أتذكر صباح اليوم التالي لتنحي الرئيس المصري المخلوع محمد حسني مبارك في شباط/فبراير 2011، حينما كنت أشاهد التلفاز مع والدي، وكانت إحدى القنوات تجري لقاءً مع الناس في الميدان. كان الناس ينظفون الميدان ويرتبونه ويكنسون الشوارع في المدينة كذلك، وجاء المراسل لأحد الأشخاص، وسأله: "لقد بقيتم في الميدان لفترة طويلة ولم تبدؤوا حملة التنظيف إلا اليوم. لماذا؟" يومها أجاب هذا الشخص: "أنا عمري 30 سنة يا باشا. عمري 30 سنة وأول مرة أحس إنه البلد ليّا. أول مرة أحس إنه أنا شاركت بشيء وطني وجاب فايدة".
كان رد هذا المواطن العادي الذي غالبًا لم يكمل تعليمه، ردًا فلسفيًا من نوع ما. أجاب بأن البلد له. والأمثلة تتعدد، فالمكان الذي يولد ويعيش فيه الشخص، يختلف عن المكان الذي ينتمي إليه. المكان الذي يعطيه قيمته وحقه في المشاركة. المكان الذي يشعر فيه الشخص أنّ المكان له، وليس عزبةً لحزبٍ ما أو لشخصٍ ما، وهو الفرق الحقيقي والكبير بين البلاد التي تحترم مواطنيها، والتي تعتبرهم سكانًا في حظيرتها. لذلك في كثير من الأحيان، لا نجد أن حملات التوعية لنظافة الأماكن العامة والحفاظ على مرافق الدولة تجدي نفعًا في بلادنا العربية، فالمواطن بشكل عام يشعر بأنه مغترب، وليست غربة لطيفة أبدًا، أو غربة سياحية، وإنما غربة في المكان الذي يجدر أن يشعر فيه بالاستقرار والأمان.
لا تعدو الانتخابات الفلسطينية مسرحية يعرف جميع أطياف الشعب، الذي فقد هويته وانتماءه وترابطه وأوصاره، أنها لن تنجح
في عام 2005، كانت هناك انتخابات بلدية في الضفة الغربية وقطاع غزة لاختيار ممثلي دوائر الحكم المحلي، ليشعر الفلسطينيون بعد فترة طويلة بأنّ لهم صوتًا يشاركون بهِ، وشاركوا وانتخبوا وتعددت التشكيلات والأحزاب الفائزة في جميع أنحاء الوطن دون وجودِ أي تطرف من نوع ما أو حساسية بين أطياف الشعب "وأركّز على الشعب"، ولكن بعد الأحداث التي مرّ بها القطاع من مناوشات حزبية قتلت روح تلك العملية الانتخابية وانتهت بتمليك أحزاب على أروح الناس، سواء في الضفة أو القطاع، جعلت نتائج العملية الانتخابية تذهب هباءً منثورًا.
اقرأ/ي أيضًا: انتخابات فلسطين.. الإقصاء الديمقراطي
ولم يتوقف الأمر على ذلك، بل إن كل الشعارات الرنانة التي تغنت بها الأحزاب والقوائم أثناء الانتخابات لم يتحقق ولا حتى ربعها في شقي الوطن. غير ذلك، استمر حكم المجالس البلدية لأكثر من 10 سنين دون اختيار شعبي، بل بتغيير داخلي من أعضاء مجلس بلدي ورؤساء بلديات، منهم من لا يمت للعمل البلدي بصلة، وإنما أخذوها مناصب شرفية ولم يحققوا فيها شيئًا غير سخط الناس. ما جعل الناس يشعرون أن ما يدفعونه من ضرائب وفواتير لا تؤتي أكلها بسبب غياب الرؤية في العمل البلدي، ما يجعل المشاريع متضاربة، ففي يوم يُعبَّد شارع ما، وفي اليوم الآخر يخلع هذا الشارع لأجل زرع خط ماء جديد، ولا تتم أي عملية لصيانة الشارع.
الأمر ذاته تكرر في غزة بعد الحرب، فكثير من المناطق المهمّشة لم يتم صيانة شوارعها، ولم يتم الانتباه لها سواء قبل الحرب أو بعد الحرب على خلاف الحملات الانتخابية لبعض التنظيمات التي وعدت بالاهتمام بالمناطق المهمشة، لكن جل اهتمامها الحقيقي كان على المناطق الباذخة في قطاع غزة، ومناطق الفنادق والشاليهات.
الآن، في عام 2016 يتكرر سيناريو الانتخابات البلدية مُجددًا. سيناريو مسرحي كامل بين الأحزاب الفلسطينية في محاولة لتجديد الشرعية لبعضهم البعض غالبًا. مسرحية وهمية يعرف الجميع من هي الشخصيات الرئيسية فيها. مسرحية يعرف جميع أطياف الشعب الذي فقد هويته وانتماءه وترابطه وأوصاره أنها لن تنجح بين قادة شقي الوطن. فكيف يتوقع النجاح لمثل هذه العملية مثلًا، وبعد 10 سنوات لم تنجح أي بوادر مصالحة بينهما؟
بعد 10 سنوات، لم يفكر أي حزبٍ من الأحزاب الكبرى أن يتنحى ومشاكله عن حياة الناس ليسمح للجيل الجديد بأن يشكل لذاته قاعدة جديدة سواء للعمل الوطني العام أو المحلي لينافس بكل ما لديه لأجل أن يحصل على الشرعية ليكون مسؤولًا مجددًا. فالتنظيمات المعاقبة دوليًا تخوض الانتخابات مجددًا رافعة شعارات الدين والمقاومة في وجه الناس في غياب كامل للبرامج الانتخابية الواعدة، مع علمها بأنها ستبقى معاقبة ومحاصرة ما سيؤثر على حياة الناس. والتنظيمات التي من لا يجد لنفسه حجة فشلٍ فيعاير فشله بها ويرفع ضدها شعارات التخوين ويزرعها في اللاوعي الوطني، ما يزرع الرفض المبدئي لها.
في عالمٍ لا يتم تدريس روح العملية الديمقراطية لأبنائهِ في المدارس، وإنما أشياء أخرى بعيدة كل البعد عن ذلك. في عالم تتناحر فيه الأحزاب على السلطة أكثر مما تتناحر على خدمة المواطن. في عالم لا يشعر أبناء الوطن بأنهم ينتمون له، بل وأصبحت جلّ أحلامهم هي الهجرة بعد 10 سنوات من الفُرقة. في عالمٍ يغيب فيه شعار الوطن وعَلَمه وتعلو فيه راية التنظيم وشعار الحزب... هو عالم حتمًا، ليس لنا!
ملاحظة: هذا المقال ليس بلسانِ شخصٍ يتحدث من برجه العاجيّ لينظر للناس، وإنما بلسان مواطنٍ بسيط يريد لأدنى حقوقه أن تتحقق دون الخوض في سجالات التنظيمات، فالمواطن ليس مسؤولًا عن التنظيمات والدفاع عنها في مشاكلها، وإنما العكس هو ما يجدر بهِ أن يكون.
اقرأ/ي أيضًا: