دخل مفهوم "المصالحة الوطنية" إلى العراق بعد عام 2003 بشكل قوي، وأصبح الجميع يتداوله، ونشرات الأخبار عجّت به، خاصة مع تولي رئيس الحكومتين السابقتين نوري المالكي ولايتيه 2006 - 2014. كان زعيم ائتلاف دولة القانون (المالكي)، كثير اللقاءات بشيوخ العشائر ورجال الدين، كما كان "يبذخ" بتقديم المنح والهبات لهم من موازنة الدولة بحجة "المصالحة"، فيما كانت الغاية الأساسية من وراء ذلك، شخصية. مثله كان بقية الساسة.
لا يُمكن أن تُعد أو تُحصى الأموال التي صُرفت على "المصالحة الوطنية" في العراق
تعتبر "المصالحة الوطنية" جزءًا من ملف "العدالة الانتقالية" الذي يُشير إلى مجموعة التدابير القضائية التي تُتخذ في البلدان التي تشهد تحولًا من نظام ديكتاتوري قمعي إلى نظام ديموقراطي، تكون الدولة ومؤسساتها في خدمة المجتمعات، وتُعزز فيه روح المجتمع نحو خلق بيئة إيجابية للتعايش.
لا يُمكن أن تُعد أو تُحصى الأموال التي صُرفت على "المصالحة الوطنية" في العراق، رغم ذلك كُنا نُمني النفس بالقول: "لا أهمية للمال أمام المصالحة"، لكننا بالنتيجة لم نحصل لا على "المصالحة" ولا المال. إن السبب الرئيسي لفشل هذا المشروع في العراق، يكمن في عدم إيلاء الكتل السياسية أية أهمية له، وإعطاء صلاحية تنفيذه لأشخاص غير متصالحين مع أنفسهم أساسًا، ولا يمتلكون القدرة ولا الكاريزما على إقناع الأطراف التي تشملها المصالحة للجلوس على طاولة واحدة.
لذا، بدا واضحًا للجميع، أن السياسيين العراقيين غير قادرين طيلة السنوات الـ13 التي عقبت دخول القوات الأمريكية للبلاد، أنهم غير مقتنعين أساسًا بفكرة إقامة "مصالحة" حقيقية، تنقل المجتمع من مرحلة تحميل بعضه مسؤوليات ما آلت إليه الظروف، خاضة الحرب الأهلية التي نشبت عام 2006.
اقتصر عمل لجان "المصالحة" على عقد مؤتمرات وندوات تُصرف فيها ملايين الدولارات، وإعلانات في وسائل الإعلام لا تقل كلفة عن الآليات التي سبقتها، فيما غيبوا الشخصيات الأكاديمية ذات القدرة على وضع منهاج يحصد نتائج إيجابية. كما أن عدم الاستعانة بخبرات دولية من دول نجحت فيها المصالحة مثل جنوب أفريقيا وتشيلي والأرجنتين، دفع أكثر بهذا الملف إلى الفشل.
تحتاج المصالحة إلى: 1- وجود بيئة خصبة للمصالحة؛ 2- قادة مجتمع وسياسة مؤمنين بالمصالحة؛ 3- معرفة المشكلة وأسبابها وإعطاء الحلول؛ 4- القبول بفكرة التعايش مع الآخر؛ 5- احترام الضحية، وتقديم الجلاد للمحاسبة؛ 6- ثقة الأطراف ببعضها؛ 7- الاتفاق على هوية جامعة.
لن تكون هناك "مصالحة وطنية"، ما لم يبعد أهل السياسة أتباعهم عن تنفيذ هذا الملف
الأشخاص الذين عينوا في مناصب تنفيذية للجان المصالحة الوطنية، وكمستشارين لرئيس الحكومة السابقة لهذا الملف، كانوا غير مؤهلين لتسنم مهام إجراء مصالحة بين أطراف تدور في بالها فكرة إنهاء الآخر المختلف، لأنهم ببساطة كانوا يمثلون أحزاب سياسية وطوائف جزء من هذه الأزمة، لذا كان الرفض مستمر من قبل الآخرين. وبدلاً من أن يعمل هذا الملف على مساعدة العراقيين لتلتئم جراحهم وتحقيق العدالة الحقيقية، زادها، من خلال انتقائية التعامل مع الأشخاص المشمولين بالمصالحة من غيرهم. مثلًا، أن الكتل السياسية وخلف الكواليس، دارت بينها اتفاقات دون الرجوع للمؤسسات المعنية بملف العدالة الانتقالية، وقامت بمحاسبة شخصيات بطرق غير قضائية و"العفو" عن شخصيات كان ملفها مبنيًا على أصوات الضحايا.
لن تكون هناك "مصالحة وطنية"، ما لم يبعد أهل السياسة أتباعهم عن تنفيذ هذا الملف، والدفع بخبراء دوليين ومحليين قادرين على رسم خطة ميدانية تثقيفية حقيقية غير المؤتمرات والبذخ على شيوخ العشائر ورجال الدين الذين كان بعضهم مصدرً لمأساة البلاد غير المنتهية.
في المحصلة، المصالحة لن تكون إجبارية، ولن تنفع الأموال والمؤتمرات وغيرها، ما لم يكن هناك قناعة تامة بالعيش مع المختلف مهما كانت الانتماءات، والإيمان بهوية مشتركة جامعة، وشجاعة من قادة المجتمع للاعتراف بأخطاء الماضي.
اقرأ/ي أيضًا: