تشاك پولانك روائي وكاتب أمريكي. من رواياته: "نادي القتال" و"الناجي" و"يوميات".
ما زالَ البرنامج يبدو بالضَّبط كما بدا وأنت مريضٌ بحُمَّى شديدة وقابعٌ في المنزل تُشاهِد التلفزيون طوال اليوم. إنه ليس "LMAD"، ليس "عجلة الحظ"، ولا يُقدِّمه مونتي هول أو پات ساجاك. إنه ذلك البرنامج الآخَر، حيث يُنادي الصَّوت الجهوريُّ المدوِّي اسمك بين الجمهور قائلًا: "هلمَّ إلى هنا، أنت المتسابق التَّالي"، وإذا خمَّنت ثمن عُلبةٍ من الأرز بالشَّعريَّة فستطير في رحلة ذهابٍ وعودة لتعيش أسبوعًا في پاريس.
إنه ذلك البرنامج، والجائزة ليست شيئًا نافعًا أبدًا، ثيابًا لا بأس بها مثلًا أو موسيقى أو بيرة. دائمًا الجائزة مكنسة كهربيَّة أو غسَّالة، شيء قد يُحتمَل أن تتحمَّس للفوز به لو أنك مثلًا تعمل خادمًا عند أحدهم.
إنه أسبوع الزِّحام، أسبوع الانضمام إلى الأخويَّات والأخواتيَّات الجامعيَّة، والعُرف أنَّ كلَّ المتعهِّدين بالانضمام إلى أخويَّة "زيتا دِلت" يأخذون حافلة مدرسةٍ كبيرة مستأجَرة ويذهبون إلى ستوديو تلفزيونيٍّ ما ليحضروا تسجيل برنامج المسابقات. تقول القواعد إنَّ على جميع أفراد "زيتا دِلت" ارتداء التيشرت الأحمر نفسه، المطبوعة عليه حروف الزيتا دلتا أوميجا اليونانيَّة السَّوداء بالشَّبك الحريري. أوَّلًا، عليك أن تتعاطى طابعًا صغيرًا من الهالو كيتي، أو ربَّما نصف طابع، وتنتظر انبعاث الوميض في دماغك. إنه طابعٌ ورقيٌّ صغير مطبوعةٌ عليه صورة هالو كيتي، تمصُّه وتبلعه، لكنه حمضٌ على ورق نشَّاف، عقَّار هلوسة.
كلُّ ما تفعلونه أنَّ أفراد "زيتا دِلت" يجلسون معًا مكوِّنين رُقعةً حمراء وسط جمهور الستوديو ويَصرُخون ويصيحون ليظهروا في التلفزيون. هؤلاء ليسوا أخويَّةً من المتحرِّشين أو المغتصبين؛ الـ"زيتا دِلت" هُم من يتمنَّى الجميع أن يكونوهم.
تأثير الحمض عليك -إن كنتَ ستفقد صوابك وتَقتُل نفسك أو تأكل أحدًا حيًّا- شيء لا يُخبِرونك به أبدًا.
إنها التَّقاليد.
منذ كنتَ صبيًّا صغيرًا محمومًا، المتسابقون الذين يُنادونهم للاشتراك في اللُّعبة، دائمًا يدعو الصَّوت الجهوريُّ رجلًا هو جُندي مارينز يرتدي زيَّ فرقةٍ موسيقيَّة عسكريَّة بأزرارٍ من النُّحاس الأصفر. دائمًا تُوجَد جدَّة أحدهم العجوز التي ترتدي سويتشرت، ويُوجَد مهاجرٌ من مكانٍ ما لا تفهم نصف ما يقوله، ودائمًا يُوجَد عالم صواريخ كبير البطن تُتخِم جيب قميصه الأقلام.
كلُّ شيءٍ كما تَذكُره من وقت نشأتك... الفرق الآن أنَّ كلَّ أفراد "زيتا دِلت" يزعقون فيك، يزعقون بقوَّةٍ لدرجة أنَّ أعيُنهم تنغلق عن آخِرها. جميعهم عبارةٌ عن تيشرتات حمراء وأفواهٍ كبيرة مفغورة لا غير. أيديهم تشدُّك لتنهض من مقعدك وتدفعك دفعًا إلى الممرِّ. الصوت الجهوريُّ يُنادي اسمك، يقول لك هلمَّ إلى هنا، أنت المتسابق التَّالي.
مذاق الهالو كيتي في فمك كالعلكة الورديَّة. إنه النَّوع الشَّائع من الهالو كيتي، ليس ذا نكهة الفراولة أو الشُّكولاتة الذي يَطبُخه أخو أحدهم في مبني العلوم العامَّة حيث يعمل فرَّاشًا. تحسُّ بالطَّابع الورقيِّ محشورًا في منتصف حلقك، لكنك لا تُريد أن تتقيَّأ على شاشة التلفزيون، أن يُسجَّل هذا ليُشاهِده أناسٌ أغراب إلى الأبد.
يلتفت جمهور الستوديو كلُّه ليراك في تيشرتك الأحمر تقطع الممرَّ متعثِّرًا. كاميرات التلفزيون كلُّها تُكبِّر لقطتك، الجميع يُصفِّقون بالطَّريقة التي تَذكُرها بالضَّبط. أضواء لاس ڤيجَس هذه تُومِض منيرةً كلَّ شيءٍ على خشبة المسرح. إنها تجربة جديدة، لكنك شاهدتها مليون زليون مرَّةٍ من قبل، وبحركةٍ آليَّة تقف وراء المنصَّة المجاورة لجُندي المارينز.
يُلوِّح مُقدِّم برنامج المسابقات -ليس آلكس تريبك- بذراعه، فيتحرَّك جزء كامل من المسرح. ليس هذا زلزالًا، بل جدارٌ كامل يدور على عجلاتٍ خفيَّة، والأضواء في كلِّ مكانٍ تتوهَّج وتنطفئ سريعًا، وميض وميض وميض، ولكن بسرعةٍ لا يستطيع لسانٌ بشريٌّ التَّعبير عنها. ينزاح جدار المسرح الخلفيُّ الكبير هذا جانبًا، ومن ورائه تتقدَّم عارضةٌ عملاقة تتفجَّر مليون بليون شرارةٍ على فُستانها الضيِّق، وتُلوِّح بذراعٍ طويلة نحيلة لتُريك طاولةً بثمانية مقاعد كما تراها في بيت أحدهم يوم عيد الشُّكر، عليها ديكٌ روميٌّ كبير مطبوخ وبطاطا مهروسة وما إلى ذلك. خصرها خصر العارضة لا يزيد سُمكًا على عُنق أحدهم، وكلٌّ من ثدييْها بحجم رأسك. أضواء لاس ڤيجَس لا تكفُّ عن الوميض. يسأل الصوت الجهوريُّ مَن صنعَ هذه الطَّاولة ومن أيِّ نوعٍ من الخشب، ويَذكُر سعر التَّجزئة المفترَض.
لتفوز، يرفع مُقدِّم البرنامج صندوقًا صغيرًا، وكالسَّحرة الاستعراضيِّين يُري الجميع ما تحته... شيئًا هو خُبز في حالته الطَّبيعيَّة، قبل أن يتحوَّل إلى أيِّ شيءٍ يُمكنك أن تأكله، كساندوتش أو توست فرنسي مثلًا، مجرَّد خُبزٍ كما تشتريه أمُّك من المزرعة أو أينما يُزرَع الخُبز.
الطَّاولة والمقاعد لك بمنتهى السُّهولة، وما عليك إلَّا أن تُخمِّن سعر هذا الرَّغيف الكبير.
من خلفك يتضامُّ أفراد "زيتا دِلت" بتيشرتاتهم صانعين ما يبدو كتجعيدةٍ حمراء عملاقة في منتصف جمهور الستوديو، لا يَنظُرون إليك حتى، وقصَّات شعورهم متلاصقة تُكوِّن مركزًا مشعرًا كبيرًا. يبدو لك كما لو أنَّ أبديَّةً مرَّت قبل أن يرنَّ هاتفك ويُخبِرك أحدهم بالعطاء الذي اتَّفقوا عليه.
الخُبز قابعٌ هناك طوال الوقت، تُغطِّيه قشرةٌ بنِّيَّة، ويقول الصوت الجهوريُّ إنه غنيٌّ بعشرة ڤيتامينات ومعادن أساسيَّة.
يَرمُقك مُقدِّم البرنامج العجوز كأنه لم يرَ هاتفًا في حياته قَطُّ، ويقول: "وما عطاؤك؟".
وتقول: "ثمانية دولارات؟".
من النَّظرة على وجه الجدَّة العجوز، تُفكِّر أنه قد يَجدُر بهم طلب الإسعاف لأجل أزمتها القلبيَّة الوشيكة. من كُمِّ السويتشرت تتدلَّى قطعةٌ مجعَّدة من منديل كلينكس تبدو كأن جزءًا من حشو الكُمِّ يتسرَّب، أبيض يتأرجح، كأن الجدَّة دبدوب مرميٌّ في القمامة بعدما أحبَّه أحدهم أكثر من اللَّازم.
يستخدم جُندي المارينز استراتيجيَّةً ممتازةً ليغلبك، فيقول الوغد: "تسعة دولارات".
ثم ليغلبه الرَّجل عالم الصَّواريخ، يقول: "عشرة... عشرة دولارات".
لا بُدَّ أنه سؤال خادع، لأن الجدَّة العجوز تقول: "دولار وتسعة وتسعون سنتًا"، وتبدأ الموسيقى الصَّاخبة وتتوهَّج الأضواء وتنطفئ، ويسحب المقدِّم الجدَّة إلى خشبة المسرح، وتبكي هي وتلعب لُعبةً تُلقي فيها بكُرة تنس لتربح أريكةً وطاولة بلياردو. وجهها وجه الجدَّة يبدو مسحوقًا متغضِّنًا كالمنديل الكلينكس الذي تُخرِجه من كُمِّ السويتشرت. يُنادي الصَّوت الجهوريُّ جدَّةً أخرى لتأخذ مكانها، ويظلُّ كلُّ شيءٍ يندفع إلى الأمام.
في الجولة التَّالية عليك تخمين سعر بعض ثمار البطاطس، لكنها في وعاءٍ كبير من البطاطس الحقيقيَّة الحيَّة، في حالتها قبل أن تُصبِح طعامًا، كما تأتي من المناجم أو أينما يُنقِّبون عن البطاطس في أيرلندا أو آيداهو أو مكانٍ آخَر يبدأ بهذا الحرف، ليست مقطَّعةً إلى شرائح أو بطاطس فرنسيَّة حتى.
إذا خمَّنت سعرها الصَّحيح فستربح ساعةً كبيرةً داخل صندوقٍ خشبيٍّ كبير يُشبِه تابوت دراكيولا الواقف على أحد طرفيْه، لكن في داخله أجراسًا صغيرةً تدقُّ دينج دينج كلَّ ساعة. على الهاتف تُخبِرك أمُّك أنها تُسمَّى ساعة الجدِّ. تُريها إياها بالڤيديو، فتقول إنها تبدو رخيصةً.
أنت على المسرح مع كاميرات التلفزيون والأضواء، وجميع أفراد "زيتا دِلت" يتَّصلون على خطِّك المشغول، وتضمُّ هاتفك إلى صدرك وتقول: "أمِّي تُريد أن تعرف إن كان لديكم شيء أفضل يُمكنني أن أربحه".
تُري أمَّك البطاطس بالڤيديو، فتسألك عن المكان الذي اشتراها منه مقدِّم البرنامج العجوز.
تَطلُب أباك بخاصيَّة الاتِّصال السَّريع، فيسألك عن التزام دفع ضريبة الدَّخل.
إنه طابع الهالو كيتي على الأرجح، لكن وجه ساعة دراكيولا الكبيرة هذه يبدو عابسًا في وجهك، كأن فيه عينيْن سريَّتيْن خفيَّتيْن؛ ينفتح الجفنان، وتبدأ الأنياب تَبرُز، وتسمع نحو مليون بليون صرصورٍ عملاق يزحف داخل الصُّندوق الخشبيِّ. يتشمَّع جلد العارضات كلِّهن وهن مبتسمات بوجوههن النَّاظرة إلى اللا شيء.
تقول السِّعر الذي تُخبِرك به أمُّك. يُضيف جُندي المارينز دولارًا. يُضيف الرَّجل عالم الصَّواريخ دولارًا... لكنك في هذه الجولة الفائز.
وتفتح ثمار البطاطس كلُّها أعيُنها الصَّغيرة.
لكن عليك الآن أن تُخمِّن سعر مِلء بقرةٍ كاملة من الحليب في عُلبة، الحليب الذي تجده في الثلَّاجة، ثم عليك أن تُخمِّن ثمن عُلبةٍ كاملة من حبوب الإفطار كما تجدها في خزانة المطبخ. بعد ذلك كمِّيَّة هائلة من الملح النَّقي كما يأتي من المحيط، لكنه في عُلبةٍ مستديرة، غير أنه ملحٌ أكثر ممَّا يُمكن لإنسان أن يستهلكه في حياته كلِّها، ملح يكفي لأن تضعه على حافات نحو مليون بليون كأسٍ من المارجريتا.
يُرسِل إليك جميع أفراد "زيتا دِلت" رسائل قصيرةً محمومةً. الرَّسائل الواردة تتراكَم في صندوقك.
بعد ذلك يأتي بيضٌ كما تراه في عيد الفصح، لكنه أبيض صرف ومرصوصٌ في نوعٍ خاص من العُلب الكرتون، دستة كاملة من البيض. إنها بيضات منيمالستيَّة جدًّا، بيضاء ناصعة... بيضاء لدرجة أنَّ بإمكانك النَّظر إليها للأبد، ولكن عليك أن تُخمِّن في الحال سعر زُجاجةٍ كبيرة من شيءٍ كالشامپو الأصفر، غير أنه شيء مُقزِّز يقولون إنه زيت طهو، ولا تدري فائدته، وعليك بعدها اختيار السِّعر الصَّحيح لشيءٍ مجمَّد.
تضع يدك فوق عينيْك لتتجاوَز بهما أضواء المسرح المنبعثة من أسفل، لكن رفاقك في "زيتا دِلت" متوارون في الوهج، ولا تسمع إلَّا صُراخهم بمختلف المبالغ الماليَّة. خمسون ألف دولار، مليون، عشرة آلاف. مجرَّد مجموعة من البُله تهتف بمجرَّد أرقام.
كأن الستوديو ما هو إلَّا غابة مظلمة، والنَّاس ما هُم إلَّا قرَدة ترفع عقائرها القرديَّة بالصِّياح.
تكزُّ على ضروسك بشدَّةٍ تجعلك تذوق الحشو المعدنيَّ السَّاخن، تلك الفضَّة المصهورة في مؤخِّرة أسنانك. في تلك الأثناء تسيل قطرات العرق من تحت إبطك إلى مرفقك، وعلى جانبَي تيشرت "زيتا دِلت" بُقع حمراء مسودَّة. نكهة العلكة الورديَّة والفضَّة المصهورة في فمك. إنه انقطاع النَّفس في أثناء النوم مع فرق أنك مستيقظ، وعليك أن تُذكِّر نفسك بأخذ النَّفس التَّالي... خُذ نفسًا آخَر... في حين تحاول العارضات الماشيات على كعوبٍ عاليةٍ برَّاقة قِوادة فرن ميكروويڤ وآلة تمارين رياضيَّة للجمهور، وتُواصِل أنت التَّحديق إليهن محاولًا أن تُقرِّر هل هن حسناوات حقًّا. يجعلونك تُدوِّر تلك العجلة العملاقة، ثم تُجمِّع مجموعةً من الصُّور المختلفة بحيث تتَّسق معًا. كأنك فأر تجارب أبيض في محاضرة مبادئ علم النَّفس السُّلوكي، يجعلونك تُخمِّن أيُّ عُلبةٍ من الفاصوليا المطبوخة أغلى من الأخرى، وكلُّ هذا الهرج والمرج لتربح شيئًا تجلس عليه وأنت تجزُّ الحشائش.
بفضل أمُّك التي تُخبِرك بالأسعار، تفوز بشيءٍ كالذي يُوضَع في غُرفةٍ مغطَّاة بڤانيل سهل التَّنظيف مقاوم للبُقع، تفوز بواحدةٍ من تلك الصَّفقات التي يركب فيها النَّاس مواصلةً ما ليقضوا عُطلة العُمر الملأى بالمرح والإثارة مع العائلة، تفوز بشيءٍ مرسوم باليد على طراز العالم القديم السَّاحر، مستوحى من فيلم الموسم الملحميِّ الذي بدأ عرضه مؤخَّرًا.
تمامًا كما اعتدت وأنت مريض بالحُمَّى الشَّديدة وقلبك قلب الطِّفل الصَّغير يدقُّ بسرعةٍ ولا تستطيع التقاط أنفاسك لمجرَّد فكرة أنَّ أحدهم قد يربح أرغُن كهربائيًّا. مهما وخمَ مرضك تظلُّ تُشاهِد هذا البرنامج إلى أن تخفَّ الحُمَّى. كلُّ الأضواء المتلألئة وقطع أثاث الحدائق تبدو كأنها تُشعِرك بالتَّحسُّن، كأنها تُعالِجك أو تُشفيك بشكلٍ ما.
كما لو أنَّ أبديَّةً مرَّت، لكنك تُواصِل الرِّبح حتى تَبلُغ جولة خزانة العرض.
لم يَعُد إلَّاك والجدَّة ذات السويتشرت، جدَّة تقليديَّة لشخصٍ ما، لكنها شهدَت حروبًا عالميَّةً وقنابل نوويَّةً، وغالبًا شهدَت مقتل آل كِنِدي جميعًا، واغتيال إبراهام لينكن أيضًا، والآن ها هي ذي تتقافَز على أصابع الحذاء الرِّياضي الذي تنتعله، تُصفِّق بيديْها يدَي الجدَّة وتُحيط بها العارضات والأضواء الوامضة، فيما يعدها الصوت الجهوريُّ بعربة خدماتٍ رياضيَّة وتلفزيون بشاشةٍ عريضة ومعطفٍ من الفرو يصل إلى الأرض.
ولعلَّ الحمض السَّبب، لكن شيئًا لا يبدو لك معقولًا.
أعني، لو أنك تعيش حياةً مملَّةً بما فيه الكفاية، عالمًا سعر عُلبة الأرز بالشَّعريَّة وساندوتش الهُت دُج، فمكافأتك الكبيرة أن تنزل أسبوعًا بفندقٍ ما في لندن؟ لك أن تركب طائرةً إلى روما. أقصدُ روما التي في إيطاليا. تملأ رأسك بأشياءَ تقليديَّةٍ تافهة، وهديَّتك عارضات عملاقات يُعطينك عربة ثلج؟
إذا أرادَ برنامج المسابقات هذا أن يرى كم أنت ذكيٌّ حقًّا، فعليهم أن يسألوك عن عدد السُّعرات الحراريَّة في ساندوتش الشيدر بالبصل العادي. هيَّا، فليسألوك عن سعر دقيقة الهاتف المحمول في أيِّ ساعةٍ من اليوم، فليسألوك عن غرامة القيادة فوق السُّرعة المقرَّرة بثلاثين ميلًا، فليسألوك عن أُجرة رحلة الذَّهاب والعودة إلى كابو لقضاء عُطلة الرَّبيع. بالبنس الواحد يُمكنك أن تُخبِرهم بسعر الكراسي المعقولة في حفلةٍ لفرقة پانِك.
يَجدُر بهم أن يسألوك عن سعر كوب شاي لونج آيلند المثلَّج، عن تكلفة إجهاض مارشا ساندرز، يسألوك عن السِّعر الباهظ الذي تدفعه في دواء القوباء الذي يجب أن تأخذه ولا تُريد أن يعرف أهلك باحتياجك إليه، يسألوك عن كتاب تاريخ الفنِّ الأورپي الذي كلَّفك ثلاثمئة دولار... فَكْ يو ڤِري مَتْش!
يسألوك كم التهمَ طابع الهالو كيتي من ميزانيَّتك.
تُعطي الجدَّة ذات السويتشرت سعرًا عاديًّا لخزانة عرضها، وكالعادة تظهر أرقام عطائها بأضواء ضئيلةٍ تلمع على واجهة المنصَّة التي تقف وراءها.
جميع أعضاء أفراد "زيتا دِلت" يزعقون، وهاتفك يرنُّ ويرنُّ.
لخزانتك، تُخرِج عارضةٌ خمسمئة رطلٍ من الستيك البقري النِّيء، والستيك يُمكن وضعه في مشواة، والمشواة يُمكن وضعها على متن زورق سباقٍ يُمكن وضعه داخل مقطورةٍ يُمكن وضعها على شاحنةٍ عملاقة يُمكن وضعها في جراج منزلٍ جديد في أوستن، أوستن التي في تكساس.
في تلك الأثناء ينهض جميع أفراد "زيتا دِلت"، يقومون ويقفون فوق مقاعدهم مُهلِّلين ملوِّحين، لكنهم لا يهتفون باسمك، بل يهتفون: "زيتا دِلت!"، يهتفون: "زيتا دِلت!"، يهتفون: "زيتا دِلت!" بصوتٍ مدوٍّ ليتأكَّدوا من تسجيله من أجل البثِّ.
إنه الحمض على الأرجح، لكنك تُصارِع امرأةً نكرةً لم تلتقِها من قبل قَطُّ، تُقاتِلها في سبيل قمامةٍ لا تُريدها حتى.
هو الحمض على الأرجح، لكني -هنا والآن- أقولُ تبًّا للتَّخصُّص في إدارة الأعمال، تبًّا لمبادئ المحاسبة العامَّة.
في منتصف حلقك شيء محشور يجعلك تُريد أن تتقيَّأ.
وعمدًا، ومصادفةً، تقول إنَّ السعر مليون بليون جازليون دولار... وتسعة وتسعون سنتًا.
ويُخيِّم الهدوء التَّام على كلِّ شيء، ربَّما باستثناء أصوات الطَّقطقة الخافتة الصَّادرة من أضواء لاس ڤيجَس التي تتوهَّج وتنطفئ، تتوهَّج وتنطفئ، تتوهَّج وتنطفئ. ثم كما لو أنَّ أبديَّةً مرَّت، يدنو منك للغاية مُقدِّم البرنامج ويقف عند مرفقك، ويقول بصوتٍ كالفحيح: "لا يُمكنك أن تفعل هذا"، يفحُّ مقدِّم البرنامج: "يجب أن تلعب لتربح...".
من هذه المسافة القريبة يبدو وجهه وجه مقدِّم البرنامج كأنما هُشِّمَ إلى مليون بليون شظيَّة أعيدَ لصقها معًا بماكياج وردي، مثل هَمتي دَمتي أو أحاجي الصُّور المقطَّعة. تجاعيد وجهه كأنها ندوب معركة تقديمه هذا البرنامج منذ بدأ الدَّهر. شُعيرات رأسه الشَّائبة مصفَّفة دومًا في الاتِّجاه ذاته.
يسألك الصَّوت الجهوريُّ -الصَّوت الجهوريُّ العميق المدوِّي من اللا مكان، صوت رجلٍ هائل عملاق لا تراه- أن تُكرِّر العطاء من فضلك.
وقد لا تدري ماذا تُريد من حياتك، لكنك تعرف أنه ليس ساعة الجدِّ.
تقول مليون ترليون. الرَّقم أكبر من أن يظهر كاملًا على واجهة منصَّتك، أصفار أكثر من جميع الأضواء البرَّاقة في عالم برامج المسابقات. وإنه الحمض على الأرجح، لكن الدُّموع تنهمر من كلتا عينيْك، وتبكي لأنك للمرَّة الأولى منذ كنت طفلًا صغيرًا لا تعرف ما سيَحدُث بعد هذا، وتُلوِّث دموعك وجه تيشرتك الأحمر وتُحيل الحُمرة سوادًا حتى تغيب كلُّ دلالةٍ لحروف الأوميجا اليونانيَّة.
يصيح أحد أفراد "زيتا دِلت"، وحده بين الجمهور الكبير الصَّامت يصيح: "أنت فاشل!".
على شاشة هاتفك الصَّغيرة رسالةٌ قصيرة تقول: "أيُّها السَّافل". ممَّن الرِّسالة؟ من أمِّك.
الجدَّة ذات السويتشرت تبكي لأنها فازَت، وأنت تبكي لأنك... لا تعرف لماذا.
تفوز الجدَّة بعربة الثَّلج والمعطف الفرو، تفوز بزورق السِّباق واللَّحم، بالطَّاولة والكراسي والأريكة، بجميع جوائز كلتا الخزانتيْن، لأن عطاءك مبالغٌ فيه جدًّا جدًّا. إنها تتقافَز، طقم أسنانها الأبيض النَّاصع يُوزِّع الابتسامات في كلِّ اتِّجاه. يحثُّ مُقدِّم البرنامج الجميع على التَّصفيق لها، إلَّا أنَّ أفراد "زيتا دِلت" يمتنعون. يصعد أقارب الجدَّة إلى المسرح، كلُّ أولادها وأحفادها وأولاد أحفادها، ويتجوَّلون في أنحاء المسرح ليتحسَّسوا عربة الخدمات الرِّياضيَّة اللَّامعة ويتحسَّسوا العارضات. تطبع الجدَّة قُبلات طلاء شفاهٍ حمراء على وجه مقدِّم البرنامج الورديِّ المشقَّق، وتقول: "شكرًا"، تقول: "شكرًا"، تقول: "شكرًا" بلا انقطاعٍ حتى اللَّحظة التي يغيب فيها بؤبؤا عينيْها الأسودان في محجريْهما، وتُطبِق يدها على السويتشرت حيث يُغطِّي قلبها.