يغتبط مستشرقو الديمقراطية الغربية ومبشروها وهم يدعّون صحة دعوتها وصلاح نظامها، أي الديمقراطية. ويقترحون علينا، نحن الذين نعيش في عالم أقل ما يقال فيه أنه ليس ديمقراطيًا وليس متسامحًا، أن نسعى ما أوتينا من جهد ومعرفة لتحقيق الديمقراطية وتثبيت نظامها في بلداننا.
مستشرقو الديمقراطية لديهم وصفات جاهزة: انتخابات حرة، ومساواة المواطنين أمام القانون وترسيخ حرية الرأي والتعبير وتثبيت حقوق النساء، وستصبح كل مشكلاتنا قابلة للحل
مستشرقو الديمقراطية لديهم وصفات جاهزة: انتخابات حرة، ومساواة المواطنين أمام القانون وترسيخ حرية الرأي والتعبير وتثبيت حقوق النساء، وستصبح كل مشكلاتنا قابلة للحل من تلقائها. لكنهم لا يشيرون من قريب أو بعيد إلى أن قتلى الخلافات العائلية والعرقية والشعوبية في مدينة بالتيمور الأمريكية، على سبيل المثال لا الحصر، يفوق في حجمه وعدائيته ودرجة عنفه بأضعاف ما تشهده مدينة غزة. لديهم حلول لغزة طبعًا، لكنهم لا يعتقدون أن بالتيمور تعاني من مشكلة أصلًا للبحث عن حلول لأزمتها. والحق إن المرء لا يستطيع أن يجترح بديلًا سريعًا للنظام الديمقراطي، كما أن الساعين، عندنا وفي الغرب على حد سواء، إلى إيقاظ أنظمة حكم تاريخية من موتها العميق لا يقترحون علينا بديلًا قابلًا للتنفس. ما يجعلنا مفتقدين لأي خيار بديل عن السعي إلى تحقيق الديمقراطية. إنما ورغم ذلك، بل وبسببه، يجدر بنا أن نسأل الديمقراطية عن مدى صلاحيتها، ونبحث في إصلاح أعطاب ممارستها وأخطاء ولادتها.
اقرأ/ي أيضًا: النقد الآمن
هذا نظام قام في أصله وأساسه على تجانس. تجانس لم يتحقق إلا بعد مجازر وحملات تطهير عرقي وديني وشعوبي. ولتسهيل مسارها لم تتردد في التعامل مع منطقتنا باعتبارها منفى لكل الجماعات التي لا يتسع لها نظامها. وعلى نحو ما كانت أمريكا المكتشفة حديثًا هي منفى لكل من رأت فيه الحداثة الناهضة يومذاك مواطنًا غير مرغوب به في موطنها الأوروبي، كانت المناطق الخاضعة للسلطة العثمانية مناف جاهزة لكل من لا يتناسب عرقه أو ثقافته أو دينه مع نظام المساواة الجديد. وأي لمحة سريعة يلقيها الباحث على تاريخ تركيا لا بد له وأن يلاحظ أن التركيبة السكانية للدولة التركية، في بدايات العقد الثالث من القرن العشرين، كانت تتألف في مجملها من مهاجرين ارتكبت بحقهم حملات تطهير عرقي في أوروبا الشرقية واليونان وبعض أوروبا الغربية ومناطق نفوذ الإمبراطورية الروسية يومذاك.
هل يقترح علينا مستشرقو الديمقراطية أن نقوم بمجازر دينية وعرقية لتثبيت نظامها؟ أم أنهم مستعدون فعلًا للعمل مع نخب هذه المنطقة والبحث الجدي عن سبيل إصلاح أعطاب هذا النظام الكوني؟ لمصلحة هذه المنطقة بالدرجة الأولى ولمصلحة الغرب الذي أصبحت بعض دوله عاجزة عن حل مسألة التنوع والهجرة التي ترسخت في ظل العولمة، إلا بإعادة إيقاظ وحوش الفاشية والعنصرية من سباتها الذي لم يكن عميقا كما يبدو.
اقرأ/ي أيضًا: