يختص النظام الديمقراطي الأمريكي بخصائص لا يحوزها أي نظام ديمقراطي آخر. فالسياسة العامة، الخارجية والداخلية، تقع ضمن اختصاص السلطة الفدرالية، والأمر ينسحب بصورة مباشرة على السياسة الدفاعية والأمنية أيضًا. أما في الاقتصاد فثمة هيمنة فدرالية على القرارات المهمة المتعلقة باقتصاد البلاد، أو لنقل إن هناك نوعًا من التنسيق المباشر بين السلطة الفدرالية وبعض مؤسسات الاحتياطي الفدرالي، وبالأخص احتياطي نيويورك.
تمتاز الديمقراطية الأمريكية بنظام توظيف فدرالي معقد، فعلى طالب الوظيفة أن يستحصل على تصريح أمني، وتتدرج التصريحات الأمنية في أهميتها وشمولها وعمقها بحسب طبيعة الوظيفة
على هذا لا يكلف المواطن المقيم في ديترويت نفسه هم الاهتمام المباشر بالسياسة الخارجية والدفاعية، ومسارات الاقتصاد الكلي بشكل عام. وتنحصر همومه، مثله مثل سائر مواطني الولايات الخمسين، بقضايا محلية من قبيل: جودة الخدمات المحلية، ونسبة أعداد رجال الشرطة لكل مواطن، وعدد مراكز الإطفاء في كل مدينة، ونسبة الجرائم في الأحياء. وهذه كلها، مثلما يظهر، من الشؤون التي تضطلع بها سلطات بلدية في دول أخرى.
اقرأ/ي أيضًا: أيديولوجيات جديدة
وتمتاز الديمقراطية الأمريكية أيضًا بنظام توظيف فدرالي معقد، فعلى طالب الوظيفة أن يستحصل على تصريح أمني، وتتدرج التصريحات الأمنية في أهميتها وشمولها وعمقها بحسب طبيعة الوظيفة، فالذي يتقدم لوظيفة في الـ CIA سيخضع حكمًا لتدقيق أمني أوسع وأشمل وأعمق من طالب وظيفة في وزارة النقل. والحال فإن الانتماء إلى العالم الفدرالي المغلق هذا، يشبه في طبيعته الانتماء إلى الأحزاب العقائدية، أي أن المنتسب والمنتمي يخضع لامتحانات لا تحصى تتعلق بسلوكه العام، وسجله العدلي، والآراء التي يحملها، والعقائد التي يتبناها. وهو بالتالي يفقد صفة المواطن ليحوز صفة المنتمي المؤمن.
عليه، لا يضير الأمة الأمريكية أن تنشأ في ظلالها وتحت جناحيها ضروب من القوميات والانتماءات الفرعية. بل تكاد يوميات العيش في أمريكا تحض الناس – المواطنين، على تمتين انتماءاتهم السابقة على إقامتهم في البلاد. فيقيم المرء في هذه القارة الشاسعة، وهو يربي انتماءه السابق إلى الإقامة فيها، حيث يبقى الفلسطيني فلسطينيًا والإيرلندي إيرلنديًا والأرمني أرمنيًا، ولا يكون هؤلاء أمريكيي الانتماء إلا بمقدار ما تنجح حملات المرشحين إلى الرئاسة في دفعهم للاقتراع. وعلى جاري عادة الديمقراطيات، فإن يوم الاقتراع هو اليوم الوحيد الذي يكون للناخب فيه رأي في الشؤون العامة، بل ذهب جورج مايسون، وهو أحد الآباء المؤسسين للديمقراطية الأمريكية إلى إطلاق حكم قاطع حول دور النائب الذي انتخبته مقاطعته أو ولايته بعد انتخابه، حيث يرى أن من واجبه منذ أن تطأ قدماه عتبة الكابيتول أن ينسى كل وعوده لناخبيه، ويهتم فقط بمصلحة الأمة.
إلى هذه القوميات والعصبيات المنتشرة بحسب بلاد النشأة أو التحدر ثمة قوميات وعصبيات أخرى نشأت في هذا الاجتماع وقوي عودها وتصلبت وباتت تملك سلطات لا تحصى. هذه العصبيات الثانوية تتعلق عمومًا بنمط الحياة الذي يرتأي المرء أن يحياه أو يتحمس لأدائه: فثمة روابط لمحبي الدراجات الهوائية، وأخرى لرياضات التسلق، وهناك دعاة متعصبون للطعام العضوي، ودعاة آخرون لمقاطعة اللحوم الحيوانية، وهناك بالطبع محبو الحيوانات الأليفة والمتعصبون لها. هذا فضلًا عن متعصبين لمدينة نيويورك والحياة فيها، أو سان فرنسيسكو أو لوس أنجلس.
نحن نخسر الهويات الصلبة، كالمواطنة والجندر والعرق والنسب، لنُحل محلها هويات ثقافية ثانوية، تتجذر يومًا بعد يوم وتنتشر كنار في هشيم العولمة
والحق أن هذه العصبيات التي تبدو ثانوية في الظاهر، هي عصبيات عميقة جدًا. وقدرتها على التأثير على العالم لا يستهان بها. بل إن انتشارها في أمريكا وسطوتها على المشهد العام سرعان ما يؤدي إلى انتشارها في العالم على نحو لا راد له. وينشأ في البلاد القصية والبعيدة أحزاب ومتعصبون لهذه القوميات الثانوية، يعقدون في ما بينهم روابط متينة من التضامن والتراص تفوق في متانتها روابط المواطنة في كثير من الأحيان.
اقرأ/ي أيضًا: مآسينا التي تزداد وضوحًا
اليوم يمكن لأي كان أن يجد لبنانيين كثرا يوافقونه على خرافة الانتماء إلى لبنان والهوية اللبنانية، كما يمكن أن يجد كثرًا من المصريين يرون الرأي نفسه في ما يخص الهوية المصرية، وقائمة الهويات القابلة للتلف تطول وتعم في كل مكان من أقصى الكرة الأرضية إلى أقصاها. إنما يندر أن تجد متحمسًا للطعام العضوي يقبل اعتراضًا سياسيًا أو اجتماعيًا أو اقتصاديًا على خياراته. وبطبيعة الحال لن يقبل مقتنو الحيوانات الأليفة أي تشكيك في خياراتهم. والقائمة أيضًا تطول في هذا المجال. لكن الخلاصة القاتمة تتلخص بالتالي: نحن نخسر الهويات الصلبة، كالمواطنة والجندر والعرق والنسب، لنُحل محلها هويات ثقافية ثانوية، تتجذر يومًا بعد يوم وتنتشر كنار في هشيم العولمة، لنتحول، بعد زمن منظور، إلى منتمين لأحزاب معولمة لا يجمع بين منتسبيها ومنتسبي الأحزاب الأخرى أي جامع، ولا يربط بينها أي رابط.
يقترح عليّ يوتيوب أن أكون محازبًا لشركة تويوتا. ذلك أنني أملك سيارة من هذا الطراز، ورغم أنني اخترت الطراز بمحض الصدفة، إلا أنني كل يوم أفكر أنه من الواجب الدفاع عن خياراتي والانتماء إلى نادي مالكي التويوتا ومحاربة نادي مالكي المرسيدس.
اقرأ/ي أيضًا: