لدي توليه السلطة في مصر، اتكأ الرئيس عبد الفتاح السيسي علي رصيد شعبي هائل، مكّنه من أن يكون المرشح الوحيد تقريبًا للمرحلة، والذي دعمته غالبية مؤسسات الدولة والقطاع الأكبر من الجمهور في الشارع، وبالتالي غالبية الرموز والكتل السياسية، باستثناء بعض الرموز التي ربما لم تدعمه كرئيس للبلاد، لكنها لم تملك في نفس الوقت معارضته أو طرح بدائل نظرًا لشعبيته الهائلة، وأيضا لكونه محملًا بالثقل السياسي والشعبي للمؤسسة العسكرية.
في مصر، فتح الطريق أمام تولد حراك شعبي احتجاجي ضد الرئيس الذي بدأ عهده بشعبية طاغية
في هذه الأجواء كان المجال العام مستعدًا ومتعطشًا لاستقبال رؤية استراتيجية جديدة للمستقبل، يطرحها الزعيم الجديد، ليجدد آمال المصريين في الخروج من المنزلق الاقتصادي والسياسي الذي دخلت فيه مصر في الأعوام الأخيرة.
اقرأ/ي أيضًا: جوليو ريجيني.. قتلوه كما لو كان مصريًّا
في الحقيقة لم يفعل الرئيس الجديد ذلك، فلم يتحدث بشكل استراتيجي حقيقي عن التعليم والصحة مثلًا – القطاعات الاستراتيجية الأبرز- ولكن في المقابل ارتكز خطابه على مرتكزين أساسيين: استدعاء ومداعبة الصورة الناصرية في مخيلة الجماهير، من خلال طرح مسألة "قناة السويس الجديدة" و"المفاعل النووي المصري" إلى آخر العناوين والرسائل التي تستهدف بالأساس استدعاء مخزون المرحلة الناصرية، وعلى "مكافحة الإرهاب" كخصم متربص بالدولة والمجتمع، تعامل معه الرأي العام كمبرر كافي لتأجيل الحديث عن المسائل الحقوقية والحريات وإعادة تأهيل جهاز الداخلية بشكل يحترم حقوق وآدمية المواطن.
وأثمرت الحالة الحماسية وقتها عن استجابة قطاعات كبيرة من المواطنين لنداء الرئيس السيسي بالاستثمار في شهادات قناة السويس لتوفير السيولة اللازمة لتنفيذ المشروع في وقت قياسي "بأموال مصرية"، واختلطت في هذه الاستجابة الشعبية المشاعر الوطنية ومشاعر تأييد الرئيس الواعد، وكذلك مشاعر الرغبة في الاستفادة من الفوائد المرتفعة لشهادات قناة السويس التي وعدت بها الحكومة، في ظل الأزمة الاقتصادية، ما جعل "دعم قناة السويس الجديدة" ليس مجرد واجب وطني، وإنما استثمار جيد في نفس الوقت للمواطنين المساهمين!!
بمرور الوقت بدأ الوهج الحماسي الأول في الهدوء تدريجيًا حتى وصل إلى مرحلة الانتظار والترقب من جانب الشارع، ثم مع تدني الوضع الاقتصادي والارتفاع في أسعار الخدمات الأساسية كالكهرباء والمياه والغاز المنزلي، وصل الحس العام إلى نقطة "عدم الرضا الصامت" مع الإبقاء على هامش من الأمل و"الرهان" على الرجل الذي يعتبره الناس أنه برغم كل شيء "كانت الأمور بدونه لتكون أسوأ".
اقرأ/ي أيضًا: وثائق بنما.. ساسة الفساد المالي حول العالم
دفاعان أساسيان عن الرئيس يقفان دائمًا كحائط صدّ في الوعي العام ضد تولد أي حراك احتجاجي شعبي، الأول: هو التهديد الأمني الذي يستشعره المواطن مع حفاظ الدولة على خطاب "محاربة الإرهاب"-وهو الخطاب الذي لم تعد له ذات المصداقية كما كانت في أعقاب الإطاحة بنظام الإخوان-، والثاني: احتفاظ الشارع ببعض الآمال المعلقة على الرجل "الذي يحارب الفساد من داخل الدولة ويلقي مقاومة شرسة من بقايا نظام مبارك"!!
الرئيس السيسي لا يحارب الفساد كما يأمل البعض، لكنه على العكس، يدافع عنه ويقف في معسكره
اليوم، تطرح على الرأي العام قضيتين كفيلتين بانهيار السد، وبالتالي فتح الطريق أمام تولد حراك شعبي احتجاجي ضد الرئيس الذي بدأ عهده بشعبية طاغية: القضية الأولى هي قضية مقتل الباحث الإيطالي جوليو ريجيني حيث تعيد إلى الأذهان صورة داخلية مبارك التي كانت السبب الرئيسي وراء احتجاجات "يناير 2011"، خاصة مع المحاولات البائسة للداخلية للتخلص من الأزمة إلى الحد الذي ذهبت معه إلى "قتل" مجموعة من المشبوهين لاستخدامهم كتابوت للقضية المحرجة وتقديم رواية هزيلة لم يصدقها أحد، في ظل استمرار الضغط من الجانب الإيطالي حتى وصل اليوم إلى التلويح بقطع العلاقات مع مصر.
القضية الثانية، وهي الأهم، هي إقالة المستشار هشام جنينة بقرار رئاسي عقب تصريحاته المتكررة عن حجم الفساد في أجهزة الدولة، وهو الدور المنوط به وبجهازه بموجب الدستور المصري ومواده من 215 إلى 219.
عزل المستشار هشام جنينة بقرار رئاسي يرسل رسالة خفيضة الصوت، لكن واضحة تمامًا للرأي العام في الشارع المصري، مفادها أن الرئيس السيسي لا يحارب الفساد كما يأمل البعض، لكنه على العكس، يدافع عنه ويقف في معسكره، وهي الرسالة التي ستكون لها تداعياتها دون شك. فمؤسساتيًا تقوض هذه الرسالة تمامًا استقلال الأجهزة الرقابية والقضائية وتثبط محاولات قياداتها وموظفيها للمساهمة الجادة في تطهير جهاز الدولة بأي شكل، ومن ثم الحفاظ على وجود هذه الأجهزة ككيانات شكلية منزوعة الصلاحيات، وفي المقابل توسع هذه الرسالة من ثقة الأجهزة الأمنية وقيادات الداخلية الفاسدة في دعم القيادة العليا لها في مسارها، ومن ثم دعوة صغار الضباط وأمناء الشرطة إلى الاستزادة من استغلال النفوذ واستعمال العنف وتكرار حوادث "ريجيني" مشابهه في الفترة القصيرة القادمة. وشعبيًا تتزامن هذه الرسالة مع وضع اقتصادي شبه منهار، وأزمة دولار يتحدث عنها حتى بائع الخضروات قبل تاجر العملة.
الرئيس السيسي بعدم تدخله في قضية ريجيني، وبإصداره قرار إقالة جنينة، يبدو وكأنه يقدم على الانتحار البطيء شعبيًا وسياسيًا دون سبب مفهوم، مثيرًا لتساؤل مشروع وحقيقي عما إذا كان يدرك فعليًا آثار هذا القرار على شعبيته التي هي على المحك الآن.
اقرأ/ي أيضًا: