التعصب ابن طبيعي للأحادية الفكرية، ومن بعده تنمو الأصوليات الدينية التي ترى كل منها أنها الفئة المؤمنة، وما عداها فئات ضالة، وأنها الممثلة لحزب الله أما غيرها فهم أتباع الشيطان. هذه التقسيمات، المفرطة في الرؤية القطبية للعالم والأفكار، تعادي النسبي وتؤمن إيمانًا قاطعًا بالمطلق وشروطه. لا مكان هنا لقانون السببية، فكل ما يحدث نصيب ومقدَّر. هذا التعصب هو الذي يؤدي بنا لاحقًا إلى جرائم الانحياز للعرق وحروبها، ومعاداة العلوم وفوائدها. وإذا كانت الجريمة الأولى فادحة وكارثية، فالجريمة الثانية لا تقل فداحة.
بالتأكيد لا نجد مشتركًا بين الثقافتين العربية والغربية في حقول البحث العلمي والتقني أو ميادين الاستقصاء المعرفي الخاص بالعلوم البيولوجية أو الفضائية، وهذا تقصير حضاري منا نحن العرب، يرقى إلى مستوى الآثام الكبرى.
الشعوب المؤمنة بالأحادية والمتعصبة لفكر واحد لا تنتج علمًا ولا أدبًا ولا فلسفةً بل تستهلك تكنولوجيات الشعوب الأخرى "المنحلّة"
الشعوب المؤمنة بالأحادية والمتعصبة لفكر واحد لا تنتج علمًا ولا أدبًا ولا فلسفةً بل تستهلك تكنولوجيات الشعوب الأخرى "المنحلّة". وربما يؤمن أهل الانغلاق والتعصب بأن هؤلاء "الكفرة" المنتجين والمؤمنين بالعلم مُسخّرون لخدمتهم. أما جريمة التعصب الثالثة فهي اغتيال كل مختلف مع الفكر الأحادي، إما بالاغتيال الأسهل عن طريق التصفية الجسدية، وإما باغتيال الثقافة القومية للشعب والمتجسدة في أنساق قيمه، وهذا ما يفعله الأصوليون في مصر مثلًا.
ربما إذا جنحنا لغواية التصنيف والتفضيل في مقامٍ خطير مثل التعصب، فسيكون أخطر أشكال التعصب هما التعصب الديني والتعصب العرقي. والتعصب العرقي بدأ مع الأنظمة الاجتماعية التي لم تعرف مفهوم الدولة ذات الحدود المستقرة، كما كان الوضع في مصر القديمة.
اقرأ/ي أيضًا: عشرون رسالة غير محجبة
أما في الجزيرة العربية، فقد انتشر مفهوم القبيلة والفخذ والبطن، لذلك حدث أول انشقاق عقب وفاة الرسول في سقيفة بني ساعدة وكان أبطاله القحطانيين والعدنانيين الذين اختلفوا حول تسمية خليفة الرسول، أيكون من المهاجرين أم من الأنصار، وتحوّل الخلاف إلى مرحلة أن كل فريق يود تصفية الفريق الآخر، وانتهى بأن أمسك المهاجرون بسعد بن عبادة "وأوسعوه ضربًا حتى أوشك أن يموت، وفي اليوم التالي تمت البيعة لأبي بكر، دون أن يحضر البيعة علي بن أبي طالب وسعد بن عبادة الذي رُمي في عهد عُمر بسهمٍ مسموم وقيل إن الجنّ قد قتله"، كما يذكر محمد سعيد العشماوي في كتابه "الخلافة الإسلامية".
يرى محمد سعيد العشماوي في كتابه أن الخلافة الأموية عربية بدوية تعالت بالعنصر العربي ما أدى إلى قيام تعالٍ مقابل بالعناصر غير العربية؛ فكانت الخلافة العباسية التي أكد أول خلفائها على صلة القرابة بين الرسول وبين بني العباس، بما يعني أن السبب الأول للخلافة هو قرابة الخلفاء للرسول. وبدأ العباسيون حكمهم بنبش قبورالأمويين، ثم القضاء على من بقى منهم في مذبحة فظيعة، وكان أبو العباس قد أمّن كبار الأمويين ودعاهم إلى مأدبة عشاء.
وهنا يشترك الشعراء في التحريض على القتل فيقول سديف بن مأمون للخليفة العباسي: "لا يغرنك ما ترى من رجال/ إن تحت الضلوع داءً دويًا/ فضع السيف وارفع السوط حتى/ لا ترى فوق وجهها أمويًا". وصدر أمر الخليفة بضربهم حتى الموت، وكان يأكل طعامه وهو يسمع أنينهم حتى لفظوا الأنفاس جميعًا. بعد ذلك بدأ العباسيون بتصفية بعضهم البعض.
إذا جنحنا لغواية التصنيف والتفضيل في مقامٍ خطير مثل التعصب، فسيكون أخطر أشكال التعصب هما التعصب الديني والتعصب العرقي
وعن التعصب قال الإمام أبو حنيفة "ليس أحد من العرب كفؤًا لقريش. كما ليس أحد من غير العرب كفؤًا للعرب". ويصل التعصب للعرق إلى درجة أن يقول سفيان الثوري: "إذا نكح المولى (غير العربي) العربية يُفسخ الزواج"، وقد أيده أحمد بن حنبل في ذلك، كما ورد في كتاب "المجددون في الإسلام" لعبد المتعال الصعيدي.
وما قاله الثوري صاغه العرب الذين دخلوا مصر وأكلوا من خيراتها في هذا المثل العربي المُعبِّر عن رفضهم زواج الفتاة العربية من المصري: "ياكلها التمساح ولا ياخدها الفلّاح". كما عبّرت اللغة العربية نفسها عن هذا التعصب العنصري في كلماتها ومن أمثلة ذلك كلمة "عجم"، وفي شرحه لها ذكر أبو بكر الرازي أن العجم ضد العرب، والعجماء هي البهيمة والمرأة عجماء (مختار الصحاح– المطبعة الأميرية بمصر عام 1911).
أما عن التعصب للدين فإن الأمثلة أكثر من أن نحصرها، ونشير على سبيل المثال إلى اغتيال علي بن أبي طالب بفتوى الخوارج بإهدار دمه، مستخدمين القرآن لتبرير جريمتهم، فقالوا إنه هو الذي أنزل الله فيه الآية 204 من سورة البقرة وقالوا عن قاتله عبد الرحمن بن ملجم إنه هو الذي أنزل الله في شأنه الآية 207 من ذات السورة (محمد سعيد العشماوي- مصدر سابق). والحجاج بن يوسف الثقفي قتل معبد الجهني لأن الأخير قال بالقدر، ومثله كان غيلان بن غيلان الدمشقي الذي أمر الخليفة هشام بن عبد الملك بقطع يديه ورجليه وصلبه حتى مات (عبد المتعال الصعيدي- مصدر سابق).
اقرأ/ي أيضًا: في ضيافة فولتير
ويُرجع الشيخ عبد المتعال الصعيدي التعصب إلى كون ثقافة أهل السنة ثقافة إسلامية خالصة وأنهم نفروا من الثقافات الأجنبية لأنها دخيلة على الإسلام ولا قيمة لها مثل الثقافة اليونانية والفارسية والهندية. وأدّى تبني هذا الموقف من العلوم الجديدة إلى الإخفاق في إصلاح الحكم، والخلط بين الدين والسياسة، وذكر أنه في القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي) كانت الدول الإسلامية تتطاحن على المُلك وتسوق رعاياها سوقَ الأنعام. أما الفرق الدينية فلم تهتم بمعاناة الجماهير وإنما اهتمت بالخلافات المذهبية التي وصلت إلى حد التقاتل بين السُنّة والشيعة.
كما شهد هذا القرن صراعًا عنصريًا -فهذه دولة عباسية فارسية وهذه تركية وهذه عربية، فصار الانقسام بين هذه العناصر إلى غايته- فصارت دولها تتقاتل على المُلك وتنسى أنه يجمعها دين واحد، وقد ضاعت في هذا القتال المجنون فكرة الدولة الواحدة للمسلمين (المصدر السابق). هل يذكّرنا هذا الكلام بشيء؟ هل يمكننا أن نرى فيه ما نحياه الآن من صراعات دموية بين أطراف وفرق متنازعة؟ عرب وأجانب، سنة وشيعة، مسلمين ومسلمين، وأبرياء يخطفهم الموت العبثي في الأثناء؟
كل عاقل يدرك جيدًا أن التعصب الديني والعرقي لا يوجد ولا ينمو إلا في مناخ معادٍ طارد للعلوم الإنسانية وفي مقدمتها الفلسفة
الخلاف بين المذاهب الفقهية كان سببًا أيضًا في الصراعات إذ يورد بعض المؤرخين أن الحنابلة بنوا مسجدًا ببغداد، فإذا مرّ بهم شافعي ضربوه حتى يموت" (محمد نور فرحات – البحث عن العقل). والتعصب هو الذي دفع علي بن أبي طالب أن يأمر بحرق "الزنادقة" كما روى البخاري، والتعصب هو الذي جعل ابن عباس يختلف مع علي لأنه كان يرى قتلهم وليس حرقهم (المصدر السابق).
أعتقد أن كل عاقل يدرك جيدًا أن التعصب الديني والعرقي لا يوجد ولا ينمو إلا في مناخ معادٍ طارد للعلوم الإنسانية وفي مقدمتها الفلسفة، لذلك لم تكن مصادفة أن تخبرنا كتب التاريخ عن أكثر من خليفة إسلامي يأمر بحرق كتب الفلسفة، ولم تكن مصادفة أن يكون مصير بعض الفلاسفة التعذيب والقتل. ولم تكن مصادفة أن يأمر وزير التعليم المصري الضابط كمال الدين حسين بإلغاء مادة الفلسفة في عهد جمال عبد الناصر. والدرس، إن كان ثمة درس يجب استخلاصه، هو أن أنظمة الاستبداد ضد الفلسفة وضد الوعي بشكل عام.
لذلك كان فؤاد زكريا على حق عندما رأى أن صفة الطاعة هي أسوأ علاقة يمكن أن تربط بين محكومٍ وحاكم وكتب يقول: "إن كل الكوارث التي لحقت بالعالم الإسلامي والعالم العربي على يد الحكومات العسكرية أو ثورات الضباط إنما ترجع إلى أن العسكريين يقيمون في ميدان السياسة علاقات مع المحكومين توازي علاقات الضباط بالجندي. وأخشى أن أقول إن الدعوة إلى الحكومات الدينية هي الوجه الآخر لهذا النمط من الحكم. فكلا النوعين حكم سلطوي، لا يرتكز على العقل والإقناع والنقد، وكل ما في الأمر أن الحكم العسكري يرتكز على سلطة القوة والبندقية والحكم الديني يرتكز على سلطة الإيمان والمنبر" (فؤاد زكريا - الصحوة الإسلامية في الميزان).
اقرأ/ي أيضًا:
لماذا انضم السوريون إلى داعش حقًا؟
مقدونيا.. الإسلام المعتدل في زمن "الخلافة"!