يبدو أنّ السِّجال، الذي يحتدمُ حينًا ويخفت حينًا، غيرُ ذاهبٍ إلى زوال؛ بينَ قراءة الأدب كنتاجٍ من فراغٍ يؤدّي إلى واقع، وقراءةٍ سوسيولوجيّة للنصّ باعتبارهِ وثيقةً اجتماعيّة. ويبدو أنّهُ، أيّ النّقاش، اتّخذَ هذا المنحى لتوسيع الحوار حول قراءة النصّ بمُركّباتهِ الدَّاخليّة، وقراءتهِ كوثيقة جماليّة ضمن ميكانيزمات وأدوات واضحة للنّقد الأدبيّ.
عادةً ما يُستهلّ النّقاش بين نزعةٍ قيميّة ونزعةٍ واقعيّة، تتجلّى في الأدب، ذهابًا للفصل المُطلق غير المفهوم، بين العمل كعمل أدبيّ تكمن قراءته من الدّاخل، وإحالاتهِ الاجتماعيّة
عادةً ما يُستهلّ النّقاش بين نزعةٍ قيميّة ونزعةٍ واقعيّة، تتجلّى في الأدب، ذهابًا للفصل المُطلق غير المفهوم، بين العمل كعمل أدبيّ تكمن قراءته من الدّاخل، وإحالاتهِ الاجتماعيّة التي تُقرأ من خلالها مراحليّة الأدب والتّغيرات السوسيو- سياسيّة المُحيطة بظروف إنتاجهِ؛ ما فيهِ من الخطّيّة تتحقّق باعتبار النّصّ مؤدّى اجتماعيّ، بما تحمل هذه الدّلالة، أو هذا المنهج، من مساحةٍ لصالح توسيع القراءة المضامينيّة النّقديّة، التي تُشكّل أفقًا ضروريًّا للقراءة لا الشّاملة، إنّما المعقولة للنّصّ.
اقرأ/ي أيضًا: "موت المؤلّف".. الحميميّة في مقابل النظريّة
وفي حينِ ينطلق طرفا النّقاش، المُفترض، من بُنى جماليّة نصّيّة في طرفٍ، وبُنى اجتماعيّة في الطّرفِ الآخر، إلّا أنّ الطَّرف الأوّل ناقصٌ دون الثّاني، والثّاني خطّيّ دون الأوّل.
لقد هوجمت مقالة رولان بارت الشّهيرة "موت المؤلّف"، كونها تُحيي القارئ مقابل إماتة المؤلّف، الذي، بدورهِ، يؤلِّف دون وعي شامل لذاتهِ الفاعلة، إذ تتعدّد عندهُ الأصوات، وتتشابك الظّروف المُنتجة للنّصّ، التي ترتبط عند النُّقاد، في أحيان، عبر قراءة العمل وفقًا لجهةِ إنتاجهِ، كما لو أنّ المؤلّف مُركّب وحيدٌ واحدٌ عارفٌ شاملٌ، ومُنتج بوعي مُطلق للعمل.
يُمسك بارت هُنا مثالًا أثيرًا مُستوحىً من قصّة "سارازين" لبالزاك، عبر مثالهِ الشّهير الذي يقود إلى سؤال من يكتب النّصّ فعلًا؟ في مُحاولةٍ موفّقة لمعرفة من أين تأتي الأفكار، وهو ما يقود لتيهٍ ينتهي، عند بارت، بإماتةِ المؤلّف، لصالحِ توسيع المضامين التحليليّة لقراءة النّصّ من الدّاخل، مع إدراك "أنّ النّصّ لا ينشأ عن رصف كلمات تُولّد معنى وحيدًا".
يُعطي بارت مساحةً واسعة للنُّقاد، ضمن هذا المنهج، لقراءة العمل فنيًّا، دون إغلاق الكتابةِ؛ أيْ دون حصر النّصّ عبر منحهِ مدلولاتٍ نهائيّة، حسب تعبيره، انتصارًا للمعنى المُفرز من النّصّ للقارئ، الذي يحيى هُنا، انتصارًا من بارت لهُ، باعتبار أنّه لم يحظَ بمساحةٍ حقيقيّة في النّقد الكلاسيكيّ.
يوضّح بيار بورديو في كتابهِ "سوسيولوجيا الأدب"، فكرة دراسة الأدب لا بكونهِ نِتاجًا مُفردًا محصورًا، إنّما ضمن افتراض ثلاث عمليّات مُترابطة تتمثّل، أوّلًا، بتحليل موقع المجال الأدبي؛ داخل تفاعلاتهِ المتباينة وصراعاتهِ مع السُّلطة، وتطوّراتهِ خلال المراحل الزّمنيّة المُختلفة. وثانيًا، بتحليل البُنى الداخليّة للمجال الأدبي؛ كونهُ مجالًا يخضع لمجموعة من القواعد والقوانين التي تحكم سيرهُ وصيرورتهِ ومُختَلَف تحوّلاتهِ المتعددة. وثالثًا، بتحليل تكوين التطبّعات الخاصّة ضمن دراسة الأنساق المُختلفة كمقدّمة نظريّة لبناء المسار الاجتماعيّ المؤدّي، في هذه الحالة، لإنتاجٍ أدبيّ.
إنّ مفهوم التّطبّع هُنا (habitus)، الذي يوظّفهُ بورديو في مُختلف كتاباتهِ، يُعبّر عن مُخطّطات اللّاوعي والإدراك المُكتسبة التي تركّبت بفعل السّياقات الاجتماعيّة داخل الفرد ضمن عنصريّ الزّمان والمكان. وهو ينفي التّساؤل الأساسيّ، وفقًا لبورديو، حول كيف وصل الكاتب إلى مرحلة ما، لصالح تساؤل كيف أُنتج العمل الأدبيّ، ضمن ظروف تتفاعل اجتماعيًّا سياسيًّا اقتصاديًّا، حتّى وصل إلى مرحلة ما.
هُنا يظهر التّجاور والتّباعد في ذات الوقت، بين موت المؤلّف وسوسيولوجيا الأدب، بين إماتة التّطبّعات لقراءة منظومة فنّيّة لها حساباتها وقواعدها، وبين إحياء ودراسة التّطبّعات المُختلفة ضمن منظومات الإدراك، لقراءة أوسع لمداخل وميكانيزمات النّصّ الأدبيّ.
في مستهلّ محاضرته الشّهيرة "درسٌ في الدَّرس"، يبرُز سؤال بورديو النّظريّ التمهيديّ للإنتاج، مُفكّكًا سُلطة المكانة؛ المنصب، رادًّا النَّظر إلى السؤال الحَفريّ، حول بأيّ حقٍّ نُلقي درسًا؟ وقد مثّلت الجامعات والمؤسّسات والمِنصّات إجابةً لهُ كونها تُمثّل نِتاج تفاعلات السُّلطة، وأخذها اعترافًا برجوازيًّا بتمثيلها سُلطة معرفيّة. لكنّ فيما يبدو أنّ سؤال بورديو أشملَ من ذلك، بانزياحهِ لسؤال من يمنح الحقّ في القول أو الكِتابة، وفي حين تبدو المؤسّسات المُختلفة إجابةًتُبرّرُ كيف ومن أينَ جاء هذا الحقّ، إلّا أنّ التعقيد يتمثّل في تبلور السّؤال، ليعود إلى بُعدهِ الأساسيّ؛ هو: من يكتب النّصّ الأدبيّ فعلًا؟