يكشف لنا الباحث محمد أركون في كتابه "تاريخية الفكر العربي الإسلامي" طبيعة الدور المحوري الذي لعبه الإمام الشافعي (150 ـ 204 هـ) في صياغة التصورات الفكرية لعصره، ذلك العصر الذي كان ينحى إلى طمس الطابع التاريخي لخطابات القرآن، عبر التعامل معها كما لو كانت مقطوعة عن الطابع المعيشي والحياتي للمجتمع العربي في شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام.
قام الشافعي برفع السنة النبوية إلى مستوى المصدرالتشريعي المقدس المتعالي عن كل زمان ومكان
في هذا السياق، قام الشافعي برفع السنة النبوية إلى مستوى المصدرالتشريعي المقدس المتعالي عن كل زمان ومكان، أي إلى المكان الذي كان يتمتع به القرآن وحده، دون مراعاة لأي اعتبار خاص بها لجهة ارتباطها بزمان ومكان محددين هو زمن الدعوة النبوية، الأمر الذي لا يمكن فهمه إلا من حيث كونه رغبة متعمدة لهدر الطابع التاريخي لأقوال وأفعال النبي في حياته اليومية ونقلها إلى مستوى عالٍ من التنزيه والتعالي عن الخطأ، أي العصمة. ترتّب على تلك الترسيمة الفكرية التي قام بها الشافعي اشتقاق الأحكام الفقهية، أي نظام العقوبات والتحريمات، لأفعال أو أقوال ناس القرن الثاني الهجري تبعًا لثقافة وأحكام زمن الدعوة النبوية، دون مراعاة لخاصية تطور وتبدل حاجات البشر عبر الزمن.
اقرأ/ي أيضًا: الفن الإسلامي.. تجريد وتحريف وتأمُّل
تقع فلسفة العمل الذي قام بها الشافعي في إطار التصور القديم لمجوع المؤمنين القائل بقدسية التجلي الإلهي، أو اللحظة النبوية التي أنجزت كل شيء في التاريخ البشري، بحيث لم يعد للناس إزاء التاريخ البشري الذي يعيشونه وفق تلك الرؤية سوى استعادة تلك اللحظة الإلهية والعمل على تحيينها، عبر التطبيق الحرفي لتعاليم النصوص المقدسة أو الأفعال النبوية، وهي رؤية تتطابق في جوهرها مع رؤية العود الأبدي، أو الزمن الذهبي لفترة النبوة المحمدية، الأمر الذي يفسر لنا تلك الطمأنينة التي يحملها المؤمن الذي قدّر له أن يعيش في زمن لاحق للزمن النبوي في داخله، لناحية اعتقاده الحميم بصلاحية الشريعة أو الأحكام الفقهية التي أقرت زمن النبوة لكل زمان ومكان، دون أن يشعر بأي حرج لناحية هدره للسيقات التاريخية التي وجدت فيه تلك الأحكام.
في مسعى منا لعدم التساوق مع التجاهل أو التبخيس التاريخي، الذي يبديه جمهور كبير من المسلمين تجاه تشكل العقائد أو التصورات الدينية في سياق تاريخي ما، أي ضمن زمان ومكان محددين، فإنه من المفيد تتبع السياق التاريخي الذي تعرف فيه المسلم على الله. إن الباحث عن تاريخ الله إسلاميًا يجد نفسه مدفوعًا للتميز بين زمنيين لوجوده، يتمثل الأول بوجوده الأزلي والمتعالي عن العالم ومخلوقاته مكتفيًا بذاته، لعدم رغبته بالإعلان لهم عن نفسه عبر الوحي. الأمر الذي يدفعنا إلى القول تبعًا لتصوراتنا عنه كإله أزلي ومتعالٍ بأن لا تاريخ له، كون التاريخ صفة تخص الكائنات التي تتصف بالمحدودية عبر الزمان والمكان، فكيف بنا إزاء الله المتصف بصفتي القدم والأزل، اللتين لا تستقيمان مع خاصتي البداية والنهاية الموصلتين إلى خاصتي التحول والتبدل.
عند بحثنا عن تاريخية الله، نعثر عليها في اللحظة المتمثلة برغبته بالإعلان عن نفسه عبر الوحي، ومن الوحي إلى البشر عبر النبي محمد، ونقول تاريخية لأننا إزاء اتصال بين ذات الله المطلقة مع ذات البشر النسبية في لحظة قرارها بالتوجه خطابيًا أو كلاميًا للبشر المتعينين بالزمان والمكان الأرضيين، كما قررت أن يكون لها الدور المؤثر في حياتهم، سواء بالتأثير بهم أو بالتأثر بمتطلبات حياتهم، على النحو الذي يبينه لنا علم أسباب نزول القرآن.
في تفاعل الله مع البشر عبر الوحي حصلت الولادة الأولى له معرفيًا لدى المسلمين، عبر تعرفهم إليه كإله متعالٍ، يتشارك مع البشر الذي يرشدهم إلى الطريق القويم، بصفة العلم مع أن علمه أشمل وأوسع، كما يتشارك معهم مع مفهوم الوجود، مع أن وجوده دائم وأبدي، في حين يتصف وجودهم بالمحدودية والفناء معًا، فيما تبقى الصفة المفارقة لله عن البشر هي اختلافه عنهم بالطريقة التي جاء فيها إلى الوجود، فبينما وجود البشر متعلق بخلق الله لهم، فإن وجوده وخلقه لنفسه أمر خاص به وحده. إن مفاعيل هذا التصور الالهي لنفسه كما جاء في القرآن الكلي، قد وظفت دون شك لصالح النبي سياسيا لجهة الاقرار برئاسته بوصفه صلة الوصل بين الله المتعالي والبشر المبلغين برسالته، حيث سمحت علاقة النبي الدائمة بالوحي بتذليل جميع الصعوبات التي اعترضت طريقه في المجتمع القبلي المتعدد العصبيات، إضافة إلى استثمار النبي لكل الممارسات المعززة لرابطة العصبية الجديدة بينه وبين القبائل الأخرى، القائمة على النصح والمشورة والاحترام المتبادل، والأهم من ذلك التوزيع العادل للغنائم مع احتفاظه كقائد بحصة الخمس.
في تفاعل الله مع البشر عبر الوحي حصلت الولادة الأولى له معرفيًا لدى المسلمين
أثارت رغبة عثمان بن عفان في العودة إلى رابطة العصبية القبيلة، البيت الأموي، على حساب رابطة العقيدة الجديدة ردود فعل عنيفة، خاصة من فئة ما يسمى بالقرّاء، حفظة القرآن ومفسريه، أدت هذه المغامرة غير المحسوبة في نهايتها إلى مقتله وخلقت بدورها المقدمات الأولية لنذر الحرب الأهلية، التي تمخضت عن نشوء أولى الأحزاب العقائدية في الإسلام، كان أعضاؤه الأساسيون القراء أنفسهم، فيما كانت قراءتهم المتشددة والأمينة للنص القرآني مادته الفكرية الأولى. يحسب لحزب القراء المعروف تاريخيًا بحزب "الخوارج" فكرته بالذهاب إلى تحقيق الاندماج القبلي في قبيلة واحد ة هي الإسلام إلى أقصاه، متبعين في ذلك مواصلة الجهد المبذول من قبل النبي محمد، مرورًا بأبي بكر وعمر، إلأ أن ما يؤخذ عليهم تلك الرغبة الجارفة في القراءة الحرفية للنص القرآني دون أي اعتبار للظروف الحافة به، فعلى الرغم من مناداتهم بمبدأ "لا حكم إلا لله "، أي لا حكم إلا ما نص عليه القرآن في قضية اقتتال طائفتين من المؤمنين، أثناء رفضهم لقبول علي بن أبي طالب لمبدأ التحكيم بعد معركة صفين إلا أنهم ظلوا يرفضون التفاوض أو العمل السياسي لتطبيق هذا المبدأ، إلى أن تم إقناعهم بأن التفاوض والدبلوماسية لا يشكلان تفريطًا بحق علي بالخلافة، الذي إذ لم يساعده التفاوض في حصوله على الحكم فإنه سيعاود اللجوء للحرب، تلك الحرب التي كادت قضت على أعداد كبيرة من معسكري علي ومعاوية معًا، وقضّت الضمير الجمعي للمسلمين الذي لم يكونوا في الحقيقية إلا أقارب أو أبناء عمومة أو حلفاء قبليين.
اقرأ/ي أيضًا: أخلاقيات الزمن الفروسي الإسلامي
على الرغم من العنف المقدس الذي رفعه الخوارج في وجه جميع المسلمين في عصرهم، أي استباحة دمائهم، وإصرارهم على إخراج الجميع من مدينة الإسلام التي احتكروا تصوراتها الدينية عبر نمط من التأويل المتشدد للنص القرآني الذي لا يراعي الظروف المحيطة بكل واقعة أو حادثة، ورغبتهم العارمة في حرق المراحل ، تلك الرغبة التي انتهت بهم إلى الإقصاء من دائرة الفعل عبر أبادتهم في معركة النهروان، إلا أن أصداء التصورات العقائدية التي أطلقوها ما تزال تجد لها مشروعية وحضورًا، وخاصة لمبدأ الحاكمية القائل بـ"لا حكم إلا لله" الذي وجد له تعميقًا وتوظيفًا سياسيًا عند كل من سيد قطب وأبو أعلى المودودي، كما لا يغيب عن بالنا مبدأهم القائل بتكفير مرتكب الكبيرة مع جواز الخروج عليه إذا كان حاكمًا، ذلك المبدأ الذي تعرض للنقض من قبل أنصار مذهب المرجئة، أو تحوير وإعادة توظيف من قبل أنصار مذهب المعتزلة.
تمتاز المذاهب العقائدية الدينية بعلاقة شديدة بالواقع على الرغم من الطابع اللاهوتي التي تتقنع خلفه، ذلك أن العقائد، سواء كانت دينية أو دنيوية، هي أفكار لبشر منهمكين في محاولة العثور على إجابات أو مقاربات تخص الواقع الذي يتصدون لفهمه، بقصد تغيره أو الدفاع عن استمراريته.
في مذهب المعتزلة نعثر على الهم السياسي طاغيًا لديهم على غيره من الهموم، ولا أدل على ذلك من اعتزال واصل بن عطاء لمجلس الحسن البصري بقصد التنظير لموقفه الجديد الخاص بمرتكب الكبيرة الذي وصفه بالفاسق ووضعه في منزلة بين المنزلتين، بعد أن كان في عرف البصري بمنزلة المؤمن العاصي. إن أهمية التنظير لمبدأ مرتكب الكبيرة في المذهب المعتزلي يكتسب أهميته من حيث كونه تنظيرًا لموقف رجل الدين المعتزلي من الحاكم الظالم، الذي يجيز للناس الخروج عليه وقتله في حال تأكدهم من قدرتهم على ذلك وإلا التريث كي لا يكونوا عرضة للإبادة والنهب.
اجترح المعتزلة في طريقهم لخلق مذهب عقائدي جديد، طريقة جديدة للحوار والمحاججة العقلية تقوم على القطع مع الطريقة التقليدية الخاصة بالفقهاء، والتي كانت تنهض على الاستشهاد الدائم بالآيات والأحاديث، الأمر الذي دفع الفقهاء للمبادرة بوصفهم بالمتكلمين، أي أصحاب الكلام الفارغ، كما التشنيع عليهم والحط من شأنهم، الأمر الذي يظهر الصلابة التي كان يبديها أنصار الفكر القديم ضد أي تصور جديد للدفاع عن القضية ذاتها، ووصف أصحابها بأصحاب البدع والضلالات، غير مدركين للتغيرات التي كانت تجري في أعماق الدولة الاسلامية التي تحولت بفعل الفتوحات الواسعة إلى إمبراطورية ضخمة، تجمع في داخلها العديد من أصحاب المعتقدات الدينية المتنطحين لمجابهة وتفنيد العقيدة الاسلامية الجديدة والكشف عن هناتها وثغراتها، الأمر الذي يفسر أهمية تأكيد المعتزلة لمبدأ التوحيد الذي يصرعلى خلو الذات الالهية من صفات التجسيم كالرؤية أو الجلوس وغيرها، و قصرها على صفات " الحياة، القدم، القدرة، العلم"، وما كل ذلك إلا لتنزيه الذات الإلهية عن الشرك والتجسيم.
نشأ إزاء مذهب المعتزلة مذهب أبو حسن الأشعري، الذي اختلف معهم في قضية عدم وجود إرادة حرة عند الإنسان
إلا أن إنجاز المعتزلة الأهم كان في تطرقهم لمبحث الحرية الفردية للإنسان المسلم، الذي رأوا فيه فردًا خالقًا لأفعاله مسؤولًا عنها، لأن ذلك في صلب العدل الالهي، الذي لا يعقل أن يحاسب شخصًا على عمل لم يخلقه بنفسه، الأمر الذي يقود إلى إبطال تلك المحجاجة السخيفة التي كان يتذرع بها الحكام المستبدين في نسب أعمالهم إلى إرادة الله، وما ذلك إلا لأنهم رغبوا بالتهرب من الاعتراف بسوء تدبير حال الناس الذين يحكمونهم.
اقرأ/ي أيضًا: من أسلمة الحداثة إلى سلفنتها
إزاء مذهب المعتزلة نشأ مذهب أبو حسن الأشعري، الذي اختلف معهم في قضية عدم وجود إرادة حرة عند الإنسان، ومصادرتها لصالح الإرادة الكلية لله، وهو ما لاقى هوى في نفوس جميع الحكام المسلمين، الذي أعفوا بجرة قلم من المسؤولية تجاه سوء سياستهم القائمة على التسلط والنهب الداخلي للناس المحكومين، كما أبطل كل مشروعية دينية لدى الأشخاص المضطهدين الذين ينادون بزوالهم، وألقى عبء سوء أحوال الأشخاص الذين يعيشون في كنف ممالكهم إلى أمر يتعلق برضى الله عليهم أو سخطه.
في ملاحظة ملفتة أشار إليها الباحث المصري جمال عمر في معرض حديثه عن الموقف الذي اتخذه الشيخ محمد عبده إزاء العقيدة الأشعرية، التي لم ير فيه ما يمكن إعادة النظر فيها، الأمر الذي قاده إلى الموقف الفصامي الذي يمجد معتقدات المسلمين المذهبية من أشعرية ووهابية وسلفية وغيرها، التي سبق أن كانت نتاجًا لمسلمين آخرين في عصور وأزمنة ماضية، ليقف فيعيب على أخلاق المسلمين المعتنقين لها تماشيا مع القول الفقهي "العيب في المسلمين وليس في الاسلام"، وهو قول ينتمي إلى فئة الموقف التبجيلي الذي يهرب من الكشف عن لب وجوهر المشكلة الكامنة في قلب العقائد السابقة التي تسلب من الفرد المؤمن حريته أمام الله وأمام الحاكم.
اقرأ/ي أيضًا: