بعد سنوات عجاف جسدت تاريخًا مؤلمًا للملكة العربية السعودية جاءت أعوام الطفرة "أعوام النفط" فظهر اقتصادها كقوة عربية ليست بالكبيرة جدًا ولكنها لم تكن متواضعة، وإن كان اقتصادها في الأساس ريعي يعتمد على النفط بدرجة كبيرة. كما يعتمد على القطاع العقاري كأكبر قطاع تتم به المعاملات المحلية في الداخل السعودي وما لبثت هذه القوة كثيرًا حتى واجه أبناؤها أنماط الحياة البائسة، فهل صار الوقت مناسبًا لكي تبدأ المملكة العربية السعودية في البحث عن شخصها؟!
البطالة سم قاتل
تعتبر مشكلة البطالة من أكبر المشاكل الاقتصادية التي تواجه أي دولة في العالم، فهي مشكلة المشاكل، وأم كل الشرور الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، فهي تولد التخلف الاقتصادي، وعدم الاستقرار السياسي، والشرور الاجتماعية والأخلاقية. فإذا كانت أقل من 5% فهي مقبولة، وإذا زادت عن 10% فهي كارثة محتملة.
ويكون حل المشكلة بمواجهتها ووضع الحلول الجريئة التي تحتاج إلى وسائل جديدة ومبتكرة، وليس بتجاهلها أو الانتظار لأن تحل نفسها بنفسها، أو استعمال الأساليب القديمة التي باتت عبارة عن مسكنات مؤقتة، فلابد من توفر الإرادة السياسية الفاعلة، والقدرة على مواجهة المعارضة التي ستنشأ من المستفيدين من وضع سوق العمل الحالي، والتخفيف من الجوانب السلبية لأي حل تكون فوائده تغلب على أضراره فليس هناك حلول سحرية ترضي الجميع، أو حلول لا تتطلب جراءة وبعض التضحيات.
وقد أعلنت السعودية نهاية عام 2015، سلسلة إصلاحات لتحصين اقتصادها في ظل هبوط أسعار النفط العالمية بهدف تنويع مصادر الدخل من خلال دعم القطاعات غير النفطية وتعزيز دور القطاع الخاص وتوفير فرص العمل، بالإضافة إلى رفع كفاءة الإنفاق وإصلاح منظومة دعم الطاقة.
بلغت تقديرات عجز الميزانية السعودية لعام 2015، نحو 367 مليار ريال (97.9 مليار دولار) بسبب هبوط أسعار النفط. إضافةً إلى معدل بطالة يقترب من الــ 11.5%
فما الحل للخروج من تلك المعضلة؟
سوق العمل السعودي
كان سوق العمل السعودي خلال الفترة من (1974 - 1984) يتسم بالتناسق والهيكلية السليمة، حيث كان المواطنون يغلب عليهم البساطة والفقر والقدرة على تحمل المصاعب وكان عدد المتعلمين منهم قليلًا جدًا وكانت تطلعاتهم الحياتية بسيطة ومتواضعة، وآمالهم ونمط استهلاكهم بسيطًا، وكان مستوى الإنفاق الحكومي هائلًا بالنسبة لمعايير ذلك الوقت مما أدى إلى ارتفاع الأسعار والأجور بنسب غير مسبوقة وصلت إلى أكثر من 30% سنويًا.
اقرأ/أيضًا: عشقي في إسرائيل.. السعودية تُشهر التطبيع
ولكن ذلك لم يكن محسوسًا في حينها لأن متوسط ارتفاع الدخل كان أكبر من ذلك بكثير، وكانت هناك حالة تشغيل كاملة بسبب أن سوق العمل كان ينمو بمعدلات مذهلة أدى إلى استقدام آلاف من العمال الأجانب وبأجور عالية، فكانت هناك مطارات وموانئ تنشأ من العدم، وطرق ومدارس وجامعات ومستشفيات ومنازل. ولكن كانت نوعية العمالة المستقدمة هي عمالة فنية وعمالة متخصصة من دول متقدمة مثل أمريكا وأوروبا واليابان، وكانت الشركات الكبرى تستقدم عمالتها الماهرة معها وتسكنهم وتتولى أمورهم وتأخذهم معها عند انتهاء مشاريعها الكبرى، وعندما كانت تستعمل العمالة المحلية، كانت تتولى تدريبهم وتؤهلهم تأهيلًا جيدًا كما فعلت شركة أرامكو عندما قدمت للسعودية.
ولكن سرعان ما بدأت التشوهات الهيكلية في الظهور في سوق العمل تزامنًا مع تراجع سوق المقاولات المحلية واقتصارها على أعمال الصيانة والتشغيل فقط، إضافةً لتقلص ميزانية الحكومة وظهور أنماط جديدة في الاستهلاك التفاخري من منازل كبيرة وسيارات فاخرة وظهور الأسواق الكبيرة والمولات والمطاعم والفنادق الكبرى، وأصبح سوق العمل يركز على العمالة الرخيصة غير الماهرة وغير المدربة ومع الوقت بدأ احتقار العمل اليدوي والمهني.
في نفس الوقت الذي زاد فيه عدد المتعلمين، من الشهادة المتوسطة إلى الشهادة الثانوية، إلى أن أصبحت الشهادة الجامعية محط أنظار كل من دخل النظام التعليمي العام، ورغم كل التحفيزات الحكومية لزيادة عدد المتعلمين إلا أنه سرعان ما تحولت الشهادة الجامعية غايةً للترقية فحسب بغض النظر عن الإنتاجية أو الخبرة العملية، فزيادة الطلب على الشهادات الجامعية لم يقابلها زيادة في التركيز على مستوى وجودة التعليم.
تشوه القطاعات الاقتصادية
النظام التعليمي في السعودية أدى دوره في نقل المجتمع من مجتمع أمي إلى مجتمع متعلم، إلا أنه لم يكن يهدف لتأهيل المواطن لاحتياجات سوق العمل
فسرعان ما ظهر في سوق العمل البطالة، إضافةً إلى انتشار التجارة في العمالة وانتشار التجارة في تأشيرات العمل إلى أن تدهورت قيمة العمل في المجتمع وأصبح كل سعودي يطمح أن يكون صاحب العمل وليس عاملًا، وأصبح مفهوم العمل سبة للعامل وليس فخرًا له.
اقرأ/أيضًا: الجسر بين مصر والسعودية.. يبدأ بجزيرتين
وبالتالي يجب التفكير في آلاف الطلاب الذين يتخرجون من المدارس والجامعات المحلية وآلاف الخريجين المبتعثين في الجامعات الأجنبية، ولا يحصلون على فرص عمل في وطنهم بسبب انخفاض مستوى الأجور وتعنت بعض الشركات الخاصة في تعيين العمالة السعودية وخشية الحكومة من غلق سياسة الباب المفتوح للعمالة الأجنبية الرخيصة بحجة المحافظة على مستوى الأسعار والتضخم منخفضة.
كما أن القطاع العقاري لعب دورًا كبيرًا في تدهور مفهوم وقيمة العمل في المجتمع، فبعد أن كانت الأرض تشترى للبناء عليها، أصبحت تشترى لأغراض المضاربة وبدأ الأفراد يتحولون إلى سوق العقارات لتعاظم أرباحه، وبالتالي أصبح المجتمع يتجه إلى القطاع العقاري بعيدًا عن المهن الحرفية والإنتاجية لانخفاض مستوى أجورها.
ومع زيادة نصيب القطاع الخاص في السوق السعودي ففي عام 2009 وفر القطاع الخاص قرابة الـ847 ألف فرصة عمل معظمها ذهب للأجانب وليس للسعوديين، لكن لا يمكن إلقاء كل اللوم على القطاع الخاص إلا أن نظام العمل ونظام السوق المحلي يحتاج إلى هيكلة للحد من ظاهرة الاعتماد على العمالة الأجنبية. وبالتالي لابد من إعادة هيكلة سوق العمل بتوفير فرص عمل وطنية بدخول مرتفعة والحد من الاستثمار في العمالة الأجنبية غير الماهرة وجذب العمالة الماهرة وتشجيعهم على إحضار ذويهم مما يؤدي إلى انتعاش الاستهلاك المحلي وتخفيض نسبة التحويلات الخارجية وزيادة نسبة مضاعفات الإنفاق المالي المحلي، مما يزيد نسبة النمو وارتفاع مستوى المعيشة.
اقرأ/أيضًا: شبح التدخل السعودي التركي في سوريا..الظهور الأخير؟
ذروة النفط
خلص مؤتمر ذروة النفط التحديات والفرص أمام دول الخليج إلى أنه من الضروري إنشاء قاعدة بيانات شاملة ومتكاملة عن جميع القوى العاملة في المملكة، بحيث تشمل جميع المعلومات عن جميع العاملين في المملكة، من حيث الجنسية والعمر والمؤهلات وهكذا وتكون مربوطة بجميع الجهات.
بالإضافة إلى أهمية العمل على توفير ما هو ضروري للتدريب الفني والتأهيل النفسي للمواطنين لتقديس العمل ورفع قيمته، وإنشاء إطار قانوني لتسيير عملية توظيف العاملين وتعزيز التنافسية في سوق العمل، وكذلك توحيد الجهود بين أجهزة الدولة والقطاع الخاص والمواطنين لتنفيذ الخطط القومية التي تعمل على تخفيض عدد العمالة الوافدة، ورفع مستوى أجورها لجعلها في محل منافسة للعمالة الوطنية. وكل ذلك يجب أن يحاط بزخم إعلامي لتكون تلك الخطة سبيلًا قوميًا للمملكة.
فمتى تكون الشهادة الجامعية المحفوفة بالخبرة العملية بديلًا عن آبار النفط التي قد تنفذ قريبًا؟
اقرأ/أيضًا: