لحسن طالع العلم، المعرفة، الثقافة، التجربة الإنسانية بكامل حواصلها، وكل التعبيرات المبجلة الأنيقة والمخادعة من هذا العيار، أن الثقل التنظيري والمفاهيمي الخلافي أساسًا ليس بطارئ على الجنس البشري اليوم. بل تمت مراكمته وتجرعه كما مناورته ضمن سيرورة شديدة المعقولية، أو تبدو كذلك بعد إمكانية الحديث عن بلورتها.
كل المكيفات وبواعث الـ"نيرفانا" تجعل البشر تعساء بشكل أفضل على نحو ما
جانب من تلك المعقولية يعزى لـيد خفية ما، لكنها بالضرورة ليست تلك العبقرية التي أرادها آدم سميث في السوق. توخيًا لأمرين اثنين: أولهما الحديث هنا لا يختص بالسوق فقط. أما ثانيهما فاتضح عندما حانت لحظة اعتداد اليد بخفائها وما يمكنها تحريكه من على عرش كواليسها، والتي لم يعثر عليها أحد يعرفه الجنس البشري ولا على أثرها حتى في ظلال شبح كورونا المرخية على الكوكب كله لا بكليته.
اقرأ/ي أيضًا: تراكم السلطة في إعادة إنتاج واقعها
مثال يمكن العثور على أشباهه حد الملل في السوق الذي يستبطن اليد عينها، لا الاقتصاد بالضرورة. بل سوق اقتصاد الرساميل الرأسمالية الذي صدع مخ الكوكب منذ النيوديل. سواء كانت تلك الرساميل دولتية أو كارتيلية أو "ميكس" فيما بينهما.
في أبهى صور هذا السوق وأكثرها تنميقًا حاليًا، في أرض الحكاية الإمبراطورية ممكنة الأفول، خارج أي استثنائية مدعاة، الولايات المتحدة الأمريكية، وفي أبرز تحركين لساكن البيت الأبيض دونالد ترامب، قدم درسًا يشف أكداس مكتبات وملايين الساعات التي أنفقت في السجال والاستفهام بشأن هذا العيار من السوق واليد الخفية.
ربما ببعض الشأن المتعلق بالتوظيف الشعبوي لما يعتقد أنه يمكن أن يكون ميتافيزيقيا. لكنها بالضرورة ليست تلك الميتافيزيقيا بالمعنى الذي قصد إليه بكافة التلوينات، لكن علمانيًا، من قبل عشرات الأسماء الباهرة، في مقدمتها إيمانويل كانت ، ابن رشد، فريدريك نيتشه، زكي نجيب محمود وحتى روح مارتن هايدغر وسؤاله بشأنها، وصولًا لاستفهام المناضل الراحل سلامة كيلة بهذا الصدد، وغير هؤلاء الكثير.
أقدمت الإدارة الأمريكية، كبرى رأسماليات الكوكب، بعد شركة الحزب الشيوعي الصيني، على فرض ما يجب إنتاجه على الشركات، في استجابة لمتطلبات اجتياح فيروس كورونا، عملاق جنرال إلكتريك وأجهزة إنعاش التنفس. أما التحرك الثاني فكان استثناء متاجر التسلح والتذخر من أي لوائح تتعلق بالـ"كرنتينا" التي أتت معولمة في منبتها. لتقفل الحفلة التدخلية في السوق من قبل أهل حرمانية التدخل الدولتي في الاقتصاد قفلة عجائبية، يبدو أنها التمثيل الأعجب على المقولة اللذيذة والمفيدة بشأن الواقع عندما يتفوق على الخيال، ودومًا. دون شرح ضروري أو ممتع، القفلة كانت "الرقية" الغيبية على كتفي رأس حربة تسخير العلم لاستعمار الكوكب واستعباد ساكنته في المكتب البيضاوي.
بنزوع كمائني واحتيالي مختلط كالسابق وصفه، حصلت فرصة كانت مغيبة طويلًا أمام مقدمات كل ميتافيزيقيا مقبلة ممكن أن تصير علمًا، بالاستعارة الكانتية المخلصة. ليكون أقل ما يمكن الانطلاق القبلي من ثم التأويلي إليه لا منه، أن ما يتعرض له الجنس البشري اليوم عبارة عن صعق متواصل ومتراكم و"رقية". وصولًا لبدء دراية أن السوق الحر، والاقتصاد الحر لا التحرري، ما هما هما ولا هما النقيض. بكلام آخر، كل المكيفات وبواعث الـ"نيرفانا" تجعل البشر تعساء بشكل أفضل على نحو ما. هذا في جانب منه، يتواشج مع محاورة النزوع لكل شخص من كل بلد أن يكون شخصًا متمرسًا بذاته، أي من حيث هو غاية مطلقة.
في كل حالات الاعتقاد البشري، غيبيًا وعلمانيًا، لا يمكن لشرعية العلم أن تعني أنه يكشف للجنس البشري الحالي عن الطبيعة الأساسية للواقع، أو الحقيقة الدفينة لعالم الأشياء في ذاتها، كون العلم لا يخرج عن كونه دراسة إنسانية مشروطة ببعض شروط المعرفة الإنسانية. إن حالفت الجدية والشروط الحليفة هذا العلم ليبني شرعيته، يتخلق لحظتها الثالوث النقدي: المعرفة، الأخلاق، الجمال.
لتكن من بين مهمات العلم الطليعية ، بل في قمة الفتوحات، براعة تأويل المسكوت عنه، كما قلب النصوص والحقائق والادعاءات ضد ذاتها من أجل التحقق منها ذاتها. ليقدم "العلم" بنفسه ممكنات ميتافيزيقيا التأسيس لوجود الموجود. ليبقى ثقل: هل الوجود وحدة كلية أم شتات من الموجودات؟ شاغلًا للبشر مشاغلًا لأسئلتهم التي يعتقدون أنها تبدو إجابات.
إلى أي مدى يمكن للعقل أن يمضي بدون المادة؟ سؤال أخر ينبع في ذات المتتالية التي لا تعفي المكان والزمان بما هما صورتان للعيان الحسي وشرطين لوجود الأشياء من حيث هي ظواهر بذاتها. لتأتي رياضيات آلان باديو ومن قبله بقرون أبو يزيد طيفور بن عيسى بن شروسان البِسطامِي قائلًة أن:
أ=أ، أي أن الكل مساوٍ لنفسه، كذلك "أ+ب"= أ، ما يحيل إلى أن الكل أكبر من أي جزء فيه.
لكن كيف يمكن أن تكون الميتافيزيقا علمًا؟ نقد العقل يقود إلى العلم، أما القطيعة الدوغمائية بغير نقد فتؤدي إلى مزاعم واهية ورؤى خادعة يمكن معارضتها بالمثل لتؤدي إلى ما ليس اكثر من نزوع شكلاني. فكل ما هو عملي بقدر ما ينطوي على دوافع متعلقة ضروريًا بالمشاعر التي تنتمي بدورها إلى المصادر التجريبية للمعرفة. إذ هناك أصلين للمعرفة البشرية لعلهما ينحدران من جذر مشترك مجهول "الحس والفهم".
البناء المادي لفهم الميتافيزيقيا عبر أدوات الرياضيات والعلوم الطبيعية، النقد، هو نفسه الميتافيزيقيا التي يقصد إليها بإمكانية أن تصير علمًا
تعطينا الحساسية، من الحس، الموضوعات. بينما يتيح الفهم التفكير فيها. هذا لأن الشروط التي لا بد منها لتعاطي موضوعات المعرفة البشرية يجب ان تتقدم على الشروط التي لا بد من توافرها للتفكير في الموضوعات نفسها. إذ لا يدرك العقل في الأشياء إلا ما أنتجه هو وفق خطة من وضعه، التي قد تبدو لا نهائية بدورها، رغم صرامة محدوديتها.
اقرأ/ي أيضًا: الإمبريالية وسوق العالم.. الوحش الذي "يداعبنا"
أنكر أبو يزيد البسطامي نفسه عبر تقديمه الله من جبته، وبذلك أنكر نفسه بنفسها عب أنسنتها لا نفيها بالضرورة مستخدمًا الوجود بكليته برهانًا هجينًا من عالم الظواهر وعالم الأشياء في ذاتها لا لذاتها حتمًا. قالبًا، أي البسطامي، الميتافيزيقيا قبل أن تصير علمًا ضد نفسها بنفسه عندما اصطفت أن الإنسان على صورة الله، ليعيد الشرعية لمساءلة إمكانات العقل لأن يمضي بلا مادة. ويقدم في ذلك اجتهاد شجاع ومبكر بشأن المضي نحو حسم الحيرة في أن الهدف هو تقديم أسس جديدة للميتافيزيقيا أو تقديم أسس ميتافيزيقية جديدة؟.
يبدو أن كل هذا يحضر لأن العقل المتعال يبقى في إطار الظواهر دون تجاوز حدودها إلى صيغة مصادرها وظروفها الحقيقية. ما يتناقض مع ملكة الواسطة بين الذهن والعقل، تعزيزًا للشعور باللذة، الذي هو الواسطة بين المعرفة والإرادة. إذًا، ما يقصد إليه أن البناء المادي لفهم الميتافيزيقيا بأدوات الرياضيات والعلوم الطبيعية، النقد، هو نفسه الميتافيزيقيا التي يقصد إليها بإمكانية أن تصير علمًا.
أيضًا، في حال تبقى للميتافيزيقا من معنى فما هو إلا تحليل العلوم الطبيعية/ القضايا العلمية. لكن، مجددًا، من أين جاء كل هذا اليقين بصدق العلم؟. ببساطة دون أدنى درجات التبسيط، يمكن القول من المحاولة النقدية بوصفها محاولة تحليلية، لكن ماذا تحلل؟. تحلل أحكام الناس الكلية في العلوم والحياة اليومية بعنصريها:
- التجربة الشخصية.
- ما هو قبلي بعدم اعتماده على التجربة الحسية استنادًا إلى مبادئ عقلية. أي أن مبدأ السببية وطريقة النقد هما محاولة استخراج المبدأ، الممكن لا الواجب، من وراء الخبرة الحسية.
لذلك تكون مهمة النقد ليست في تناول أحكام الناس الأخلاقية بالتأييد او التفنيد، بل فهم وتتبع من أين استقى واستخلص الناس حكمهم/احكامهم. بكلام آخر مهمة النقد تجاه الأخلاق هي كشف المبادئ الأولية الناظمة والمؤسسة القبلية التي تبرر الأحكام الأخلاقية. أي البحث عن المبدأ العقلي بما يستدعي التحليل البنيوي الشامل والمكتمل للموقف بأكلمه وسياقاته الوافية حيث يكون الإنسان عندما يصدر الحكم المعني. مما يقود بدوره الى استخلاص الأس التكعيبي للحكم إياه.
مبدأ السببية وطريقة النقد هما محاولة استخراج المبدأ، الممكن لا الواجب، من وراء الخبرة الحسية
كل هذا يؤدي، أو قد لا يؤدي إن أريد بافتراض قبلي ألا يؤدي، إلى ما يدين الكوكب لبراعة ونورانية إيمانويل كانت في إيضاحه وبلورته، أقله مفاهيميًا، بشأن نقد العقل الخالص، الذي لا يتأتى بدوره على حصة من اشتمام النور إلا عبر سيرورة إقامة البرهان على صحة الأحكام العامة الضرورية التي يصدرها الإنسان، وإقامة البرهان تكون من خلال اختبار الكشف عن الأسس والمبادئ، أي القواعد لا القوانين، الأولية التي تجعل الأحكام ممكنة الاستصدار، بالتالي الفعل وفق ممكنات الوجود.
اقرا/ي أيضًا: المانيفستو في ضيافة القرن 21
لذلك، سيضل السبيل الإنساني العرفاني، المتفق عليه بدراية أو دونها بخصوص العنصر ودوامه والمادة وكلية الكل، من يخرج مسترسلًا ببرهانه خارج الرباعية التساؤلية الدائمة:
1-ما الذي يمكن معرفته؟
2-ما الذي يجب فعله؟
4-ما هي حدود "الأمل" وممكنات المرتقب؟
ليكتمل الضلع الرابع الأساسي واللانهائي بخصوص، 4- ما هو الإنسان أساسًا؟ وما هو الأن؟وعليه يكون الانصراف إلى نقد العقل الخالص/المحض، متفهمًا لممكنات العلم كتعبير عن كل إمكانات المعرفة الإنسانية الممكنة.
هذا على اتساع نطاقاته المدارية ومجمل وجوه التعبير عن الفعل البشري، بمنجز تقني أو حواصل ثقافية. لتأتي بداية محاولة إعادة نفي الألوهة المنفية للعالم من العالم، بما يشكل ماء الوجه الأخير العلماني المتبقي من رجاء كوكبي.
الإرادة مشروطة وحرة معًا، لكن هذا لا ينفي أن العجز عن المعرفة لا يلغي التفكير، المعرفة عملية في أس ميكانزمها التفكير أصلًا
ليمكن القول بأن العلم حقًا هو ما قام به الإنسان ليعرف العالم ويتعرف عليه، ومنه مراكمة المعرفة من عدمها، كما منه عرفان العالِم بالعالَم من بطلانه. أما كل ما يتراءى بلبوس المعرفة، أو يحاورها ويناروها، كالأدب على اتساعه، فهو لا يتعلق بمعرفة العالم بأي شكل تال للتشكل الأولي، إنما الأدب في صميمه يقف ليستعمل العالم الذي عرفه العلم. ليحضر الإنسان على الدوام صاقلًا لما تيسر له من علم، وليعرف ما تمكن عبره من العالم، من ثم يتمكن من استعمال العالم، لا ماديًا حصرًا، إنما أيضًا رمزيًا، على ما لذلك من أهمية لا تتناقض ولا تنفي الرسوخ البنيوي للوقائع المادية التي تصقل وجه العالم متبادلة معه دور الماء اللاشكلي على الدوام.
ختامًا، إذا كان من رجاء فهو بالاعتقاد أن الأصلح للجنس البشري في كوكب الأرض أن يكون التفكير في اتحاد أمم، حلف للناس، لا حلف منظومات حاكمة وجماعات مهيمنة. والأصلح للكائن الناطق في كل زمان ومكان أن يتحمل بشجاعة ومسؤولية مصيره في هذا العالم. فهمًا للعصبيات الخلدونية المتراكمة التي لا مفر من ديالكتيك ما لتعاطيها، إذ أسس المؤرخ والمعلم في علم التأريخ، هوارد زين، للصقل النهائي اليسير عبر مقولة: أقصى صنائع العصبية تلخص بفعل الحرب. فلا مفر أو مخرج دون اتخاذ الذات العاقلة، أو الإرادة العاقلة معيارًا خلقيًا. استنادًا إلى طبيعة الفعل الإرادي بما هو تحقيق لذات الفاعل. فهو ليس بالضرورة أخلاقيًا إن كان الفعل الأخلاقي أو الأخلاق تعني السلوك تحت سيطرة العقل. فمن ممكن القول أن الإرادة مشروطة وحرة معًا، لكن هذا لا ينفي أن العجز عن المعرفة لا يلغي التفكير، المعرفة عملية في أس ميكانزمها التفكير أصلًا.
اقرأ/ي أيضًا: