من المرتقب عقد الانتخابات الرئاسية الثالثة في جمهورية صوماليلاند المعلنة من طرف واحد، غدًا الإثنين الموافق 13 تشرين الثاني/نوفمبر 2017. ويعرف الإقليم تنظيم انتخابات تمثيلية (برلمانية ورئاسية وبلدية) في محيط مضطرب، إما من حيث سلطوية الحزب الحاكم، أو حتى من جهة الاضطراب الأمني بسبب الاستقطابات المبنية على توزيع المحاصصات على أسس إثنية، كما هو الحال في كينيا.
المفارقة أن القيادة السياسية في صوماليلاند لم تبذل الحد الأدنى من الجهد لنيل الاعتراف بالإقليم كدولة مستقلة، رغم المطالبات بذلك!
ورغم أن انتخابات صوماليلاند، دائمًا ما تكون مدعاة إشادة وثناء دوليين، لكنه من الواضح أنه إعجاب لا يرقى لأن يصل إلى الاعتراف بالإقليم كدولة مستقلة. ويذكر الصوماليلانديون أنفسهم والعالم، بمناسبة انتخابية أو بدونها، أن المعايير المطلوبة من دولة كي تحظى بالاعتراف تتوفر فيهم، فالعناصر الأربعة التي حددتها "اتفاقية مونتفيديو - Montevideo Convention" عام 1933، وهي: السكان، وإقليم محدد، وحكومة فعالة، وأهلية الدخول في علاقات مع الدول الأخرى؛ جميعها مستوفاة في صوماليلاند، فلماذا لا يعترف العالم بها كدولة؟
اقرأ/ي أيضًا: هرجيسا ومقديشو... الوحدة الرومانسية
تعقيدات هذا السؤال أفريقيًا، وفي منطقة القرن الأفريقي تحديدًا، المعروفة بالنزاعات الحدودية؛ شائكة إلى أبعد حدود. لكن المفارقة الكبرى في هذا السياق أن القيادة السياسية في صوماليلاند، لم تفعل شيئًا يذكر من أجل نيل الاعتراف، ولم تبذل الحد الأدنى للتعريف بقضيتها على الأقل، ناهيك عن إقناع دولة من دول العالم بمرافعتها أمام المحافل الدولية.
في الداخل، يبدو أن مسألة الاعتراف لا تتعدى كونها دعاية موسمية في أوقات الانتخابات، تتبادل خلالها الأحزاب المتنافسة التهّم بالافتقار إلى خطة استراتيجية للوصول إلى الاعتراف، وهو أمر ثابت لدى الأطراف السياسية عامة، فكما كان جليّا من المناظرة الرئاسية التي جرى تنظيمها في 20 تشرين الأول/أكتوبر الماضي، والتي جمعت بين مرشحي الأحزاب الثلاثة المتنافسة على الرئاسة ونوابهم، بات افتقارهم لرؤية حقيقية بشأن الاعتراف، أمرًا ملموسًا لدى المواطن.
وحسب التعريف الشهير للمفكر الألماني ماكس فيبر، فإن معيار الدولة الرئيسي، هو "احتكارها للاستخدام المشروع للعنف"، وقد يكون ذلك نهجًا عمليًا، ولكن يتبين لنا أن الحكومة الفيدرالية الصومالية تفشل بشكل واضح في تلبية هذا المعيار، إذ إن سيادتها لا تصل إلى هذه المنطقة، ورغم ذلك لا تزال تعتبر "دولة ذات سيادة" لدى دول العالم. إلا أن إقليمها الشمالي، صوماليلاند، قد استوفى هذا المعيار منذ أن أعلن استقلاله من طرف واحد، في عام 1991. ولها عملات، وتسجيل سيارات، وحتى جوازات سفر، ومجالس تشريعية وتنفيذية منتخبة بطريقة ديمقراطية، لكن المجتمع الدولي والاتحاد الأفريقي يرفضان الاعتراف باستقلال صوماليلاند لجملة أسباب مركبة.
بوجه عام، ليس سرًا أن مراكز القرار العالمي تبدي نفورًا من التغيرات الحدودية، وإنشاء دول جديدة. يكفي الإشارة هنا لما حصل قبل أسابيع من رفض العالم لاستفتاء انفصال كل من كتالونيا وكردستان العراق.
أفريقيًا، خلال فترة ما بعد الاستقلال، اتجهت الجغرافيا السياسية في القارة السمراء إلى تقديس "الحدود الاستعمارية"، أي الحدود التي وضعتها القوى الاستعمارية الأوروبية في القرن التاسع عشر. وفي جميع أنحاء القارة، لم يحدث سوى تغييرين في الخريطة الاستعمارية منذ الستينيات: انفصال إريتريا عن إثيوبيا في عام 1993؛ وجنوب السودان عن السودان في عام 2011.
وفيما يتعلق بمسألة صوماليلاند، فإن الاتحاد الأفريقي، الذي تأسس لغرض تكريس الحفاظ على الموروثات الاستعمارية الرئيسية، والذي يشدّد ميثاقه على "احترام الحدود القائمة"، تُحال إليه الأمور من قبل المجتمع الدولي، ليتمسك الاتحاد بخطه التقليدي، فيرى أن الاعتراف بصوماليلاند له تداعيات سلبية، وأنه سيذكي المطالب الانفصالية في المنطقة. كما يشترط أن يبدأ الاعتراف من الدولة الأم، أي الحكومة الفدرالية الصومالية.
على عكس جنوب السودان صاحب الهوية المختلفة عن السودان، يملك الصوماليون جميعًا هوية متجانسة في اللغة والعرق والدين والثقافة
إلا أن المفارقة تكمن في أن صوماليلاند تدّعي العودة إلى حدود الاستعمار البريطاني، مفترضةً أن هذا مطلب متسق مع مبادئ الاتحاد الأفريقي. لكن العقبة الحاصلة أن تقديس الحدود جرى بعد الوحدة بين صوماليلاند البريطاني والصومال الجنوبي، وتأسيس جمهورية الصومال، أي في عام 1964. لكنه احتلال لم يحصل تسويقه من طرف صوماليلاند.
اقرأ/ي أيضًا: الصومال بين حزم ورعد وغياب
وإذا قارنا بحالة جنوب السودان، أحدث دولة في العالم، فثمة فارق رئيسيّ جعل انفصال جنوب السودان جذابًا لدى المجتمع الدولي، وهو الهوية المغايرة للإقليم عن باقي السودان، فالمسافة العرقية والثقافية بين جنوب السودان وشماله، اعتُبرت كافية من قبل المجتمع الدولي لتخويل جنوب السودان بفك الارتباط عن السودان، لإيجاد حل دائم ونهائي للنزاع السوداني الطويل، والذي نظر إليه المجتمع الدولي كنزاع بين الشمال العربي المسلم والجنوب الأفريقي المسيحي، ما أضفى على مطالب جنوب السودان الانفصالية نوعًا من القبولية والتعاطف.
على النقيض من ذلك، فإن الصوماليين هم أكثر الشعوب تجانسًا في القارة الأفريقية، فيما يتعلق باللغة والعرق والدين والثقافة ونمط الحياة، وهذا التجانس يشكل تحديًا حقيقيّا أمام محاولات الاعتراف بصوماليلاند كدولة مستقلة، والعالم ينظر بعين واحدة للمسألة الصومالية ككل.
ولا ننسى أيضًا، أن كسب الشرعية من الأمم المتحدة مرهون بمصالح الدول الكبرى والأهمية الاقتصادية للمناطق المنفصلة، وموقف الحكومة المركزية من الانفصال.
وفي حالة صوماليلاند، يكمن الفشل في تسويق القضية لدى صناع القرار العالمي، فعودة للمقارنة مع جنوب السودان، حيث كان اللوبي من أجل انفصال جنوب السودان مثلًا، صاخبًا في الكونغرس الأمريكي وأماكن أخرى، بينما يحافظ مشجعو استقلال صوماليلاند على مستوى منخفض نسبيًا. لا ننفي أن هناك نشاطًا موجودًا على هذا الصعيد، لكنه ضعيف ودون المستوى على أيّ حال. وهناك مثلًا عدد من مجالس المدن في المملكة المتحدة، مثل كارديف، أعلنت أنها اعترفت بصوماليلاند بمفردها. ولكن، حتى الآن لا يزال اعتراف دولة من دول العالم حلمًا بعيد المنال.
يخوض طرفا صوماليلاند والحكومة الصومالية منذ سنوات، محادثات متعثرة برعاية تركية، لكنها محادثات يتمسك الطرفان فيها بما يعتبره كل طرف مبادئه الثابتة. وفي المجمل لا تحمل هذه المحادثات الكثير من الأمل، نظرًا إلى أن الوسيط التركي نفسه يتبنّى موقفًا داعمًا للوحدة، والطرف الصوماليلاندي، بوضعه الحالي، لا يملك الرؤية ولا المصداقية لفعل شيء جديّ من أجل نيل الاعتراف الدولي.
في الصومال، وبالنظر إلى عدم الإستقرار الأمني والسياسي التي تمر به البلاد، وفضلًا عن الواقع الديموغرافي الذي ولد فيه أكثر من ثلاثة ملايين صوماليلاندي بهوية وطنية خاصة متمايزة عن الهوية الوطنية الصومالية، بعد أن أعلن الإقليم استقلاله المستأنف، ولم يفكروا أبدًا بأنهم مواطنون في الصومال؛ لا يمكن تصور أيّ سيناريو لإعادة دمجهم في مثل هذه "الدولة" بشكل سلس، في المدى المنظور على الأٌقل.
لا يُرجح أن تشهد قضية استقلال صوماليلاند انفراجة قريبة، ما لم تبادر القيادة السياسية إلى كسب حلفاء وأصدقاء حول العالم
وفي كل الأحوال، يمكننا التعويل على الانتخابات الحالية على قضايا تتعلق بالتنمية وقضايا اجتماعية أخرى متدهورة، لكن قضية الاستقلال ستبقى عالقة لأمد غير محدد، ولا يلوح في الأفق أي منظور لانفراجه قريبًا، ما لم يبادر الطرف الصوماليلاندي في كسب حلفاء وأصدقاء حول العالم، على غرار ما فعله جنوب السودان، لكن على أن يكون بالطبع صديقًا ليس على غرار الإمارات العربية المتحدة التي خوّلها الحزب الحاكم إقامة قاعدة عسكرية وتشغيل ميناء بربرة لعقود من الزمن مقابل المال، أو بحسب التعبير الصومالي الظريف "حق القلن" أي "الرشوة".
اقرأ/ي أيضًا: