كثيرًا ما نسمع في الخطابات الرسمية التي يلقيها المسؤولون، عن المهمشين، والتي تدور في مجملها حول تحسين أوضاع المهمشين معيشيًا وخلق الظروف المناسبة التي تسمح لهم بالمشاركة الفعالة في المجتمع والاندماج في الحياة العامة.
المهمشون هم الفئة الاجتماعية الأشد فقرًا، وهم المحرومون من أي شكل من أشكال التنمية وغير المخول لهم المشاركة في صنع القرارات
كما أنهم، أي المهمشين محور الدراسات التي تتناول الأسباب التي أدت إلى اندلاع الثورات في البلدان العربية، لا سيما وأن هذه الثورات لم تكن على جدول أعمال ولا من الأهداف القريبة أو البعيدة للأحزاب والنخب السياسية المعارضة في بلداننا العربية، وذلك على الرغم مما تمثله تلك الانتفاضات والثورات من عمل سياسي محض، يهدف في جوهره إلى قلب الأوضاع السياسية والاجتماعية التي خلقتها الطبقات الحاكمة في تلك البلدان العربية على مدار عقود من الاستبداد السياسي والنهب الاقتصادي والتجريف الاجتماعي، والذي أوصل بدوره أغلبية المجتمع لأقصى درجات التهميش والعوز والحرمان.
اقرأ/ي أيضًا: ما لن تراه إلا في المساكن الشعبية
المهمشون هم الفئة الاجتماعية الأشد فقرًا واستبعادًا من مجمل أنشطة المجتمع، وهم المحرومون من أي شكل من أشكال التنمية، وغير المخول لهم المشاركة في صنع القرارات، سواءً كانت هذه القرارات محلية تتصل بحياتهم المباشرة، أو قرارات عامة تخص المجتمع برمته، فهم يعيشون على هامش المجتمع، ويقضي أفرادهم جلّ أوقاتهم في العمل تحت أي ظروف، وبشكل قصري في بعض الأحيان، وفي أي نوع عمل، بهدف واحد: هو الاستمرار في الحياة، ومنع تدهور أوضاعهم المعيشية لما هو أسوأ من أن يكونوا مهمشين، وهو أن يصبحوا مشردين، أي بدون مسكن.
وبحسب إحدى التقارير الصحفية، توسع في تعريف المشردين، فتعتبر أن سكان القبور من المشردين، فإن في مصر 12 مليون مشردًا. في حين أن أعداد المهمشين والخاضعين للإقصاء الاجتماعي في مصر، بعشرات الملايين، ويمكن معرفة وفهم ذلك عن طريق معادلة حسابية بسيطة وهي أن نطرح عدد الحكام والمسؤولين (الحكام هم الأشخاص الذين يتمتعون بسلطة اتخاذ القرارات من أول رئيس الجمهورية وحتى المحافظين وكبار الموظفين بالدولة والمؤسسات والمصانع والضباط والمستشارين ورجال الأعمال) من عدد السكان، والرقم الذي سيخرج كمحصلة لهذا الطرح هو تعداد المهمشين، ولو بدرجات متفاوتة.
لم تكن الثورات في 2011 على جدول أعمال ولا من الأهداف القريبة أو البعيدة للأحزاب والنخب السياسية المعارضة في بلداننا العربية
المهمشون لا يسكنون الشقق الواسعة والفيلات الفارهة، و ليسوا من رواد الأسماء العالمية للملابس والاكسسوارات، ولا يمارسون الرياضة، ولا يترددون على المطاعم وأماكن الترفيه، لكنهم يشاهدون كل ذلك في التلفاز الذي هو المنبر الدعائي للنظام داخل كل منزل، والذي يمنيهم بالفردوس المفقود في واقعهم البائس، عبر مشاهد الثراء والإثارة التي تبث على مدار 24 ساعة، والتي ترسخ بدورها في أذهانهم الخضوع للحكام وأفكارهم الرجعية بالشكل الذي يسمح للأنظمة والحكومات الرجعية والاستبدادية بالاستمرار في الحكم.
فمن ناحية، التلفاز هو وسيلة الترفيه الرئيسية للمهمشين، ومن ناحية أخرى هو الأداة الأساسية للأنظمة والحكومات، بصفته المنبر الأساسي والأكثر تأثيرًا في أدوات السيطرة الناعمة عليهم، وإبقائهم خاضعين وقانعين بمشاهدة الحياة الرغدة عبر هذه الشاشات المضيئة. وأخيرًا لسلبهم أي فكرة أو بديل عن إمكانية تغيير واقعهم البائس، على الأقل عبر ما يبثه التلفاز من إحباط ودونية الطبقات الشعبية ومهمشيها بالذات، وكونهم لا يستحقون، ولن يصلوا لأكثر من فقرهم الحالي!
بناء البديل الثوري ليس بالأمر الهين أو البسيط، الذي يمكن أن يحدث بكبسة زر، لا سيما في مناخ يدار بالقمع كوسيلة أساسية للحكم
لا تشغل أمور الحكم والسياسة وقضايا الديمقراطية والحريات، المهمشين كثيرًا، على الرغم من معرفتهم وفهمهم الجيدين لهذه القضايا، هذا الفهم الذي يمكن أن يكون غائبًا عن كثير من المثقفين، أو لنقل مدعي الثقافة، وجلهم من مؤيدي النظام.
الوعي عند المهمشين ليس نتيجة لمستوى ثقافي مرتفع أو تحليل موضوعي نظري، على قدر كونه وعيًا مكتسبًا من تجربة حياتية مريرة يعيشونها كل لحظة كل يوم. المواطن المهمش يعرف من واقعه البائس أنه لا ديمقراطية ولا عدالة في الحكم، ويعلم تمام العلم من تلوّي أمعاء أطفاله جوعًا أو صراخهم مرضًا وهو غير قادر على إطعامهم أو توفير العلاج لهم؛ أن سياسة الدولة هي فقط خدمة مصالح الأغنياء.
الوعي لدى المهمشين ليس نتيجة لمستوى ثقافي مرتفع أو تحليل موضوعي نظري، على قدر كونه وعيًا مكتسبًا من تجربة حياتية مريرة
كما يعلم أنه لا ضمانات للحريات العامة لأفراد المجتمع، وخصوصًا للمهمشين منهم، وأن القمع البوليسي الوحشي لا حدود له. هذا الدرس تعلمه أحد المهمشين من خفقان قلبه المتسارع عندما أوقفت الشرطة يومًا الحافلة التي كانت تقله عائدًا من عمله في ساعة متأخرة، خشية أن يكون عرضة للاعتقال العشوائي الناتج عن الاشتباه الدوني لشخصه، وملبسه، ولونه وشكله، وحتى اسمه. فمن الرعب أن يذهب وراء الشمس، أو يُخفى قسريًا.
المهمشون في الثورة
بحسب تعبير فلاديمير لينين، فالثورة هي "كرنفال المضطهدين"، وأزيده: "المهمشين بالذات". فمع اندلاع الثورة يتغير موقع المهمشين اجتماعيًا إلى النقيض تمامًا، فيصبحون محور الأحداث وصانعي التاريخ، هذا ما تشهد عليه تجربة الثورة المصرية في كانون الثاني/يناير 2011.
فعلى الرغم من مراقبة الفئات المهمشة للحراك الناشئ ولمجريات الأحداث منذ 2005 مع التعديلات الدستورية والتي سمحت لأول مرة بانتخاب رئيس الجمهورية بشكل مباشر من المواطنين، بدلًا من الاستفتاء عليه عبر مجلس الشعب كمرشح واحد ووحيد. تلك التعديلات التي لم تفعل بنهاية المطاف سوى أن أعطت الدكتاتور حسني مبارك فترة رئاسية جديدة، ثم مرورًا بإضرابات العمال، ثم الدعوة لإضراب المحلة في 2008، وما تلتها من المظاهرات والاعتصامات الفئوية في أنحاء الجمهورية.. ظلت الفئات المهمشة، أو لنقل السواد الأعظم من الجماهير، تراقب وتتفاعل مع الحركة الناشئة بعواطفها فقط، مع القليل من الانخراط في الفعاليات المطلبية بشكل أساسي، والتي لم تتبلور لما هو سياسي من قبل الفاعلين فيها.
وعند نقطة اشتعال الثورة التونسية باشتعال جسد محمد البوعزيزي، حدث تحول مهم في وعي الجماهير العربية المهمشة لعقود، وتمثل هذا التحول في فهمها لأنها قادرة على الفعل، على الثورة، والمطالبة بالمزيد من الحريات كما المطالبة بالعدالة الاجتماعية. وهكذا امتدت عدوى الثورة لكل الأقطار العربية.
لم يكن هناك وعاءٌ سياسي تنصهر فيه تطلعات الجماهير التي صنعت الثورة المصرية كي يتبلور من خلاله تصور محكم لتطبيق ما تنشده الجماهير
ما دعا في الفقرات السابقة لاستدعاء الأحداث في مصر، وتطورها، وصولًا لمشهد الثورة 2011 بفعل الشرارة الثورية التي انطلقت عدواها من تونس، قبل أن تصل سريعًا لدول عربية أخرى؛ هو توضيح كيف أن الجماهير المهمشة والفقيرة التي صنعت الثورة المصرية ونصرتها بتدخلها الحاسم في 28 كانون الثاني/يناير 2011؛ كانت من ناحية تعبر بشكل عملي عن انعطاف حاد في وعيها الجمعي من النقيض إلى النقيض، فمن قبول استبداد الدكتاتور حسني مبارك الذي استمر 30 عامًا إلى الرغبة الحثيثة في إسقاطه أو رحيله دون إبطاء، وطبعًا تم لها ذلك.
اقرأ/ي أيضًا: "28 يناير".. عيد الثورة المصرية الحقيقي
لكن من ناحية أخرى لم يكن لدى الجماهير أي تصور أو خطة لما هو أبعد من ذلك، عدا بعض الشعارات التي عبرت فيها عن المطالب العامة، مثل الشعار الأشهر في الثورة المصرية: "عيش.. حرية.. عدالة اجتماعية".
صراع شرائح الطبقة البرجوازية
لم يكن هناك وعاءٌ سياسي تنصهر فيه تطلعات وطموحات الجماهير التي صنعت الثورة، لكي يتبلور من خلاله تصور وخطة محكمة للوصول إلي ما تنشده الجماهير بشكل حقيقي. هذا الوعاء لم يكن ليكون سوى حزب ثوري قادر على التعبير السياسي عن مصالح الجماهير المهمشة والفقيرة، وترجمة تلك المصالح إلى سياسات حقيقية، يستطيع وضعها موضع التنفيذ، عن طريق الاستيلاء على السلطة السياسية، والإطاحة بسلطة الطبقة الحاكمة التي تعبر عن مصالح الأقلية الحاكمة.
وبالطبع لا يمكن أن يحدث ذلك دون أن يحوز هذا الحزب على ثقة الجماهير بالشكل الذي يمكنه من قيادة ثورتها وتوجيهها بشكل فعال، لتحقيق أهداف الجماهير.الأمر الذي يجعل من حزب كهذا المطرقة التي تستطيع الجماهير بواسطتها تحطيم سلطة الطبقة الحاكمة وتهشيم بنيان النظام ومنع عودته أو انبعاثه عبر تجميع قوته من جديد وتأسيس وبناء سلطة ونظام جديدين من الجماهير ولمصلحة الجماهير.
لم يكن في مصر على ساحة العمل السياسي الحزبي بعد إسقاط حسني مبارك، سوى طرفين رئيسيين، وآخر ثانوي، الأمر الذي دفع قسم كبير منها للتأرجح في تحالفات وولاءات بين الطرفين الرئيسيين وهما المؤسسة العسكرية عصب الطبقة الحاكمة من جهة، والإخوان المسلمون الحزب الوحيد ذو القاعدة الجماهيرية من العمال والمهنيين والطبقة الوسطى، أما الطرف الثانوي فهو الأحزاب الأخرى بتعدد أطيافها وتنوع مرجعياتها السياسية، لكن المتوحدة على أرضية دعم الرأسمال والملكية الخاصة للمصانع والشركات.
هذه الأحزاب تحالف منها قسم مع الإخوان المسلمين في أول انتخابات برلمانية بعد الثورة، تحت مسمى "التحالف الديمقراطي من أجل مصر"، وضم أحزاب الكرامة الناصري والحزب العربي الديمقراطي وحزب غد الثورة وحزب الوفد وحزب النور، قبل أن تنسحب بعض تلك الأحزاب من التحالف، اعتراضًا على نسب تمثيلها في قوائم التحالف الانتخابية.
وبسرد بسيط لوقائع سير وتطور هذه التحالفات، يمكن أن نصل لنتيجة هامة، فعشية اندلاع الثورة وبعد إسقاط حسني مبارك مباشرةً، تحالف الخصمان التاريخيان (المؤسسة العسكرية والإخوان المسلمون)، لهدف وحيد وهو كبح الثورة وعرقلة ووقف تطورها الذي مثل تهديدًا حقيقيًا للمصالح الطبقية لهما، وبمقتضى هذا التحالف، سلمت المؤسسات السياسية للإخوان المسلمين، في حين سلم الإخوان الشارع والميادين للجيش. لقد وفر كلاهما غطاء للآخر، سياسيًا وجماهيريًا.
لكن وبسبب رغبة الإخوان في تدوير دولاب العمل الحكومي بنفس طريقة عمل النظام السابق، دون إدخال أي تعديلات هيكيلية أو حتى شكلية؛ اكتفوا بالإحلال والتبديل، فيما ساروا على نفس النهج الاقتصادي للنظام القديم، والمتمثل في السياسات النيوليبرالية التي يمليها صندوق النقد الدولي، وفقًا لشروط الاقتراض منه.
دفعهم ذلك لأن يحوزوا، وبسرعة بالغة، على سخط الجماهير الشعبية وحنقها، الأمر الذي تلقفته المؤسسة العسكرية، وأطلقت على إثره مخابراتها كي تدفع بهذا السخط الشعبي إلى حدوده القصوى. وساعد في ذلك ممارسات الإخوان أنفسهم، والتي كانت تتسم بقدر من الصلف والعناد.
وفي هذه الأثناء تشكلت جبهة الإنقاذ التي شُكلت من طيف واسع من الأحزاب على رأسها حلفاء الإخوان القدماء في التحالف الديمقراطي من أجل مصر. هذه الأحزاب تحالفت بشكل واضح مع المؤسسة العسكرية في مظاهرات 30 حزيران/يونيو وما أعقبها من بيان الجيش في الثالث من تموز/يوليو 2013. وقدمت للمؤسسة العسكرية الغطاء السياسي اللازم لعزل الرئيس الأسبق محمد مرسي، والإطاحة بالإخوان المسلمين من السلطة. لكن هذا الحراك العسكري/السياسي لم يقف عن هذا الحد، وإنما قطع الطريق على الجماهير بأن تطالب بما هو أكثر جذرية.
إن صراع كل من المؤسسة العسكرية والإخوان، والذي انتهى بتصفية الأولى للثانية، ليس سوى تعبير عن المصالح الطبقية لشريحتين في البرجوازية المصرية
الشاهد من ما تقدم من سرد هو توضيح أنه لم يكن هناك مسار آخر كان يمكن أن تسلكه الأحداث، أو طريق آخر يمكن أن تسير فيه الجماهير التي صنعت الثورة، فقد دعمت الجماهير الفصيل المعارض الأبرز على الساحة السياسية وأوصلته للسلطة عبر صناديق الاقتراع، ثم ما لبثت أن تكشف لها زيف شعاراته وإفلاسه سياسيًا، فثارت عليه من جديد لتنقضّ على إثر ذلك المؤسسة العسكرية على السلطة، مستغلةً هذا الحراك الجماهيري. وهذه هي النتيجة المنطقية لسير وتطور الأحداث وفقًا لمعادلة القوى في المجتمع، حيث إن ثورةً بدون قيادة ثورية وحزب ثوري، ستؤول السلطة فيها في نهاية المطاف للمؤسسة العسكرية بصفتها الفصيل الأكثر تنظيمًا، والتي تستطيع انتزاع السلطة وفرض نفسها بقوة السلاح، فهي الطرف الوحيد في المجتمع الذي يمتلك السلاح والعتاد القادر على تمكينه من ذلك، حتى لو احتاج إلى إبرام تحالفات تكتيكية بشكل مؤقت.
اقرأ/ي أيضًا: عصابة "باشاوات" مصر و"رعاع" البلد
في نفس الوقت فإن صراع ومواقف كل من المؤسسة العسكرية والإخوان المسلمين، والذي انتهى بتصفية الأولى للثانية، ليس سوى تعبير عن المصالح الطبقية لأجنحة مختلفة من الطبقة الحاكمة التي تمثلها تلك الأطراف، فالمؤسسة العسكرية تعبر عن مصالح الطبقة الحاكمة المصرية التقليدية أو القديمة المتكيفة مع وجود رأسمالية رجال الأعمال، أما الإخوان المسلمون، فيعبرون بدورهم عن مصالح خليط من فئات رأسمالية جديدة، هي الأخرى جزء من الطبقة الوسطة مهنيين وموظفين ورجال أعمال، غير أنها تستغل شعارات دينية لجذب شرائح أخرى من طبقتها، والطبقات الأدنى.
الأسباب الموضوعية التي أدت في الأساس لاندلاع الثورة المصرية، وعموم الثورات العربية، ما تزال قائمة
وكشفت تجربة الإخوان في السلطة عن رغبتهم في وراثة موقع الطبقة الحاكمة التقليدية لدولة جمهورية يوليو، عن طريق مشروع التمكين للجماعة، غير أن "الدولة" عاجلتهم بالانقضاض عليهم.
خاتمة
لا يمكن فصل سياق عدم وجود حزب ثوري يعبر عن المصالح السياسية والاقتصادية للمهمشين والفقراء، عن النتائج التي وصلت إليها ثورة 2011. فلم يكن يوجد طرف أو بديل موضوعي يمكن أن ينازع الأطراف التي كانت سائدة حينها لدفع النتائج إلى غير ما وصلت إليه.
وأقول إنه لو وجد في 2011 هذا البديل الموضوعي، وهذا الحزب الثوري، لوصل المشهد محليًا وإقليميًا، بل ربما عالميًا، صورة مغايرة تمامًا للصورة القاتمة الماثلة أمام أعيننا. لكن هل هذه هي النهاية؟ وهل هذه الصورة القاتمة ستبقى صورةً أزلية؟
على الإطلاق! فالأسباب الموضوعية التي أدت في الأساس لاندلاع الثورة المصرية، وعموم الثورات العربية، ما تزال قائمة، بل وتتجذر أكثر فأكثر. فالمجتمع منقسم وبشكل حاد إلى أقصى درجة، ما بين أقلية تتحكم في الاقتصاد بشكل كامل وقد حولته إلى اقتصاد ريعي قائم على الخدمات والسياحة والعقارات والاستيراد والتجارة الداخلية والبنوك، وهي الأقلية التي جعلت من مصر ثامن أسوأ دولة في العالم من حيث توزيع الثروة.. وبين أغلبية تقبع على هامش الثروة، يُفاض عليها من فتاتها!
حتى وإن هزمت الموجة الأولى للثورة، فلا يعني ذلك أن المجتمع قد استقر، حتى ولو بدا على السطح ذلك بفعل القمع البوليسي
تستحوذ الطبقات الأغنى في مصر على أكثر من 70% من الثروة. وترصد دراسة أن القاهرة تضم 170 أسرة يفوق دخلها مليون دولار سنويًا على أقل تقدير. والبقية يقتاتون الفتات.
إن أوضاعًا كهذه للمجتمع، تجعلنا نفهم أنه حتى وإن هزمت الموجة الأولى للثورة، فلا يعني ذلك أن المجتمع قد استقر، حتى ولو بدا على السطح ذلك بفعل القمع البوليسي، وبفعل تزييف الآلة الدعائية للنظام، فليس ذلك سوى رماد يخفي تحته نار الثورة التي لم تخمد أو تنطفئ شعلتها يومًا في نفوس وعقول المهمشين والفقراء.
لم يستقر المجتمع ولن يستقر قبل أن يحدث فيه تغيير جذري حقيقي، ليس في شكل السلطة فحسب، بل في النمط الاقتصادي والسياسي السائد بالشكل الذي يفضي إلى إحداث تغيير جذري للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية لأغلبية الشعب.
لا شك في أن موجة ثورية جديدة ستندلع في المستقبل، ستكنس الجماهير على إثرها بقايا القمع، لتستعيد الهيمنة على الشوارع والميادين والمؤسسات. فالتاريخ سيُعيد نفسه مره أخرى، ربما ليس وفقًا لنفس الصيرورة، لكن على الأقل وفقًا لنفس الإطار العام للأحداث، والمتمثل في وضع ثوري متقد يخرج السلطة عن عقالها، فتحاول وقفه وتطويقه بالقمع والإرهاب البوليسي والعسكري، فيستفز ذلك قطاعات أوسع من الجماهير، ويدفعها للانخراط في الثورة.
يقول كارل ماركس، إن التاريخ يعيد نفسه مرتين: الأولى كمأساة والثانية كمهزلة. ولقد شهدنا جميعًا المأساة، فلا داعي فيما أعتقد أن نشهد المهزلة. وبناء البديل الثوري ليس بالأمر الهين أو البسيط، الذي يمكن أن يحدث بكبسة زر، لا سيما في مناخ يدار بالقمع كوسيلة أساسية للحكم. لكن مع ذلك لن يستطيع أحد أن يعرقل مسار التاريخ وأن يوقف تطوره.
غير أن الضمانة لأن يصب هذا التطور التاريخي في مصلحة الأغلبية من المهمشين، هو وجود هذا البديل الثوري القادر على انتزاع السلطة من الطبقة الحاكمة، وإلا ستتمكن الطبقة من المناورة من جديد وتثبيت مواقعها بشكل أو بآخر.
يقول كارل ماركس: "التاريخ يعيد نفسه مرتين: الأولى كمأساة والثانية كمهزلة". ولقد شهدنا جميعًا المأساة فلا داعي لأن نشهد المهزلة
إن اتخاذ خطوات عملية في اتجاه بناء البديل الثوري، ولو بشكل مصغر ببناء قاعدي، يمكن أن يتم ربط بعضه ببعض، لتأسيس حزب سياسي، هو السبيل الوحيد لتحقيق أهداف الأغلبية من المهمشين والفقراء في الحراك الثوري القادم.
اقرأ/ي أيضًا: