ألترا صوت – فريق التحرير
تمثّل تجربة الشاعر اللبناني بسام حجار واحدة من التجارب النادرة والخاصة في قصيدة النثر. جاءت انطلاقته أواخر السبعينيات لتشكّل منعطفًا في المسار الشعري لجيل مهموم بالبحث عن مسارب جديدة للكتابة الشعرية، من أجل الخروج على تاريخ سيماؤه النبوة والرؤيوية والثورة.
الشاعر والناقد والمترجم اللبناني الذي عايش الموت طويلًا، وكان الموت، سواء على مستوى فقدان أشخاص محددين أو على صعيد غياب الأشياء الأليفة، هو معين مادته الثرية بالشفافية والمعنى. يقول الشاعر العماني سيف الرحبي: "في الكثير من نصوصه الشعرية، كان يتحدث بلسان الموتى، كان يتحدث كشخص ليس من هذا العالم الذي نعيش. الخطاب الشعري يتقمصه الميت الذي يريد أن يفصح عن بضع كلمات قبل أن يختفي في زحام عالم الأموات وشخيره وكوابيسه. كان يريد ان يختلس بضع ثوان أو لحظات من حياة آفله لا محالة ومنقضية".
القصيدة التي اخترنا منها أجزاءً نظرًا لحجمها الكبير منشورة في ديوانه الأخير "تفسير الرخام"، الذي يصفه الشاعر عيسى مخلوف: "هو تفسير لموت الذين أحببتهم، لموتك ولموتنا جميعًا. انجلى الموضوع لفرط غموضه وأضحى الغياب هو الحضور".
ولد بسام حجار في مدينة صور (جنوب لبنان) عام 1955. وتوفي عام 2009. حصل على الإجازة التعليمية في الفلسفة العامة من الجامعة اللبنانية، وتابع دراسته العليا في باريس حيث حصل على دبلوم الدراسات المعمقة في الفلسفة.
عمل في الصحافة منذ عام 1979 فكتب للنداء (1979 ـ 1982) ثم للنهار (1978 ـ 1990)، وهو أحد مؤسسي الملحق الأدبي الأسبوعي لجريدة النهار. عمل منذ 1999 كمحرر وكاتب في "نوافذ" الملحق الثقافي الأسبوعي لجريدة المستقبل إلى حين وفاته.
له مساهمات نقدية وأبحاث وترجمات نشرت في عدد من الصحف والمجلات العربية، وشارك في عدد من الندوات حول الشعر والثقافة العربيين في عمان وباريس ولوديف وكوبنهاغن.
مؤلفاته الشعرية: "مشاغل رجل هادئ جدًا" 1980، "لأروي كمن يخاف أن يرى" 1985، "فقد لو يدك" 1990، "مهن القسوة" 1993، "مجرد تعب" 1994، "حكاية الرجل الذي أحب الكناري" 1996، "بضعة أشياء" 2000، "سوف تحيا من بعدي" (مختارات) 2002، "ألبوم العائلة يليه العابر في منظر ليلي" لإدوارد هوبر 2003، و"تفسير الرخام" 2008. وله أيضًا مجموعة من الأعمال النثرية: "صحبة الظلال" 1992، "معجم الأشواق" 1994، "مديح الخيانة" 1997.
إضافة إلى ذلك لديه العديد من الترجمات لكتب أدبية وفكرية.
مَزارٌ بِجَنبِ الطريق
إنّي لا شيء
وحديثي عابرٌ،
مِثْلي،
بين عابرينَ،
لذلكَ
أتحدّثُ عنكَ
إنّي أتحدّث عنكَ
لا عن ظلّكَ الجالسِ –
وحيدًا –
تحت سكون الشجرةِ
عند المفترَق
حيث أعمدة تلغراف قديمة منزوعة الأسلاك،
وعابرون يمرّونَ بِسَهْوِكَ
ولا يلتفتون
إنّي أتحدّث عنكَ
لا عن خيالك الماثل أمام عينيّ أو منامي
أتحدّث عنكَ
لا عن المصباح الذي يرفع الظلَّ إلى مصافِ الساحرات
اللواتي كُنّ
ظلالًا ماكرة
ولا عن الأعراقِ التي استخرجتها الأيدي الحاذقةُ
من جوفِ الأرض،
ولا عن المناجم التي كانت تُسمّى،
في حياةٍ أخرى،
مملكةُ الكدّ وأهراء الشقاء
لم يبق أحدٌ
لا أحد هنا سوى أنتَ
ملاذ الهَاجرين بيوتهم إلى الأبد،
لا أحد هنا،
وملاذُكَ أنتَ مثل هذا الأرق الطويلْ
لا أحد هنا يحبّ الحجَرَ
أو يأنَس إلى برودتِه
وصمتِه
حتّى المناماتِ المُرعِبَةِ لم تُبقِ للحجَرِ معنىً
حتّى الشجرة العاقر
لم تثمر يومًا حصاة
إنّي أتحدّث عنكَ،
بفصاحةِ التوهّمِ،
أنتَ
وحدك الحقيقي،
صامتٌ وباردٌ ومزهوّ بصمتِكَ وبَرْدِكَ،
أنتَ
وحدك الحقيقيّ
وإذا أعيتنا الحيلةُ في أمرِ موتانا
جئنا بتقوانا إليكَ
ورِعينَ، مُطرقينَ،
مضمومي الأيدي،
متوسّلينَ
أن تكون ملاذاً لذكرياتنا
وحسراتنا
وخشيتنا من كونكَ الملاذ الأخير
إنّي أتحدّث عنكَ
- كما يتحدّث أحياءٌ عن أحياءٍ مثلهم -
وأتحدّث عن جوفِكَ
الذي هو نارٌ خامدة،
نارٌ باردة،
عن ملمَسِكَ الخشِن الذي يشبه الضغائن الدفينة،
ملمَسِكَ المخادِع
الذي يسري خدرًا في الجسم
إنّي أتحدّث عنكَ
أنتَ الحقيقي
عن كتابك الغامض كالمتاهِ
إنّي أتحدّث عنكَ،
لا عن الشواهد والجدران والبيوت والمزارات والصروح
عن الحكمة الموروثة عن سلالتكَ الحجريّة
أتحدّث عنكَ
عن المأثور على قوسِ بابِك:
هنا
جانبُ الظلِّ رَحْبٌ وأبوابُه واسعةٌ والقاصدون كُثُرٌ
وما من طريقٍ إليه
كمنزلٍ ريفيّ وسطَ المروج
لا درب يهتدي إلى بابهِ الضيّق
المتوحّدِ فوق العتبة
لا أنا ولا أنتَ ولا المُبصِرُ في منامِه
ندري ما الخيالات المترائيّة عند مفترَقٍ قريبٍ
بعيدٍ
عائمٍ على صفحةِ السرابِ الذي ترفَعُه العيونُ المترقّبة
المتعبة
المتوهّمة:
شخوصٌ نابتةٌ في الوعرِ كمخلوقاتِ التوهّم،
- ليست من الأنس وليست من الجنّ -
كأشجار سروٍ مُستنفَدٌ هواؤها
كأعمدة تِلِغراف صامتة،
كأناسٍ ليسوا مثلنا،
نحن أرواح البيوت المطمئنّة،
كأناسٍ
ليسوا مثلكم، أنتم
روّاد السُبُل الزائلة،
بل كمِثْلِ المقيمين عند المفترق،
جنبَ الطريق،
أهل المزارات التي لا يأتيها إلّا غرباءُ
حاملين باقاتٍ وزادًا،
وشموعًا توقَدُ مرّةً وحيدة لكي تأخذ الريحُ،
إذا هبّت ريحٌ،
شعلتَها،
وتبقى، هناك، شموعًا كأعواد البلّور
المطفأة
سكينةٌ مُطبقةٌ يرجّها زعيق السيّارات المسرعة إلى حطامها
إله ساذَجٌ
إلهٌ ساذَجٌ وفتيٌّ وميت
إله ساَذَجٌ – وفتيٌّ
لأنّه ميت -
جَعَلتْ له الأيدي الغريبةُ مزارًا عند المفترق،
كومة أحجار رُفِعَت، مُرتَجَلةً،
بجانبِ الطريقِ،
مطوّقة بباقات وعباراتٍ خُطّت على لوحٍ مُرتَجل،
وصورة -
ما كانَ لبعض الوقت صورة –
في إطارٍ مُرتَجَل
لا أحد هنا،
وهنا
لا تُسمّى القبور –
ولو مأهولةً بالموتى –
تلك التي يخلّفها المسافرون -
قبورًا
بل علامات
لمسافرين سوف يمرّون بها
من بعدهم
ويتركون بجوارها قِربَةَ ماء وأطعمةً وأغطيةً وآثار أقدام،
هنا
لا تُسمّى المواكبُ إليها جنازاتٍ بل
أسفار،
لا تُسمّى القبور إلى جانبِ الطريق
– ولو غير آهلةٍ –
قبورًا
بل مزارات
بيوتٌ مُرتَجلةٌ في العراء
لم تكتمل بعدُ
ولم يقطنها بعدُ
أحدْ
لكنّها، منذ البَدءِ، مأهولة بشخصِ الذكريات
ولا تُسمّى أضرحةً فلا مَن يرقد فيها
مجرّد علاماتٍ يلتفت إليها العابر بسيّارته مُسرِعًا
أو المارّ بها سائرًا على القدمين،
ساهيًا،
لا أشجار باسقة شاكيةً تحيط بها أو تظلّلها،
لا شواهدَ
لا أسماء
لا أسوار
لا شارات
لا دروبَ
أنصابُ عبورٍ خاطف
إذ تمرّ بها مبتعدًا
تتضاءلُ رويدًا قبل أن يحجبها المفترق عن عينيك
قبل أن يحجبكَ عنها،
المفترق
أنتَ لا شيءَ
وحديثُكَ عابرٌ، مثلك،
بين عابرين
لذلك
أتحدّث عنّي،
أنا،
العابرُ قليلًا
في ظنِّك.
اقرأ/ي أيضًا: