"Thank you so much young lady"، وأنا أومأت لها برأسي فرحةً، تأمّلتها في تلك اللّحظات السريعة ولا أظنّها كانت تكبرني بجيل. ربما بسنوات قليلة ليس أكثر. نظرتُ في البليزر البيضاء التي كنت ألبسها؛ في الجينز الممزق؛ في النظّارات الشمسيّة الكبيرة التي تغطي وجهي وفي الكعب العالي الذي لا أتخلى عنه حتى وأنا أقطع شوارع الداونتاون بسرعة في مدينتي الصغيرة كل يوم. كل تلك التفاصيل ربما أفادت أنني امرأة لم تستسلم بعد. ومع ذلك لست "يونغ ليدي".
يونغ ليدي مصطلح ثقيل. تترتّب عليه أمور كثيرة. هو مصارعة يومية مع الوزن، والغرامات القليلة الزائدة، كي تليق بالجسد اليونغ الملابس المفروضة عليه
حمامة وقفت في نصف الشارع وأبت أن تطير. وتوقّفت خلفها السيارات حتى صارت طابورًا. كنت أراقب المشهد من بعيد. وحين اقتربت من الحمامة مشيًا طارت وضحك الجميع في المقاهي الصغيرة المنتشرة على جانبي الطريق. الكلّ كان يراقب إذًا. والكل ظلّ شاهدًا حياديًا أمام منظر الحمامة وصوت الأبواق والمرأة المسكينة التي احترمت حياة طائر صغير.
أكملت المشي كما أفعل في استراحة الغداء كل يوم. أراقب عدد الخطوات على شاشة ساعتي الذكيّة حتى اشعر باكتفاء واطمئنان على أنني قمت بواجب الحركة اليومية المطلوبة. وفي طريق عودتي التقيت بالمرأة الرؤوفة التي أدخلت إلى قلبي السعادة حتى نظرت إلى انعكاس جسدي في الزجاج الجانبي وأنا اردد كلماتها "young lady".
لكن يونغ ليدي مصطلح ثقيل. تترتّب عليه أمور كثيرة. هو مصارعة يومية مع الوزن، والغرامات القليلة الزائدة، كي تليق بالجسد اليونغ الملابس المفروضة عليه. كنت أصغر بعشرين عام حين لبست موضة الكعب العالي المعروف بالـ "platform"، والجينز الواسع من فصيلة أقدام الفيلة أو الـ "pattes d’elephant". وكانت أمي حينها تتحسّر أنها لم تحافظ على كل القطع المماثلة التي لبستها قبل ذلك التاريخ بعشرين أو ثلاثين عامًا. وكنّا نضحك ونحدّثها عن قيمة قطع الـ"vintage" تلك. حتى وقعنا في ذلك الفخ. المفارقة ان أمي لم تتدخل في شؤون الموضة تلك بعد عودتها. تركت لبناتها الخمس ملعب الأزياء والتبرّج والتحقت بجيلها من النساء بما يتناسب مع أعمارهن.
سن الأربعين اليوم هو "The New 20"، أو سن العشرين الجديد. ولعلّ الخمسين كذلك ربما. يصغر معنا هذا العمر. ولربما نحن من يرفض أن يكبر.
ثقيل!
هذا الأمر لا يقتصر أبدًا على الأزياء والأوزان. على العكس، من إيجابيات نظام العالم الجديد أن أحجامنا على اختلافها صارت مقبولة بنسبة ما عالميًا. حتى اقرّت فيكتوريا بكهام مغنية فرقة السبايس غيرلز البريطانية الشهيرة، وزوجة لاعب مانشستر يونايتد الشهير دايفيد باكهام، المعروفة بنحولها الشديد أسوة بموضة التسعينات، أقرت مؤخرًا أنها سعدت لزيارتها شواطئ ميامي مع ابنتها حيث تمددّت على الشواطئ هانئة أجساد من كل المقاييس والأحجام. دايفيد بكهام كان قد تحدث منذ فترة قليلة أن زوجته تتناول الطبق نفسه منذ خمسة عشر عامًا، وهو مكوّن من أسماك وخضروات فقط!
شكرًا كيم كارداشيان. أنا اليوم أحب تضاريس جسدي وانحناءاته أكثر مما كنت عليه في العشرين. لقد تغيرت مقاييس الجمال.
"Beauty is in the eyes of the beholder". وليم شكسبير حدّثنا عن ذلك منذ أكثر من خمسمائة عام، والحقّ أن الجمال في عيون الناظر. والناظر اليوم طبيب تجميل تدخل عيادته امرأة لاستشارة ما، فيشير عليها بشكلها الجديد لو انصاعت لنصائحه. يعرض عليها سلسلة صور تفضح تجاعيد وجهها وخطوطه ويرسم لوجهها نبوءات للمستقبل القادم، تمامًا مثل ذلك الفلتر المنتشر على منصات إنستغرام وسنابشات. وتدخل عيادة الطبيب نفسه عشرات النساء للغرض نفسه. والحاصل وجه واحد يتكرر اليوم. الشفاه الغليظة (غليظة والله) والأنف الدقيق الذي يكاد يختفي والخدود المنتفخة، والجبين الواسع الخالي من أي خطوط، الفارغ من التعابير. إضافة الى كل ذلك تخرج المرأة تلك على العالم في فلتر إضافي يغير معالم وجهها كليًا. لا أعرفهن. تلك النساء اللواتي اتابعهن على السوشيال ميديا. أشعر بالغيظ كلما تابعت تفاصيل رحلاتهن. وتفاصيل وجوههن. إحداهن أكلت كثيرًا هذا الاسبوع فذهبت لإزالة الشحوم بماكينة مساج ما تعمل على تذويب شحوم البطن! يا إلهي! وأنا لا زلت أعدّ خطواتي!!
الجمال في عيون الناظر. والناظر اليوم طبيب تجميل تدخل عيادته امرأة لاستشارة ما، فيشير عليها بشكلها الجديد لو انصاعت لنصائحه
وأخرى تضايقت من موضع الفيلر تحت أنفها فقررت إضافة حقنتين فوق الخدّ للتخلص من الشوائب.
أتأمل أظافرها المطلية بثلاث ألوان. وشعرها الطويل الذي كان قصيرا البارحة فقط.. وعدسات عينيها الزرقاوين. وعدد المتابعين وأنا بينهم!
إحباط! ولا أعرف لماذا أتابعهن.. وأفكر كم واحدة غيري أصيبت بالإحباط هذا المساء! تعيسة هي المرأة اليوم. حتى هي تلك الملمّة بآخر صيحات الأزياء والتجميل. تمشي مثقلة بحمولة ضخمة. دخلت دوامة لا خروج منها. سخّرت مالها ونشاطها وتطلعاتها للحفاظ على شكل ما. أضافت هاجسًا آخر على هواجسها. تقول لي إحداهن "كبرتُ"، وأصرخ بها "وماذا تنتظرين، صرت في الخمسين". تشير إلى تجاعيد وجهها وأسألها "تخيلي لو أنك ما بكيت ولا ضحكت. لا حزنت ولا فرحت.. تخيلي وجهك الخمسيني أملس دون ذكريات العقود الخمسة التي مرت عليه". "صحيح" تقول. "صحيح".
من فرض علينا نحن النساء هذا؟ هل كان منتجًا في هوليوود أو طبيب تجميل؟
كلما وضعت فلتر الشيخوخة على وجهي بين اللعب والجدّ تأكدت كم أشبه أمي! تصرخ ليال بنتي "تاتا.. تاتا" ونضحك عاليًا. هنيئًا لها، وجه تاتا، وجه أمي، ووجه الصبية في الصور القديمة. وأنا أريد أن يكون لأحفادي جدة عجوز في ذاكرتهم مثل جدّتي.