يعاني من حالة بطالة- على التأقلم مع صنعة جديدة واكتساب مهارات جديدة. كذلك تنعدم تقريبًا منظومات جديّة لإعادة تأهيل العاطلين وتدريبهم على مهن جديدة، وتوفير منح تشجّع المنتفعين بها على الانخراط فيها.
أولمبياد المهن وتثمين المهارات
تتسابق المهن كلّ زمان، هناك من صمدتْ ومن اندثرتْ تمامًا. تنتظمُ كلّ سنتين، ووفق ما يجري في الألعاب الأولمبيّة الدوليّة الرياضيّة، أولمبياد المهن. انعقدتْ آخر نسخة سنة 2019 بمدينة كازان الروسيّة بين 22 و27 آب/أغسطس 2019، وستنعقد الدورة القادمة في شنغهاي الصينيّة بين 22 و27 أيلول/سبتمبر 2021. نُظّمتْ أوّل دورة بالعاصمة الاسبانيّة مدريد سنة 1950.
احتضنتْ جولة عربيّة واحدة هذه التظاهرة، وهي الإمارات، في شهر تشرين الأول/أكتوبر سنة 2017. تتسابق الدول على الحصول على المراتب الأولى، لأنّ نتائج الأولمبياد تساعد في التعريف بأصحاب المهن في البلدان الفائزة وتثمّن القطاعات المشغّلة. يساهم ذلك في انعاش اقتصاديات البلدان الفائزة وتوفير شغل لمهنّييها برواتب قيّمة خارجها.
صرنا نتحدّث عن المهن الرقميّة الجديدة مثل مدير استراتيجيّات الاتصال الرقمي وتحليل البيانات الرقميّة ومواقع الإنترنت والتسويق عبرها
بطبيعة الحال، كانت المشاركات العربيّة محتشمة جدًّا عدا بعض الإنجازات المتفرّقة لبعض الدول مثل تونس والمغرب. جاءتْ فكرة أولمبياد المهن بعد انتهاء الحرب العالميّة الثانية، بعد أن افتقدتْ أوروبا أصحاب المهن والصنائع -المقتولين أو المجروحين- ما أنبأ بركود اقتصاديّ طويل. أشرف الإسبانيّ فرانشيسكو ألبرت فيدال على تنظيم أوّل نسخة، وكان التنظيم متواضعًا إذا ما قارنّاه بضخامة ما نشهده اليوم.
اقرأ/ي أيضًا: ليلة مصرع كوفيد التاسع عشر
يقول المثل اليهوديّ "من لا يمنح لابنه مهنة، يصنع منه سارقًا". حرّكتْ الحربُ العالميّة الثانية سباقًا حول تطوير المهن والصنائع، فهل ستعاود أزمة الكوفيد 19 بلورة رؤيا أخرى خاصّة في بلداننا العربيّة؟
اقرأ/ي أيضًا: