قبل عامين بالضبط، في السادس عشر من مارس/آذار عام 2020، انطلقت منظمة القانون من أجل فلسطين (Law for Palestine) كمنظمة غير ربحية من أجل تفعيل القانون الدولي في فلسطين عبر بناء شبكة واسعة الانتشار والتأثير من المحامين والحقوقيين والأساتذة والنشطاء المهتمين بالقانون الدولي وفلسطين، وعبر بناء القدرات القانونية وإثراء المحتوى القانوني المتعلق بفلسطين.
طرحت الأزمة الروسية-الأوكرانية تساؤلات كبرى حول دور القانون الدولي، وحول توظيفه من قبل القوى العظمى كأداة تضرب بها على يد القوى التي تعاند إرادتها
وبعد عامين، تجد المنظمة نفسها كفاعل مؤثر وفعال في الساحة القانونية المتعلقة بفلسطين، وها هي المنظمة تتوسع أفقيًا وعاموديًا من ناحية التأثير والفعالية والوصول. تصادف الذكرى السنوية الثانية للمنظمة اندلاع الأزمة الروسية-الأوكرانية، التي طرحت تساؤلات عدة حول مدى فعالية القانون الدولي ككل، وحول كونه أداة بيد القوى العظمى، كما رأينا توظيفه ضد روسيا خلال الأزمة الأخيرة. ومن هنا يناقش هذا المقال هذه المسألة في ضوء تجربة "القانون من أجل فلسطين" بعد عامين من التأسيس.
في ضوء ما نراه في أوكرانيا، هل القانون الدولي مجرد أداة بيد القوى العظمى؟
طرحت الأزمة الروسية-الأوكرانية تساؤلات كبرى حول دور القانون الدولي، وحول توظيفه من قبل القوى العظمى كأداة تضرب بها على يد القوى التي تعاند إرادتها، كما رأينا في السلوك الأوروبي والأمريكي تجاه روسيا والشعب الروسي بالمجمل. ففور بدء الغزو الروسي لأوكرانيا وجدنا المنظمات الدولية، وعلى رأسها مجلس الأمن والجمعية العامّة للأمم المتحدة تسارع لإدانة روسيا وسلوكها تجاه أوكرانيا -علمًا أن القرار تعطل بمجلس الأمن بفعل الفيتو الروسي. وتبعت العديد من الشركات والمنظمات الإقليمية هذا القرار بإعلان إما مقاطعتها لروسيا أو تعليقها لعملها مؤقتًا هناك. طرح هذا الأمر العديد من التساؤلات حول "نزاهة" المنظومة القانونية الدولية و"استقلاليتها" عن إرادة القوى العظمى.
ينبغي التأكيد هنا أن التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا هو انتهاك صارخ لمبدأ سيادة الدول في القانون الدولي وأن الفعل الروسي -قولاً واحدًا-هو انتهاك لصريح القانون الدولي. والحديث هنا ليس حول عدالة القرارات المتخذة تجاه روسيا، وإنما الانتقائية الفجّة للسلوك الدولي في تطبيق القانون الدولي؛ فما شاهدناه تجاه روسيا لم نجد حتى فتاته تجاه السلوك الاسرائيلي المتعالي على القانون الدولي والمنتهك له عن سبق الإصرار والترصد.
إن السلوك الدولي -الغربي تحديدًا- ولا شك، يهدد سمعة القانون الدولي، ويصدع مصداقية المنظومة القانونية الدولية، فلم تحتج محكمة العدل الدولية سوى لأيام معدودة لإصدار حكمها ضد الغزو الروسي، ووجدنا الدول الكبرى -الأوروبية والأمريكية الشمالية- تسارع لمقاطعة روسيا اقتصاديًا وحتى ثقافيًا، بينما يجرّم عديد منها حركات المقاطعة للمنتجات الإسرائيلية -وفي الحالة الأمريكية مثلًا نرى نفس النواب وأعضاء مجلس الشيوخ الذين وقفوا ضد حركة الـBDS يقفون مع مقاطعة روسيا. ولكن، لا يخفى على عقل الرزين إن فساد الممارسة لا يعني بالضرورة فساد الفكرة، وإلا لكانت جل أفكار البشر فاسدة. وهنا لا بد من القول، إن الازدواجية الغربية -وتحديدًا القوى الأكبر- لا تعني أن الإشكال هو القانون الدولي، وإنما الممارسة التي يمارس بها؛ وهناك ولا شك حاجة لإصلاح المنظومة.
هل القانون الدولي فعال إذن؟
لعل الأزمة الأوكرانية أبرزت بشكل واضح قدرة منظومة القانون الدولي على صنع فارق واضح في حال توفرت الإرادة. وأبطلت أي شكوك حول فعالية منظومة القانون الدولي بالمجمل؛ رغم وجود إشكالات حقيقية في مواطن عدة. السؤال هنا، هو كيف نجعل هذه الأدوات القانونية فعالة في الحالة الفلسطينية كما وجدناها في الحالة الأوكرانية على سبيل المثال.
ومن هنا سعت "القانون من أجل فلسطين" إلى بناء شبكة واسعة من القانونيين المهمتين بالقضية الفلسطينية، والحريصين على إصلاح الخلل في المنظومة القانونية الدولية، من مختلف أرجاء العالم، ومن قارّات العالم الخمس. فوصل عدد أعضاء "ملتقى القانونيين من أجل فلسطين" التابع للمنظمة إلى أكثر من 1.100 عضو من مختلف أرجاء العالم ومن التخصصات القانونية والإنسانية المرتبطة بالقضية.
وكان موضوع فاعلية القانون الدولي هو محور مؤتمر المنظمة السنوي الأول، والذي عقد بالتزامن مع اليوم العالمي للتضامن مع الشعب الفلسطيني (31 نوفمبر 2021) بحضور كبار الشخصيات القانونية الدولية من الأمم المتحدة وأساتذة القانون الدولي وشخصيات حقوقية وبرلمانية وسياسية كان لها دور واضح في المشهد الحقوقي الفلسطيني.
هل بإمكان القانون الدولي أن يدفع باتجاه الحقوق الفلسطينية؟
إن القانون الدولي منظومة موضوعية، تعطي من يتفاعل معها بأدواتها ويبذل جهده بلغتها وأسلوبها. بعد عامين على انطلاقة المنظمة وتفاعلها مع فواعل منظومة القانون الدولي، وجدنا مساحات شاسعة بالإمكان العمل فيها لإحداث فارق ملموس. ولنا نماذج دولية عديدة بالإمكان الاسترشاد بها، والتي أحدثت فارقًا وفعلّت القانون الدولي رغم وجود إرادة سياسية معادية نسبيًا، وفرضت نفسها في نهاية المطاف؛ مثل الحالة الجنوب أفريقية.
فعلى سبيل المثال، كما رأينا قبل سنوات حين تم سحب تقرير الاسكوا الذي قال بأن إسرائيل هي نظام فصل عنصري (أبرتهايد)، ظن الكثيرون أن إسرائيل قادرة على كبت الأصوات المنصفة من داخل المنظومة. إلا أننا سرعان ما وجدنا تتابع التقارير عالية المستوى من منظمات إسرائيلية مثل بيت سيلم، وبعدها من هيومان رايتس ووتش، ولاحقًا العفو الدولية، التي أعلنت صراحة بأن إسرائيل أسست لنظام أبرتهايد مكتمل الأركان. وقريبا ستصدر نتائج تحقيق مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة حول الوضع في فلسطين، وغالب الظن أنه سيؤكد على نفس الخلاصة.
ومن خلال تجربتنا، لعل أكثر التساؤلات تكرارًا هو: "جميل، ولكن ما فائدة هذا!؟" و"هل سيغير هذا من واقع الأمر على الأرض؟"، وهنا ينبغي التأكيد على أن القانون الدولي ليس عصا سحرية نحركها وتحل مشاكلنا بطريقة إعجازية. إن التجربة الفلسطينية في التحرر هي حالة فريدة في تعقيدها وتشابكها، وتحتاج تضافر كافة العوامل من أجل الوصول لتقرير المصير وإحقاق الحقوق الفلسطينية. هذه التقارير، وتلك التحركات، وتلك الفعاليات، كلها تتضافر معًا ككرة الثلج -بصحبة عوامل أخرى خارج المنظومة القانونية الدولية بالطبع- التي تكبر بالتدحرج ومرور الوقت إلى أن تشكل كتلة ضخمة يصعب إيقافها وكبتها، إلى أن تفرض نفسها في المحصلة.
إن التجربة الفلسطينية في التحرر هي حالة فريدة في تعقيدها وتشابكها، وتحتاج تضافر كافة العوامل من أجل الوصول لتقرير المصير وإحقاق الحقوق الفلسطينية
ومن هنا، نرى منظمة القانون من أجل فلسطين كعامل فاعل في كرة الثلج هذه، كتلة صغيرة ولكنها مؤثرة بوضوح، برؤيتها وحماسة وإخلاص شبابها وفتياتها المؤمنين بقدرتهم معًا على إحداث فارق لتكبر كرة الثلج وتصبح قادرة على فرض نفسها وتتحدى الإرادة الراغبة بكبت الحقوق وانتهاكها دون رقيب أو حسيب.