تحقيق
وقف المحقق الشاب المكلف بقضية عمره التي ستكفل له نجومية سريعة وصعودًا صاروخيًا نحو أعلى السلم الوظيفي، مصعوقًا يبحلق تحت قدميه. كان التحقيق في سلسلة الجرائم التي هزت المدينة الرقمية المثالية يجري على قدم وساق. عندما استفاق أهل المدينة قبل شهر ونصف على عبث شيطاني باللوغاريتمية التي تحكمها، ما عادت الشاشات تتعرّف على وجوه ولا بصمات، فاختلط الحابل بالنابل. دخل موظفون مكاتب آخرين، حولت مبالغ ضخمة للبوابين والحرس الليلي، أوكلت حقائب وزارية لمسحة الأحذية وعاملي المطابخ، لم تتعرف اللوحات الرقمية في البيوت الفارهة إلا على أصوات الشحاذين وقطاع الطرق. باختصار عاشت المدينة الفاضلة القائمة على المعادلات الرقمية شهرًا جهنميًّا لم يُحفظ للناس فيه مقام ولا ماء وجه. والآن يقف المحقق مصعوقًا يبحلق في الورقة الخضراء الندية تحت قدميه، كأنها جاءت للتو من غابة، ويتساءل بحلق جاف اللعنة من أين جاءت الورقة؟
شباب
يرى القادم انعكاس وجهه في البلاط والواجهات الزجاجية، كل شيء يبدو مثاليًا ليوم تخرج الطلبة. يضع أبو أحمد، آذن المدرسة، لمساته النهائية على باب القاعة الرئيسية، مثبتًا أطراف لوحة الاستقبال "أهلًا وسهلًا بأهالي الطلبة الكرام". تحوطها البلالين الملونة وربطات الزينة.
"لا بد أنه مبيد الحشرات، لقد بالغت في رشه في الغرفة." يفكر أبو أحمد ساهمًا في سبب كافٍ لعجزه عن الاقتراب من زوجته البارحة. يشعر برعب يدب في قلبه وهو يحصي أسبابه المحتملة. ربما يكون العث الذي يأكل فراشه، يفكر. ربما تعبه وتوتره من التحضيرات المبالغ فيها لمناسبة اليوم.
إنه ما زال قادرًا أن يهد جبالًا بلا تعب، معلمات المدرسة لا يناديه إلا أستاذ أبو أحمد، وأولاد المدرسة يحيونه بكف عال كعادة الشباب. يفكر أنها ربما تكون زوجته، هي لم تعد جذابة كما كانت، لقد شاخت، وهدها الحبل والميلاد وامتص الأولاد رحيق عمرها.
يدخل أهالي الخريجين إلى القاعة، يتبعهم الخريجون بصف منتظم ويبدأ الاحتفال. يمر أبو أحمد بمكنسته الرطبة على الأرض التي تحمل آثار أقدام طينية حيث ينهمر في الخارج مطر، يأتيه صوت السيد المدير "أنتم أمل هذا البلد، أعزائي المستقبل أمامكم"، يدور بمكنسته على الأرض التي تحولت إلى سبخة طين، ويفكر ربما هو ذاك، ربما هو ذاك.
أصوات
يتدفق صوت الهسيس من النوافذ الوطيئة كما تتدفق حزم الضوء برتقالية ودافئة، بينما سالم الأعمى يتبختر بين أثاث البيت الجديد كمالك عجوز. لا ينفض سيجارته إلا في طبق الفضة الصغير على المنضدة، ولا يستعين باتجاه المرحاض بجدار ولا بباب. سالم صديق البيوت، حيث كل البيوت التي سكنها تألفه ككلب شيبرد، تقعي عند قدميه، تهز له أذنابها، وتقود عماه في تفاصيلها.
سالم الذي لم يكن يميز أخًا من أخ، ولا أمًّا من صديقة، إلا حين يتحدث جليسه، كان يحفظ تفاصيل الشرفات حجرًا بحجر، حين يتدفق منها صوت تراب من المزارع المجاورة، فلا تكاد تهب ريح حتى تعرش الشرفات بين أصابعه. يحفظ تعاريج المدافئ الحجرية غائصة في صدور الجدران، يهس فيها بقايا السرو وذكريات الأغصان، وما إن تطقطق فيها الفروع حتى تطير في دمه أعشاش طيورها ومشاريع الورق. يحفظ زوايا الدهاليز، والممرات بين الغرف والصالات، تسيل منها أحلام الملاك السابقين، وتفاصيل علاقاتهم وخيباتهم، ولحظات انتصارهم ولحظات انكسارهم، وما إن يعبر غرفة باتجاه صالة أو العكس حتى يسمع أصواتهم: الجدار على يمينك مقشور يحتاج دهانًا جديدًا، الدرجة أمامك مشروخة لماذا لا تصلحها، الصنبور على بعد مترين ينقط لماذا لا تحكمه، السقف فوقك يكاد ينهار لماذا لا ترحل.
بحث
النبش جار على قدم وساق، الكل ينبش بملء أصابعه، أحدهم يقول "وجدت عينه، انبشوا أكثر". يقول آخر "يده هنا، كدنا نصل". بينما يقف هو في الزاوية، ينظر إلى جيرانه يرفعون عنه أنقاض بيته، وكلما لمسوا شيئًا فيه ضحك؛ كأن أحدهم يدغدغه. تهب ريح في البعيد تحمله فيطير، يصيح الجمع مبتهجًا وجدناه.
اقرأ/ي أيضًا: