نشرت صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية، الثلاثاء الفائت، تقريرًا يستعرض، بإيجاز، تاريخ المسجد العمري الكبير في مدينة غزة وأبرز محطاته. وينطلق التقرير من تدمير الاحتلال الإسرائيلي للمسجد في كانون الأول/ديسمبر 2023، إثر غارة جوية استهدفته مباشرةً.
يُعد المسجد أحد أبرز المعالم الأثرية المتضرّرة من العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة. وبحسب التقرير، فإن المسجد يجسد تاريخ غزة المتشابك والمتفرد وشديد الثراء، خاصةً أنه يُعتبر الأقدم في المنطقة وشاهدًا على حضارات/إمبراطوريات مختلفة مرّت على غزة. وقد تعرّض للتدمير وأُعيد بناؤه عدة مرات، سواء عندما كان معبدًا وثنيًا، أو حين أصبح كنيسة، أو بعد تحوّله إلى مسجد عقب الفتح الإسلامي للمدينة في القرن السابع.
ولا يُعتبر المسجد مجرد رمز ديني فقط، وإنما رمز للصمود لدى أهالي غزة الذين يقولون إنهم لم يفقدوا بتدميره جزءًا مهمًا من ماضيهم فقط بل من حاضرهم أيضًا، إذ لعب المسجد دورًا مركزيًا ومحوريًا في حياة الغزيين على مدار قرون عدة، وهو ما يتجلّى في الصور والرسومات المُنجزة من قِبل رسامين ومصوّرين أدركوا أهمية ومكانة المسجد في ماضي وحاضر غزة.
لعب المسجد العمري دورًا مركزيًا ومحوريًا في حياة أهالي مدينة غزة على مدار قرون عدة
ويُشير التقرير إلى أن موقع المسجد كان في الأصل مكانًا للعبادة منذ آلاف السنين، إذ كان في البداية معبدًا رومانيًا وثنيًا بنى البيزنطيون على أنقاضه كنيسة مسيحية في القرن الخامس، قبل أن تتحول الكنيسة إلى مسجد بعد الفتح الإسلامي لغزة.
وفي عام 1100، عندما وقعت المدينة في أيدي الصليبين، دُمِّر المسجد وبُنيت فوق أنقاضه كنيسة ستتحوّل، مرة أخرى، وبعد استعادة المسلمين السيطرة على المدينة في القرن الثاني عشر، إلى مسجد.
وتعرّض المسجد خلال القرون التالية ما بعد استعادة المسلمين للمدينة لأضرار جسمية إما بسبب الحروب أو الزلازل. ولكنه، مع ذلك، شهد عدة عمليات إعادة بناء وتوسيع مستمرة على يد المماليك أولًا ثم العثمانيين لاحقًا، حيث أضاف المماليك رواق حجري ومئذنة مثمنة الشكل للمسجد، بينما أضاف العثمانيون جدرانًا جديدة إلى الفناء.
واشتُهر المسجد بمكتبته الضخمة بما تحتويه من مخطوطات إسلامية قديمة، ونصوص دينية وأدبية واجتماعية وسياسية. وقد دُمِّرت المكتبة وجزء كبير من المسجد من قِبل البريطانيين خلال الحرب العالمية الأولى، وتحديدًا في عام 1917. وزعم البريطانيون في حينها أنهم كانوا يستهدفون مستودع أسلحة للعثمانيين داخل المسجد.
وبعد نحو عقد، أُعيد بناء المسجد بما في ذلك المكتبة والمئذنة في إطار عملية ترميم حافظت على النسيج التاريخي للمسجد. وبينما يشير بعض الباحثين إلى أن الأعمدة الداخلية أُنقذت وأُعيد استخدامها وربما كانت أصلية قديمة من العصر الروماني، يستبعد آخرون ذلك مشيرين إلى أنها جديدة تمامًا وتحاكي النمط الروماني فقط.
ولعب المسجد، سيما الباحة الخارجية، دورًا يتجاوز الصلاة والعبادة. ويقول المؤرخ الفلسطيني جهاد أبو سليم الذي نشأ في غزة إن الباحة لم تكن مكانًا للصلاة فقط، بل لتبادل الأفكار والاحتفال بالحياة أيضًا بالنسبة لأهالي غزة.
وأثار تدمير "إسرائيل" للمسجد حزن أهالي مدينة غزة لكونه لعب دورًا محوريًا وأساسيًا في حياتهم على مدار عدة قرون. وأظهر تدميره استخفاف "إسرائيل" بجميع الاتفاقات الدولية، سواء تلك المتعلقة بالإنسان أو المواقع الثقافية والتراثية.
وفي مرافعته أمام محكمة العدل الدولية، أشار الفريق القانوني الجنوب إفريقي إلى أن إزالة المواقع الثقافية، وبينها المسجد العمري، هو جزء من حرب الإبادة الجماعية التي تشنها "إسرائيل" على قطاع غزة.
وقال إسبر صابرين، رئيس منظمة التراث من أجل السلام، وهي منظمة غير ربحية تعمل على تعزيز حماية المواقع الثقافية، إن إعادة بناء المسجد العمري يجب أن تكون أولوية عندما تبدأ عملية الإعمار الترميم في قطاع غزة، مؤكدًا أنه: "ليس مجرد مكان. إنه ذاكرة شعب بأكمله".
وتكمن أهمية تقرير الصحيفة الأميركية في الصور والرسومات التي تصوّر المسجد العمري، وتعود لعدة قرون، وتغطي مراحل مختلفة من تاريخه.