في ألبومه الأخير "ثلاثي أين"، قدّم الملحن والمغني الفلسطيني باسل زايد عملًا مغايرًا ومغامرًا من حيث مضمونه الذي تراجعت فيه مساحة الأغنية لصالح الموسيقى الآلاتية، إذ ضم الألبوم 7 مساراتٍ مقابل أغنيتين فقط، وهنا بالضبط تجلّت مغامرة زايد الذي راهن على الموسيقى رغم الفجوة الكبيرة القائمة بينها وبين معظم المستمعين العرب.
"أيضًا رأيت" ألبوم فارق في تجربة باسل زايد، وربما أكثر ألبوماته قابلية للتأويل وإعادة القراءة لكثرة ما يتضمنه من أفكارٍ ودلالات مختلفة
ليست المغامرة وحدها من تجعل من "ثلاثي أين" عملًا فريدًا، وإنما نوعية مقطوعاته التي جاءت متماسكة ومشدودة بطريقةٍ لافتة توحي للمستمع أنها صادرة عن تصوراتٍ موسيقية عميقة، ومحاولاتٍ دؤوبة في البحث عن مساحاتٍ موسيقية جديدة ترضي الذات وتطلعاتها بالدرجة الأولى.
اقرأ/ي أيضًا: حين نخنق من نحب.. فيروز مثالًا
هذه الجرأة في تقديم ما يلّبي رغبة الذات وتطلعاتها، وإن تعارضت مع متطلبات السوق، هي أساس ألبوم باسل زايد الجديد "أيضًا رأيت"، الذي ينهض على مغامرة جديدة تتمثل في تخليه عن القصيدة الموزونة والمحكية لصالح قصيدة النثر، التي يبدو أن إنشادها ينطوي على مجازفاتٍ مختلفة، دفعت أغلب المغنين والملحنين العرب إلى إهمالها. مع ذلك، لا يبدو أن غاية باسل زايد من غنائها هو رد الاعتبار إليها، وإنما المساهمة في تصحيح علاقتها بالموسيقى، وربما تأسيس علاقة جديدة تُثبت أن الموسيقى قادرة على استيعاب النثر حتى في غياب الوزن والقافية.
يغنّي باسل زايد في "أيضًا رأيت" 8 قصائد لكلٍ من أنسي الحاج، وديع سعادة، عباس بيضون، سركون بولص، وجورج شحادة. يفعل الفنان الفلسطيني ذلك بأسلوبٍ لا يستوعب غياب الوزن والقافية فقط، بل يتخذ من غيابهما دافعًا للابتكار والتجريب الذي تجلّى في ألحانه، التي تنهض على نبرة ذاتية عميقة قدّمت الموسيقى، في مجمل أغاني الألبوم، بطريقةٍ تتجاوز عندها، وبفعلها، دورها التقليدي. فما يتبدّى من استيعابها للنصوص، بمعانيها وأفكارها التي تكثّفها أحيانًا وتضاعف من غموضها في أحيانٍ أخرى، أنها موسيقى تستوفي الشروط التي لا بد أن تتوافر، بحسب أنسي الحاج، في قصيدة النثر، وهي: "الإيجاز، التوهج، والمجانية".
تحضر العناصر السابقة بشكلٍ لافت في المحتوى الموسيقي للألبوم. التقشف والاختزال اللذان تنهض عليهما الموسيقى في معظم أغنياته، تكفّلا بالإشارة إليها وإلى العلاقة المغايرة والمبتكرة التي يقترحها باسل زايد بين الكلمة واللحن، وربما بين الموسيقى والشعر المعاصر الذي يغيب فيه الوزن والقافية. وهي علاقة مرنة لا تكتفي الموسيقى فيها بمرافقة النص فقط، أو خلق المناخ العام لأغنياته وتحديد هويتها، بل تتجاوز ذلك إلى المساهمة في بناء معنى النص، تكثيفه، أو مضاعفة غموضه.
ليست موسيقى "أيضًا رأيت" مزيجًا بين الصخب والهدوء فقط، بل بين البساطة والتعقيد، أو ربما بين الغموض والوضوح. صحيح أن الأمر يرتبط، إلى حدٍ ما، بالتنوع الإيقاعي الذي يقسم أغاني الألبوم إلى ثلاث فئات: أغنيات بإيقاع بطيء ورتيب، وأخرى بإيقاع صاخب، فيما يغيب الإيقاع تمامًا عن الفئة الثالثة؛ إلا أن هذا المزيج مردّه، بالدرجة الأولى، إلى الطريقة التي قدّم زايد عبرها أغنياته: "الكاذب"، و"رأيت أيضًا"، و"طائر أفريقيا"، و"هناك حدائق"، و"ضجيج"، و"القتلة"، و"جلّاد"، و"انتظرناك".
تقول هذه الأغاني للمستمع، بواسطة أدائها وتلحينها، إن ثمة من يحاول هنا شيئًا يتعدّى مجرد تلحين الكلمات وغنائها. يبثّ هذا الانطباع فكرة أن الألحان ليست مجرد إطارٍ موسيقي للنص، وهو ما يتجلّى في أغنيات مثل "انتظرناك" و"رأيت أيضًا". في الأولى، يغنّي باسل زايد نصًا للشاعر العراقي الراحل سركون بولص موضوعه "الانتظار". غير أن الألحان التي ابتكرها زايد يحيل "الانتظار" من موضوعٍ إلى شعور لا يخطئه المستمع، الذي يتحول بدوره، وبفعل الموسيقى، من مستمعٍ إلى "مُنتظِر" تضاعف الموسيقى من حدة شعوره بالضجر، دون أن تكون هي مصدره.
في الأغنية الثانية "أيضًا رأيت"، وهي قصيدة للشاعر اللبناني وديع سعادة، يتفاعل اللحن مع النص بطريقةٍ تضاعف من غموضه، وتستفز المستمع للتفكير بمعانيه ودلالاته. أو، على الأقل، تحثّه على إطالة الإصغاء إلى الكلمات التي تندفع باتجاهه بطريقةٍ مضطربة تستدعي التأمل. والحصيلة هي استحواذ الأغنية على اهتمام المستمع وشدّه باتجاهها. وهذا ينطبق على معظم أغاني الألبوم التي تنهض على علاقة لافتة بين اللحن والكلمة.
اللافت أيضًا في ألبوم باسل زايد هو التفاوت في عدد كلمات أغانيه التي يتجاوز بعضها 10 أسطر، بينما اقتصر بعضها الآخر على سطرين أو ثلاثة. الأحرى أن اللافت هنا هو الطريقة التي قدّمها زايد عبرها، والانطباعات التي تشكلها عند المستمع، إذ يبدو أن الغاية من الأغاني التي لا تتجاوز سطرين هي استفزاز المستمع، ودفعه إلى البحث عن معنى النص ودلالة كلماته القليلة التي تضاعف الموسيقى، كما ذكرنا سابقًا، من غموضه. يشبه الأمر أن يرمي أحدهم بجملة ويمضي تاركًا من تلقاها يجهد في تأويلها.
اختار باسل زايد للقصائد التي غناها في ألبومه موسيقى تستوفي الشروط التي لا بد أن تتوافر في قصيدة النثر: الإيجاز، التوهج، والمجانية
في المقابل، تبدو الأغاني الطويلة أقرب إلى عملية بناء مشهدٍ ما. تكرار كلماتها يوحي بذلك، ويشير أيضًا إلى أن التكرار هنا يعادل فعل البناء، فكلما أعاد الفنان الفلسطيني غناء كلماتها، لا سيما في "القتلة" و"طائر أفريقيا" و"هناك حدائق"، بات المشهد الذي ترسمه هذه القصائد/ الأغاني أوضح في مخيلة المستمع، غير أن وضوح المشهد لا يعني بالضرورة وضوح المعنى.
اقرأ/ي أيضًا: صباح فخري المقيم في منزلي
"أيضًا رأيت" ألبوم فارق في تجربة باسل زايد، وربما أكثر ألبوماته قابلية للتأويل وإعادة القراءة لكثرة ما يتضمنه من أفكارٍ ودلالات مختلفة. غير أنها، على اختلافها، تدور مدار الذات وهمومها ومشاغلها التي برعت قصيدة النثر في التعبير عنها، الأمر الذي يجعل من الألبوم صادرًا عن الذات ومعنيًا بها بالدرجة الأولى.
اقرأ/ي أيضًا:
4 أسباب لاحتجابها.. هل سحب زياد فيروز من "مرح الرحابنة" إلى العدمية؟