في فيلمه الوثائقي الطويل الأول "توك توك" (75 دقيقة) يُصوِّر المخرج المصري روماني سعد جانبًا هامًا ومثيرًا من حياة فقراء مصر، وذلك باختياره لمجموعة من الشخصيات المرتبطة حياتهم بالـ"توك توك"، وهي تلك المركبات البدائية الصغيرة التي تجوب الشوارع المصرية حاملة راكبين لا يختلف حال أغلبهم عن حال سائقيها.
يروي فيلم"توك توك" صراع ثلاثة فتية الدائم مع السلطة الأبوية في صورتها العائلية أو في صورتها العامة
"توك توك"، الذي نال نصيبا جيدًا من الاحتفاء في عواصم دولية، تتابع حكايته ثلاثة مراهقين، شارون (15 عامًا) وبيكا (14 عامًا) وعبد الله (12 عامًا)، ممن ضاقت بهم السبل ولم يجدوا أمامهم سوى قيادة عربات التوك توك للحصول على دخل لمساعدة أسرهم. يحاول المخرج مقاربة تلك الظاهرة الجديدة زمنيًا من خلال التسجيل مع هؤلاء الأطفال الكبار الثلاثة وآبائهم ورصد حياتهم اليومية وتسليط الضوء على المخاطر والتحديات التي يلاقونها، وصراعهم الدائم مع السلطة الأبوية في صورتها العائلية أو في صورتها العامة حين يواجهون الدولة نفسها.
اقرأ/ي أيضًا: فيلم Amy.. الدخول في الأسود
بحيادية ترصد الكاميرا التناقض الموجود في الشارع والمجتمع المصريين ويبدأ ذلك منذ المشهد الافتتاحي للفيلم؛ حيث نشاهد لقطات عامة من زاوية مرتفعة لبعض شوارع القاهرة المزدحمة توضّح الاختلاف الحاد بين المباني القديمة والعمارات الخرسانية الجديدة ومدى ضآلة الأفراد في زحامهم الفوضوي، ثم تنزل الكاميرا لأرض الشارع وبالتحديد إلى تجمع أو "موقف" لعربات التوك توك مع تغّير الموسيقى المصاحبة للمشهد من الإيقاع الحالم إلى صخب أغاني المهرجانات الشعبية.
هذا التكنيك في الانتقال من العام إلى الخاص ومن الكلّي إلى الجزئي سيبقى موجودًا طيلة الفيلم لتأكيد حالة التناقض المعيشية. كلّ شيء في مكانه: الكاميرا داخل التوك توك، زحام الشوارع من خلف الزجاج، السائقون الصغار يحاولون تنظيم فوضى مركباتهم، المشاجرات اليومية مع سائقي سيارات الأجرة، أحلام هؤلاء الصغار في مقابل تبريرات أهلهم لوضعهم المتدني.
يروي "بيكا" كيفية تعلّمه قيادة التوك توك على يد أحد أصدقائه ومساعدة أمه له في شرائه بعد اقتراضها من البنك. لدى بيكا أربعة أشقاء هو أوسطهم وأب يعمل كهربائيًا ومتطلبات كثيرة لرأب صدع العَوَز داخل الأسرة. تتجوّل الكاميرا داخل المنزل لتلتقط تفاصيل البيئة الفقيرة التي يعيش فيها سائق التوك توك الصغير، وفي ربط ذكي يدخل البطلان الآخران، عبد الله وشارون، إلى الحكاية حين تلتقطهم الكاميرا في الشرفة المقابلة لمنزل بيكا. بدخولهما يتوفّر للفيلم سببًا للحديث عن الانهيار الاجتماعي والفقر المستولَد ذاتيًا في الضواحي بالنشاط المذهل لمعدّل الإنجاب لساكنيها من دون توفّر القدرة المادية للوفاء بالاحتياجات اللازمة. الأمر الذي يحيلنا إلى صلب موضوع الفيلم وهو إرغام الأطفال، قسرًا أو طوعًا، على النزول المبكر لساحة العمل لسدّ عجز لم يكونوًا سببًا فيه ثم يحدثّهم الكبار عن ضرورة الاستمرار فيما يفعلونه للبقاء على قيد الحياة.
اقرأ/ي أيضًا: 9 تشكيليين رسموا الست.. تلوين صوت الزمن
تتشابه قصص شخصيات الفيلم، فالتوك توك هو الحل الوحيد لكسب العيش والاستمرار في حياة يُراد لها أن تكون كريمة في ظل غياب الأب أو عجزه أو كسله أو تدهور الأوضاع الاقتصادية وندرة فرص العمل وما من مجال هنا للحديث عن تجريم عمالة الأطفال أو حقهم في التعليم واللعب. إما العمل وإما الجوع، ليس هناك اختيار ثالث. كذلك يبقى العنف بطلًا في حياتهم، فالعنف السائد في الشارع يتطلّب عنفًا مضادًا للدفاع عن النفس في ظلّ غياب الشرطة أو فسادها.
ينحاز المخرج المصري روماني سعد لحياة هؤلاء الذين يتحايلون على الدنيا والزمن من أجل العيش
يحكي الأطفال الثلاثة عن أحلامهم وآمالهم المتناقضة مع وضعهم والتي ربما لا يجدون سبيلًا إليها في المستقبل، ولكن تظل سحابة الأمل بالمستقبل تعلو حيز وجودهم. حالة من التعاطف ربما يجد المتفرّج نفسه أمامها رغم حرص الفيلم على الرصد المحايد من دون تدخلات ولا حتى الإتيان بوجهة نظر أخرى سوى إشارات عابرة من مارة تستوقفهم الكاميرا ليعبّرون عن انزعاجهم من الفوضى المرورية التي تسبّبها عربات التوك توك.
يحدّد الفيلم انحيازاته بوضوح ويؤكّد تركيز اهتمامه على بيان الصورة الداكنة والمعقدّة لحياة هؤلاء الذين يتحايلون على الدنيا والزمن من أجل العيش والبقاء فقط على قيد الحياة. يأخذنا هذا إلى نوعية الحوار والكلمات التي تأتي في سياق الفيلم على لسان أبطاله من شخصيات يحكمها قانون الشارع وأخلاقه. الحديث هنا عن "نظافة" المحتوى السينمائي وسمعة مصر يبدو عبثيًا بالنظر للوثائقي الذي يتبنّى ضمنيًا فكرة الفنّ كمرآة للمجتمع الذي يرصده، مجتمع الضواحي والأحياء الشعبية والمناطق العشوائية. هنا ستصفعك الشتائم بألفاظها النابية وإيحاءاتها الجنسية. أنصار السينما النظيفة لن يعجبهم هذا بالتأكيد متناسين أن المشكلة تبدأ من نقطة سابقة وهي تجاهل الدولة لهؤلاء الناس وتركهم بدون خدمات أو مرافق أو أية خطط جدية للارتقاء بهم وتحسين ظروف حياتهم.
اقرأ/ي أيضًا: