ديمقراطية واستعمار، ديمقراطية وتقسيم، ديمقراطية وانقسام، ديمقراطية وعشائر، وديمقراطية بلا أحزاب، عناصر تحضر بضرورة التمهيد لتناول الحدث الانتخابي في فلسطين هذه الأيام. ليس بعيدًا عن مخرجات تسجيل القوائم المترشحة للمشاركة في الانتخابات المحلية الفلسطينية للهيئات المحلية التابعة للسلطة الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، الفردوس النظري الموعود لأصحاب تهاليل حل الدولتين القابلتين للحياة المعترفتين ببعضهما بعضًا، تبقى محاور المُستهل عالقة، وليس فقط محط جدل، بشأن الانتخابات الفلسطينية، لتضاف إلى كل غرائبية مخرجات تسجيل القوائم سواء تجاه بوركيني أسماء المترشحات الإناث، طبعًا ضمن ما يفرضه قانون الكوتا النسائية لا أكثر، أو حالة التعويم في عدد القوائم في بعض المناطق والعجز، الحزبي والعشائري، عن تشكيل قوائم من أصله في مناطق أخرى كثيرة.
ولطول وكثرة التكرار والجدل في إطار نقاش الديمقراطية الفلسطينية، وليس حال الديمقراطية في فلسطين بالضرورة، بات الشأن الانتخابي منبع اختزال كل النقاش حول الديمقراطية، تلك المحصورة في يوم تحدده لجنة الانتخابات وينفر الناس خفافًا ثقالًا بأصواتهم إلى الصناديق، فيغيب كليًا الإطار القيمي للديمقراطية وكذلك سحبها إلى مجال الممارسة الاجتماعية الاقتصادية بكل تداخلها السياسي وتنحصر بمن صوت ومن لم يصوت، ليس في هذا شطط عن السائد كونيًا، لكن فلسطينيًا، هناك من يرى الانتخابات استحقاقًا وطنيًا وبين من يحرمها شرعًا ولرأي ثالث باع في تجريمها وطنيًا، ليس الانتخابات بتجرد، إنما الانتخابات ضمن إطار السلطة الفلسطينية بما هي اشتقاق لجهاز الإدارة الذاتية برعاية إسرائيلية.
كما لا مجتمع مدني دون مدينة ومدنية، كذلك لا ديمقراطية بالانتخاب فقط دون مشاركة سياسة ودون خيارات
وعليه يمكن أن تكون للموجة الحالية من حُمى الاقتراع والقوائم الانتخابية في الضفة الغربية وغزة مضامين عدة متولدة من النقاش المختص بشأن الديمقراطية في فلسطين بمعناه الأول، بكل العناصر المتوفرة للتفاعل لدى طرح سؤال الديمقراطية في فلسطين.
الحقيقة الأولى لدى التطرق للشأن الفلسطيني، حتى بخصوص انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، مائلة في أن فلسطين بلد مستعمَر منذ قرن، وللاستعمار فيه دولة، نجم عنها تفتيت الأرض وتشتيت الإنسان، ومجربات الحياة اليومية في عموم فلسطين تتفاعل تحت سطوة السلطة الاستعمارية، وكذلك الحال لمن هم خارج فلسطين من اللاجئين الفلسطينيين، لم يسلموا من السطوة عينها، سواء في لحظة السبب الأساسي، وقت التهجير القسري، أو في استمرار الحالة بما شهدت من انتهاكات فردية وجمعية طويلة وعريضة منذ النكبة وصاعدًا.
اقرأ/ي أيضًا: النضال والسياسة
وتثير الحالة الانتخابية في الضفة الغربية وقطاع غزة، خاصة أنها تؤخذ بباب التعويل على استكمال المسار الانتخابي نحو المجلس التشريعي ومقعد الرئاسة المنتهية شرعية شاغله، المختص بشؤون السلطة ومن يعيشون في مناطق تواجدها، دون ولاية حقيقة أو تمثيل لأي قطاع من الشعب الفلسطيني في شتاته، ولا حتى لمن بقوا داخل مناطق الخط الأخضر، تساؤلًا أوليًا حول الأولوليات الفلسطينية في جانب، وحول مدى ترابط النضال الديمقراطي بالنضال ضد الاستعمار ضمن ثنائية الاجتماعي والوطني ومنه القومي الأوسع، وعلى ذات الإيقاع من الأهمية سؤال الأولوية بين جهاز السلطة الفلسطينية وتمثيل منظمة التحرير الفلسطينية.
ولأجل عدم تحميل الحدث أكثر من طاقته، أو من دوره التاريخي الحاضر، مجددًا تؤخذ هذه الموجة الانتخابية في إطارها المحلي الخدمي، بعيدًا عن جانب التمثيل السياسي، على الرغم مما سيكون للنتائج المرتقبة من دلالات تضاف لما أشرت عليه لعبة القوائم التوافقية، أشبه بالتعيين، ضمن اتفاق عشائري فصائلي، من اختلاق ألعاب الإقصاء الانتخابي إلى مداها، مما يعود إلى قاعدة أن القانون ليس غمامة أخلاقية تمثل الجميع، فهو آلية من وضعه لخدمته على حساب مصالح من يُطبق عليهم.
الرهان أن بإتمام الانتخابات تكون خطوة مصالحة وطنية كبرى قد حلت، يبقى في مجال تأجيل الأزمات وترحيل انفجارها التالي لبعض الوقت
ثم يأتي التعويل الهزلي على الانتخابات المحلية، كونها ستنفذ بالضفة وغزة في آن لإنهاء الإنقسام الفلسطيني، وكأن حالة الانقسام الناشئة علانية منذ عقد على الآن ما هي إلا حالة عدم مزامنة تقنية، أو صعوبة تواصل أحد الأقاليم بالسلطة المركزية، في تغييب لحقيقة أن الانقسام إنما هو وليد التناقض بين منهجيتي عمل، إن لم يقال أكثر بخصوص المسألة كونها تختص بصراع تحرر وطني قومي. فالرهان أن بإتمام الانتخابات تكون خطوة مصالحة وطنية كبرى قد حلت، يبقى في مجال تأجيل الأزمات وترحيل انفجارها التالي لبعض الوقت، وليس أدل على أن الأزمة الحقيقة لم تمس بحل، أن هناك ضمن الضفة الغربية من لم يجرؤ على إعلان قوائم انتخابية باسمه، من باب تجنب حرق الكوادر بالاعتقال وسياسة الباب الدوار بين مخابرات السلطة ومخابرات الاحتلال، أو من باب تجنب التنصل المحلي والدولي من الإقرار بالنتائج على غرار آخر انتخابات تشريعية في الضفة وغزة، ما يعيد الاستعمار ومقاومته سؤالًا ملحًا على مجمل مشروع الانتخابات الفلسطينية، وكذلك نقاش مسألة الديمقراطية في فلسطين.
وباسترجاع خلاصة آلية تشكيل القوائم الانتخابية للموسم الجاري، لا يمكن إنكار مدى الحضور العشائري/ العائلي في تشكيلة القوائم، والحديث لا يدور عن تلك القوائم الممثلة أصلًا لعشيرتها دون ادعاءات، وهي قلة قليلة، بل عن القوائم الحزبية، التي من المفترض أن تعبر بتشكيلة مرشحيها عن قيم سياسية ترتبط بمعنى المواطنة ومفهوم المجتمع المدني والشعب والأمة بما أنها وليدة حزب سياسي، بل وفصيل مقاوم، حالي أو سابق سيان، لكن الحال أن الفيصل في اختيار المرشحين بقي حتى هذه الانتخابات معيار العشيرة بامتياز، حتى تقترب الإمكانية من القول أنها انتخابات بأحزاب وعشائر وعوائل حزبية، لكنها ليست بأي حال على علاقة بشيء بقدر ما هي على علاقة بـ"الديمقراطية" بلا أحزاب وبلا مشاركة سياسية، فكما لا مجتمع مدني دون مدينة ومدنية، كذلك لا ديمقراطية بالانتخاب فقط دون مشاركة سياسة ودون خيارات، والأهم دون برامج سوى ذات النسخة الخدمية المعممة بإغراءات خدمية كتلك التي لبرامج مساعدات الاتحاد الأوروبي.
اقرأ/ي أيضًا: