واحدة من مسوّغات النّقد للعمارة بوصفها تخصّصًا أكاديميًّا وممارسةً مهنيّةً هو استثناؤها لكلّ ما هو "غير جميل". كما تعلمون، تتغيّر المعايير التّي تركّب الجمال باختلاف الزّمان والمكان وبالتّالي تتغيّر الذائقة الفنيّة لتصنيف الجميل والقبيح وما بينهما. بالنّسبة للعمارة اليوم، فإنّ فهمنا لما هو جميلٌ منوطٌ بمفاهيم حداثيّة معولمة. كثيرةٌ هي العوامل التّي فرضت عولمتها، منها تاريخ الاستعمار والرّأسماليّة والثّورة التكنولوجيّة الرّقميّة. بالنّسبة لمعظم المعماريّين، الأكاديميّين منهم والممارسين، فإنّ "الجمال" ناتج من تقاطع مجموعة من المكوّنات، منها؛ الشّكل والقوام، والنّسبة والتّناسب، والدّيمومة، والاتّساق مع المحيط والطّبيعة، والتّقنية المستخدمة في البناء. وبالتّالي فإنّ غياب واحد من هذه المكوّنات عن أيّ عمران كفيل بنبذه خارج وصف الجمال.
بالنسبة للمختّصين في الشأن الحضري، للتّحليل التّاريخيّ للمدينة أهمّيّة كبيرة لفهم واقعها؛ به نفهم أصول تمدّدها، وتركيبتها السّكّانيّة، ومشاكلها الإداريّة
إنّ هذا النّبذ خطير لأنّه يرسم مسافةً جوفاء بين المعماريّ وكلّ ما يعتقد بأنّه غير جميل يعجز من خلالها عن تعريف المعطيات الاجتماعيّة والسّياسيّة التّي تنتج هذا الغياب. وإن يبتدئ هذا النّبذ بالعين، كأن يشيح المعماريّ ببصره عمّا هو غير لائق، فإنّه -عاجلًا أم آجلًا- يستولي على باقي حواسّه متجسّدًا في موقفه/ها الفوقيّ الرّافضٍ للتّعاطي مع هذا العمران. يترتّب عن هذا النّبذ إهمالٌ عادةً ما يُصدّر على أنّه إهمالٌ مشروع؛ يشرّعه فشل المخيّم في أن ينتسب إلى المنظومة الجماليّة التّي تروّج لها المفاهيم الحداثيّة المعولمة. وهو في الحقيقة إهمالٌ مشين، لأنّه ينطوي على تنصّل من مسؤوليّة يستوجبها ارتباط عمل المعماريّ بالفضاء العامّ. سواء اقتصر عمله على تصميم المساكن، أم طال ليعرّف مسائل ذات اتّساع حضريّ، فما ينتجه بحكم أدواته الفراغيّة يشكّل هيئة البيئة المبنيّة التّي تؤثّر على حياة النّاس وتصوّراتهم الباطنة عن المدينة.
قيل: إلّا المخيّم
في زيارة لإحدى الدّوائر الحكومية لاستخراج الأذونات الرّسميّة الضّروريّة لعبور بوّابات مخيّم الزّعتري والذّي كان موضوع البحث في رسالة الدكتوراة، سألني الإداريّ المسؤول عن إصدار هذه الأذونات، "إن كنت مهتمّةً بالشّأن الحضريّ بالفعل، فلمَ لا تدرسين المدينة؟ لم لا تحلّين المشاكل التّي تعاني منها المدينة؟". لم يفهم الإداريّ دواعي اهتمامي بدراسة المخيّم وعلاقتها المباشرة بالمدينة. في ردّي على تساؤله، اتّكأت على التّاريخ الذّي صاغ حال مدننا. أجبته: "وهل تعلم أنّنا لا نستطيع فصل نسيج مدننا الحضريّ عن نشأة المخيّم؟".
بالنسبة للمختّصين في الشأن الحضري، للتّحليل التّاريخيّ للمدينة أهمّيّة كبيرة لفهم واقعها؛ به نفهم أصول تمدّدها، وتركيبتها السّكّانيّة، ومشاكلها الإداريّة. العاصمة عمّان مثالًا، والانقسام الفظيع الذّي تشهده، ما هو إلّا شاهدٌ على حضور المخيّم في تاريخ مدننا المعاصر. يشترط فهمنا لنموذج المدينة الأردنيّة الاطّلاع على تاريخ النّزوح بطريقة تتجاوز القراءة الإحصائيّة والفهم الديموغرافيّ للأمور. أليس حريًّا بنا، إذن، أن نتدارك ما يمكن أن ينتج عن تجاهلنا لفضاء المخيّم بينما نحن نشهده كحاضر نعاصره؟
هذا التّعجّب الذّي أبداه الإداريّ ليس غريبًا؛ يغيب المخيّم -بوصفه فضاء مدينيًّا لا ينفصل عن جسم المدينة- عن مخيّلة كثير من الإداريّين الحكوميّين؛ فلا ضرورة تستوجب التّعريف به كجسم يتّصل بالمدينة. بالنّسبة لهم، فإنّ المخيّم ناتج خطأ تكتيكيّ. في زيارةٍ لوسط مدينة إربد خريف عام 2022، استقبلنا إداريٌّ عند دار السّرايا مقابل مبنى البلديّة هناك ليحكي لنا عن تاريخ دار السّرايا ومحيطها. في استعراضه لتاريخ دار السّرايا وتحوّلاتها الإداريّة، مرّ مرشدنا الإداريّ بتاريخ 1956 بحرج شديد. "في عام 1956 تحوّلت دار السّرايا إلى سجن"، عرض لنا المعلومة وكأنّها أمرٌ كان قد استعرّ منه؛ هفوةٌ تاريخيّة شرّيرة كادت لدار السّرايا هذا التّحوّل الوظيفيّ البشع والذّي لا يقبله هو فيذكره في سرده وكأنّه اعتراف كان قد أرغم على ذكره. "مو معقول هذا المبنى الجميل الذي يرقى إلى مستوى متحف أن يحوي المجرمين والمحكومين لذلك لم يطل استخدامه كسجن حتّى تحوّل إلى متحف مجدّدًا".
حينما انطلق للحديث عن تلّ إربد، أشار مرشدنا إلى كلّ ما يمكن الإشارة إليه من محيط التّلّ ما عدا ذاك الهامش العريض المستلقي على سفح التّلّ، مخيّم إربد. وإذا ما قاربنا ما بين استحيائه ذكر السّجن كمرحلة وظيفيّة في تاريخ دار السّرايا من جهة واستثناءه ذكر المخيّم كواحد من الأجسام الحضريّة المحيطة بتلّ إربد من جهة أخرى، سنجد أنّ المقصد واحد، ألا وهو التّكيّف مع الجماليات المدينيّة التّي تفرضها سرديّةٍ قوميّة لا تليق بها آثام المسجونين وعوز اللاجئين. في هذا السّياق، يعتبر السّجن والمخيّم مناظيم فراغيّة وإداريّة لا تنتسب إلى الجماليّات التّي تحتكم إليها المدينيّة.
قيل: إيّاك والمخيّم
على باب المخيّم، اكتشفت أنّ التّصريح الصّادر عن وزارة الدّاخليّة ما هو إلّا وثيقة عبور لمكاتب حكوميّة أخرى؛ تلاقفتني هناك مكاتب الأمن العامّ والأمن الوقائيّ والمخابرات هكذا حتّى خلصوا إلى ضرورة حضور شرطيٍّ يرافقني في جولتي البحثيّة داخل المخيّم. الغاية من هذه المرافقة هي حمايتي من خطرٍ محتملٍ. سألتُ الشّرطيّ وقتها، "لم ترافقني؟"، فأجاب، "نخافُ أن يتعرّض أحدهم لك". هذه الصّورة المتّصلّة بالمخيّم كمكان مرعب يحتمل إمكانيّة وقوع جريمة ليست جديدةً عليه.
في كتابها، ملاذات خطرة (2005)، تستشهد سارة كينيون ليستر، وهي الأستاذ المشارك بجامعة ويك فوريست، بكثير من النّزاعات التّي تسبّبت المخيّمات باستثارتها في أماكن مختلفة بالعالم وبالتالي أثر هذه الرّوايات على علاقة الحكومات المحلية بالمخيّمات الواقعة ضمن حدودها. الخوف من المخيّم، وممّن يقطنه، شرطٌ تقوم عليه عناصر الرّواية الأمنيّة الضّروريّة لا لحماية المواطنين فحسب بل لحماية الدّولة؛ فالمسألة هنا هي مسألة أمن قوميّ. دون شكّ، ساهمت الرّواية الأمنيّة في تشكيل مخيّلة شعبيّة خصبة تولّد من السّرديّات ما يبرّر هذا الخوف تعزّزها ديستوبيّة صورة المخيّم، بضيق حاراته واعوجاج طرقاته وتهالك بنيته التّحتيّة وعشوائيّة أسواقه. في هذه السّرديّات يوصم المخيّم بالفقر، والعنف، والتطرّف ثمّ ينبذ كمكان أقلّ حضاريّةً بناء على ذلك، لا لشيء بل لاحتمال همجيّةٍ يفرض واقع المخيّم مقوّماتها.
كيف يغيب مخيّم إربد عن حديث الإداريّين والمعماريّين في تعريفهم لتلّ إربد وكأنّه غير موجود، وهو ذو المساحة والتعداد السّكانيّ الذي يفوق مساحة تلّ إربد نفسه وتعداده السكاني
في سياق متّصل لزيارتنا لتلّ إربد، والآن من داخل المعرض في دار السّرايا، وقفت أمام صورةٍ جوّيّة لتلّ إربد جاءت تحت عنوان "التّراكم الحضاريّ". توضّح هذه الصّورة أعلى تلّ إربد ويقع عليها بناء عثمانيّ رصين حصين فيه من جماليّات البناء ما يعدّ فيطيل. أمّا بالنّسبة لقاع التّل، فالتفّت على حافّته طاولات ومظلّاتٌ قابلة للفكّ والتّركيب لبيع المواد والملابس والأدوات البالية. يعرف المكان بأنّه امتداد "سوق البالة". يعلّق أحد المارّة على كلمة تراكم حضاريّ، ويشير بسبّابته إلى أعلى التّلّ ثمّ إلى أسفله كما يبدو على الصّورة، قائلًا بتهكّم مبين، "هذا هو التّراكم الحضاريّ؟". يُوصف تلّ إربد بأنّه صناعيّ، ذلك أنّ الارتفاع الطّوبوغرافيّ لمنطقة التّلّ لم يكن يومًا تضريسًا طبيعيًا. بل هو نتيجة تراكم آثار حضارات كانت قد استوطنت التّلّ ومحيطه؛ تنسب كلّ منها إلى حقبةٍ حضاريّة مختلفة. يكرّر الإشارة بين أعلى التّلّ وأسفله عددًا من المرّات، مباينًا بين حضاريّة الماضي وحضاريّة الحاضر وكأنّه يقول، "شوفوا وين كنّا ووين صرنا!". سوق البالة الواقع على حافّة التّلّ يجسّد حافّةً جسمٍ آخر، وهو مخيّم إربد أسفل التّلّ. لا أعلم إن كان تعليق المارّ مبنيًّا على الإلمام بهذه المعلومة، لكنّه دون شكّ يؤشّرُ إلى تغييب للمنطق الذّي له أن يضع هذا الهامش في سياقه الحضاريّ المعاصر.
وأقول: إلّا المخيّم، إيّاك والمخيّم
إنّ الاختباء خلف الرّوايات ذات الصّياغات القوميّة داخل محافل علميّة -كزيارة الموقع- مريب جدًّا. حتّى وإن كان تغييب المخيّم عن هذه الرّواية هو أمرٌ غير متعمّد، إلّا أنّه يستلزم طرح التّساؤل التّالي: كيف يغيب مخيّم إربد عن حديث الإداريّين والمعماريّين في تعريفهم لتلّ إربد وكأنّه غير موجود، وهو ذو المساحة والتعداد السّكانيّ الذي يفوق مساحة تلّ إربد نفسه وتعداده السكاني؟ هذا الغياب منبئ بجهلٍ خطير تقنّعه معرفة زائفة بالحاضر والماضي. يبدو هذا الجهل جليًّا إذا ما أخذنا في عين الاعتبار النّظريّات التّي تدرس تطوّر الدّولة الحديثة. إنّ تفاعل مؤسّسات الدّولة سويًّا في مراحل مبكّرة من نشأتها هو ما يشكّلها. يقرن الفيلسوف ميشيل فوكو بناء الدّولة بمؤسّساتها والتّي لعبت دورًا ضروريًّا في صياغة نموذج الدّولة الحديثة، منها مؤسّسة السّجن على سبيل المثال. ينطبق هذا على بناء الدّولة الأردنيّة تزامنًا مع حضور المخيّم كمنظومة فراغيّة أيضًا. لذلك، فإنّ عزل فضاء المخيّم عن فضاء المدينة وادّعاء انفصالهما هو أمرٌ غير منطقيّ أصلًا.
أين هو المخيّم من التّراكم الحضاريّ الذّي تشهده مدننا، إذن؟ كثيرًا ما يميل الطّلبة لطرح أسئلةً مشابهة في حال دراسةِ المناطق التّي تُعتبرُ أنّها هامشيّة على المدينة. تحمل أسئلتهم في ثناياها نظرةً تشكّك في حضاريّة هذه المناطق بوصفها لا تنتسب لذات الجماليّات التّي تقدّمها لهم مساقاتهم الدّراسيّة والتّي تحتفل -على سبيل المثال لا الحصر- بالدّيمومة والنّظافة والخصوصيّة والفضاءات العامّة والواجهات اللمّاعة. على اختلاف المراجع التّي تؤسّس لمفهوم الحضارة، غالبًا ما يرتبط تعريفها بقدرة النّاس على "النّهوض" بأنفسهم. فينشغل الطّلبة في الحديث عن ضرورة "التّقدم" و"التّطوير" وكأنّ مداخلاتهم تستوجب توسيع طاقات هذه المناطق بشكلٍ يمكّنها من مواكبة المدينة بشروطها وظروفها. إنّ الاعتبارات التّي يصطلح عليها مفهوم "الحضارة" تتطلّب كثيرًا من التّغافل عن المعطيات التّي يقدّمها الواقع والتّي جعلت من الصّعب على قاطني هذه المناطق أن يكونوا جزءًا من مراكز مدنهم لتدفع بهم أوّلًا وأخيرًا إلى هامشها. عزوفًا عن الرّوايات الكبرى عن النّهوض والتّقدّم، دائمًا ما أدعو طلبتي للنّظر في روايات أخرى… مثلًا، يجسّد سوق البالة حركة الاقتصاد غير الرّسميّ الذّي يرفع أعمدة كثير من البيوت في المخيّم. أليس أجدر بنا أن نفهم قصّة النّهوض الذّي تمثّله قصص الأفراد منفردةً لنعيد صياغة ما هو حضاريّ وفقًا لمعطيات واقعنا؟