كانت ليلة "سقوط" آمبر هيرد، أو هكذا وصفوها، كاشفة عن نظرة كثيرين لمسألة النزاع على المظلومية بين المرأة والرجل في مجتمعاتنا العربية، وهي نظرة تنمّ عن نزعة مريبة لأسلحةِ أيّة قضيّة ولو اعتباطًا للهجوم على المرأة، العربية، ونصب كل متراس أمام الاستعادة الجزئية لحريّتها وكرامتها. أقول الجزئية باعتبار أن لا حريّة ولا كرامة لرجل ولا امرأة في ظل الأوضاع السياسية القائمة في بلادنا.
أوهام المهزومين مرعبة حقًا. ليس صعبًا بلبلتها، إلا إنها تتحوّل بسهولة إلى خطاب تعبويّ تحريضيّ لاعقلاني، يكفر بالأرقام والوقائع
مع ذلك، استصعبت كثيرًا فهم تلك الجرأة على الاحتفال الشامت بقضيّة جوني ديب، وتصوير الحكم الصادر في قصر العدل في مقاطعة فيرفاكس، في ولاية فيرجينيا، في الولايات المتحدة الأمريكية، لصالح رجل خمسيني تتجاوز ثروته 150 مليون دولار، ويعدّ نجمًا ذا شهرة كاسحة، تصويره على أنّه الدليل الساطع على عوج المصادقة على دعاوى النساء ضدّ الرجال، وفساد الشعار الداعي إلى "تصديق الناجيات"، وضرورة افتراض الكذب في أية دعوى بالتحرّش أو الاعتداء الجنسي أو العنف الأسري.
تلك القضيّة، والتي يمكن اعتبارها ملحمة إعلامية استهلاكية معولمة، صارت وفق هذا المنطق، وبدون أي اعتبار لبحر المفارقات بين سياقها والسياقات البائسة للمرأة العربية في عصرنا، الدليل على مغبّة افتراض صدق المرأة في مواجهة سلطة الرجل وزعزعتها، وضرورة تكسير مجاديفها قبل أن تكتشف صوتها وتعثر بوجودها، وتدفع شيئًا من الظلم الواقع عليها، الماسّ بصميم كرامتها الإنسانية والمطبق على روحها خنقًا وابتزازًا.
بالنسبة إليّ، لم أجد في هذا الشكل من التفاعل العربي مع قضية ديب وهيرد، إلا دليلًا طريفًا جديدًا على حجم التأثير الواسع للمنتج الإعلامي الغربي، وأيقونات الثقافة الأمريكية، وقدرة هذا التريند المسنود بعالميّة اللغة الإنجليزية ويسر الترجمة منها، على التسلّل حتى بين أشدّ الدوائر محافظة، بحيث تتحوّل قضيّة كهذه إلى مكسب سانح، وعلى نحو لا يخلو من التشفّي المثير للشفقة، لا يتورّع عن توظيف حالة شاذّة حتى في سياقها الأمريكي وما فيه من مراجعات ونقاشات واسعة حول ظاهرة التحرش الجنسي والنسويّة وحركة "مي تو" وأخطائها العديدة هناك، للتأكيد على رأي محافظ شديد التخلّف يعمّق حالة الاستبداد ويصرّ على الوقوف حائلًا دون معالجة أي مظهر من مظاهرها.
استمرّت تلك النشوة على مدى أيّام، حتّى خلت أنا كنّا عربيًا أمام سلسلة ممتدّة من القصص التي ظلمت فيها النساءُ الرجالَ وافترت عليهنّ تكسّبًا وابتزازًا، وحانت اللحظة لتنفيس تلك الفقاعة النسويّة التي خنقت الرجال وأضنتهم وكسرت شوكتهم. بدا المشهد سرياليًا على نحو مضاعف حين قرأت منشورًا يتحدث عن صدور كتاب بالعربيّة بالتزامن مع هذا الانتصار المزعوم، فيه "اعترافات نسويّة سابقة"، لكاتبة تسمّي نفسها "أم خالد"، وشعرت وكأني أمام لحظة تاريخية في حالة المجتمعات العربية تعلن فيها الانتصار على نسخة نسويّة متطرّفة، وتؤوب فيها إلى رشدها الذكوري "الطبيعي" بعد طول معاناة ومدافعة.
أوهام المهزومين مرعبة حقًا. ليس صعبًا بلبلتها، إلا إنها تتحوّل بسهولة إلى خطاب تعبويّ تحريضيّ لاعقلاني، يكفر بالأرقام والوقائع، ويتّكئ على الديماغوجيا والتعميمات المريحة، ويتقن الاستقطاب. يدهمنا هذا الخطاب أيضًا في لحظة انكسار ذكوري شامل، في مرحلة ما بعد الربيع العربي، وكأن من يقفون وراءه ييبحثون عن انتصار ما فيما يظهر أنّه الهامش الأخير للانتصار، عبر تأكيد الهيمنة على عناصر المجتمع الأشد تهميشًا وهشاشة، وهم النساء والأطفال، مع نسيان حقيقة أن ذلك ليس إلا انتصارًا للضعيف على الأضعف.
السلطات القمعية القائمة، فتستثمر هي الأخرى في هذه الحالة المناهضة للحقوق المدنيّة، وتتماهى معها في خطابها الوعظي الرسمي، لتستمر جاروشة القهر والقمع بالدوران، ساحقة الجميع
أمّا السلطات القمعية القائمة، فتستثمر هي الأخرى في هذه الحالة المناهضة للحقوق المدنيّة الأساسية، وتتماهى معها في خطابها الوعظي الرسمي، لتستمر جاروشة القهر والقمع بالدوران، ساحقة الجميع وحقّهم في الحياة الحرّة الكريمة، رجالًا ونساء.