هذا النص فصل من رواية "عمدة كاستربردج" للروائي البريطاني تومس هاردي، التي صدرت عن دار روايات في قبل عدة أشهر.
كانت شمس الصباح تفيض خلل شقوق الخيمة عندما استيقظ الرجل. ساد جوَّ الخيمة وهجٌ دافئ، وكان ثمَّة ذبابة كبيرة زرقاء تطنُّ طنينًا موسيقيًّا وهي تحوم وتحوم حول المكان. عدا طنين الذبابة لم يكن ثمَّة صوت. نظر حواليه، إلى المقاعد، والمائدة المدعومة بالمساند، وسلَّة أدواته، والموقد الذي كانت تغلي عليه القمحيَّة، والأطباق الفارغة، وبعض حبوب القمح المتناثرة، وأسِدَّة القناني التي غطَّت الأرضيَّة المعشوشبة. وتبيَّن بين البقايا شيئًا صغيرًا لامعًا فالتقطه. لقد كان خاتم زوجته.
بدأت تعود إليه صورة مشوَّشة عن أحداث المساء الفائت، وحشر يده داخل جيب صِداره، فكشف صوتُ حفيفٍ أوراقَ البحَّار النقديَّة التي كانت محشورة هناك بإهمال.
كان ذلك التَّحقُّق الثاني من ذكرياته المعتمة كافيًا، فأدرك الآن أنها لم تكن أحلامًا. بقي جالسًا وهو يطرق إلى الأرض بعض الوقت. "يجب أن أخرج من هذا بأسرع وقت ممكن"، قال بتروٍّ أخيرًا وبنبرة شخص لم يستطع الإمساك بأفكاره دون نطقها. "لقد رحلت، مؤكَّد أنها رحلت، رحلت مع ذلك البحَّار الذي اشتراها هي وإلِزَابِث جيْن الصغيرة. لقد دخلنا إلى هنا وتناولتُ القمحيَّة وفيها الرُّوم، وبِعتُها. نعم ذلك ما حصل، وها أنا هنا. والآن ماذا عساي أن أفعل؟ أتعجَّب، هل أنا مُتَّزنٌ بما يكفي لأمشي؟" وقف، ووجد أنه في حال جيدة إلى حدٍّ ما ليمشي، غير مُعَوَّق. ثمَّ وضع سلَّة أدواته على كتفه ووجد أنه قادر على حملها. بعد ذلك، رفع باب الخيمة وخرج إلى الهواء الطلق.
وهنا أخذ الرجل ينظر حواليه بفضول وكآبة. وبينما هو واقف ألهمته طراوة صباح سبتمبر وأنعشته. لقد كان وعائلته مرهقين عندما وصلوا الليلة الماضية، ولم يروا سوى القليل من المكان، ولذلك يراه الآن كشيء جديد. كان على قمة رابية مفتوحة، يحدُّها من أحد أطرافها حقل، ويصل إليها المرء من طريق متعرِّج. وفي الأسفل قامت القرية التي أعارت اسمها لذلك النَّجْد والسوق السنوي المُقام عليه. امتدَّت تلك البقعة إلى السهول، وصعودًا نحو نجود أخرى كانت تغطِّيها الرَّوابي وبقايا حصون ما قبل التاريخ. كان المشهد بأسره ينبسط تحت أشعة الشمس المشرقة توًّا، التي لم تُجفِّف بعد ورقةَ نبات واحدةً من العشب المغمور بالنَّدى، ووقفت في البعيد عرباتٌ حمراء وصفراء بدت ظلال عجلاتها طويلة الامتداد مثل مدار مذنَّب. وكان جميع الغجر والعارضين الذين بقوا في الساحة يضطجعون داخل دفء عرباتهم وخيامهم أو يلتفُّون بأكسِيَة الخيل تحتها، وكانوا صامتين وساكنين وكأنهم أموات لولا شخيرهم المتقطِّع الذي كان يُنبئ بوجودهم. ولكن كان للسبعة النائمين كلب، وكانت تربض هناك أيضًا كلاب ذات سلالات مجهولة، تلك التي يملكها المتشرِّدون، والتي تشبه القطط أكثر من الكلاب، والثعالب أكثر من القطط. جفل جرو صغير تحت إحدى العربات، ونبح كما ينبغي لفطرته، ثم سرعان ما ربض ثانيةً. كان هو الشاهد الأكيد الوحيد على خروج التَّبَّان من أرض سوق وِيدون.
وبدا ذلك ملائمًا لرغبته. مضى مفكِّرًا بصمت وغير مُكترثٍ بطيور الدُّرَّسَة الصفراء وهي تحلِّق فوق أسوجة الشجيرات حاملةً في مناقيرها أعواد القش، ولا بتيجان نبات الفطر، ولا برنين أجراس الخراف المحلِّيَّة التي حالفها الحظ السعيد ولم تُعرَض في السوق. ولمَّا وصل الرجل إلى طريق يبعد بضعة أميال عن مشهد المساء الفائت، طرح سلَّته أرضًا واتكأ على بوابة. كانت تشغل عقله مشكلة صعبة واحدة أو اثنتان.
"هل أخبرتُ أحدًا باسمي الليلة الماضية، أم أنني لم أخبر باسمي؟" قال لنفسه، وخلُص أخيرًا إلى أنه لم يفعل. كان سلوكه العام كافيًا ليُظهر كم كان مدهوشًا ومغتاظًا من زوجته عندما فهمته فهمًا حرفيًّا تامًّا، حيث أمكن رؤية ذلك على وجهه وفي الطريقة التي يقضم بها عود قشٍّ انتزعه من السياج. كان يعلم أنها لا بدَّ كانت منفعلة بعض الشيء عندما فعلت ذلك، وإضافةً إلى ذلك، لا بدَّ أنها صدَّقت أنَّ ثمَّة قوَّة مُلزِمة في تلك الصفقة. شعر أنَّه متيقِّنٌ تقريبًا من النقطة الأخيرة، لأنَّه كان يعرف تحرَّرها من تقلِّب الشخصية، ويعرف بساطة تفكيرها المفرطة. وربَّما كان هناك أيضًا قدر كافٍ من لامبالاة وامتعاض وراء هدوئها المعتاد جعلاها تكبت أية شكوك لحظيَّة، ففي مناسبة سابقة عندما أعلن في لحظة سُكْر أنه سيتخلَّص منها كما فعل هذه المرَّة، أجابت بنبرة استسلام شخص مؤمنٍ بالقضاء والقدر بأنَّه لن يمرَّ وقت طويل على قوله ذلك حتى يتحقَّق... "ولكنَّها تعرف أنني لا أكون حاضر الحواس عندما أفعل ذلك!" صاح. "حسنٌ، يجب أن أبحث عنها حتى أجدها... أقبض عليها، لِمَ لمْ تكن أكثر تعقُّلًا من أن تجلب لي هذا العار؟" قال مزمجرًا. "إن كنتُ شاذَّ الأطوار فلم تكن هي كذلك. إنَّها سُوْزَنْ من يُظهر بساطة حمقاء كهذه. إنَّها خانعة، ذلك الخنوع سبَّب لي أذًى أكثر مما يسبِّبه طبعي الحادّ!"
وعندما هدأ عاد إلى قناعته الأصليَّة بأنَّه يجب أن يجدها هي والصغيرة إلِزَابث جيْن بطريقة أو بأخرى، وأن يتحمَّل الخزي ما وسعه ذلك، فقد كان ذلك من صنع يديه وعليه أن يتحمَّله. ولكنَّه قرَّر أوَّلًا أن يؤدي قَسَمًا، قسمًا أعظم من أيِّ قسم أدَّاه من قبل، ولكي يفعل ذلك كما ينبغي كان بحاجة إلى مكان مناسب وأيقونة مناسبة، ذلك أنَّه كان ثمَّة إيمان لاعقلاني يتعلَّق به هذا الرجل في معتقداته.
حمل سلَّته على كتفه وواصل سيره وهو يقلّب نظره باحثًا في الطبيعة من حوله، وبعد ثلاثة أميال أو أربعة عاين ذُرا قريةٍ وبرجَ كنيسة، فقصد فورًا الهدف الثاني. كانت القرية هادئة تمامًا، لأنَّ الساعة كانت الساعة الساكنة من الحياة الريفية اليومية، التي تشغل الفترة بين ذهاب عمَّال الحقل إلى أعمالهم وبين نهوض زوجاتهم وبناتهم لإعداد الإفطار إثر عودتهم. وهكذا وصل إلى الكنيسة دون أن يلحظه أحد، ولمَّا كان الباب مُزْلَجًا فقط دخل. وضع التبَّان سلَّته جوار جُرْن التعميد، واتَّجه إلى صحن الكنيسة حتى بلغ بوابة المذبح، ففتحها ودخل إلى المكان المقدَّس وبدا أنَّ إحساسًا بالغرابة ساوره لحظةً، ثم جثا على المنصَّة.
ترك رأسه يسقط على الكتاب المثبَّت بإحكام والمبسوط فوق مائدة العشاء الرَّبَّانيِّ وقال بصوتٍ عالٍ: "أقسم، أنا مايكل هِنْشَرْد، في صباح السادس عشر من سبتمبر هذا، في هذا المكان المَهيب، أن أجتنب جميع المُسْكِرات طوال إحدى وعشرين سنة قادمة، كلُّ سنة منها تساوي كلَّ سنة عشتها. أقسم على هذا باسم الكتاب الذي أمامي، وليُصبني البَكَم والعمى والعجْز إن نكثت بقسمي هذا!"
حين قال التَّبَّان ذلك وقبَّل الكتاب الكبير نهض وبدا متخفِّفًا لأنه صنع بداية جديدة. ووقف في المدخل لحظةً فرأى سحابة كثيفة تصعد فجأة من مدخنة حمراء لكوخ قريب، فعرف أنَّ قاطنها قد أشعل النار توًّا. اتَّجه إلى باب الكوخ ووافقت ربَّة البيت أن تعدَّ له إفطارًا لقاء مال زهيد، وحصل ذلك. ثم شرع في البحث عن زوجته وطفلته.
وسرعان ما أصبحت الطبيعة المُشوِّشة لمهمته جليَّةً. ومع أنَّه بحث وسأل، وسار هنا وهناك يومًا بعد آخر، لم يَرَ أحدٌ أشخاصًا كالذين وصفهم في أي مكان منذ ذلك المساء في السوق. وما زاد الأمر صعوبة أنَّه لم يستطع معرفة اسم البحَّار. ولأنَّه كان ينقصه المال فقد قرَّر بعد بعض التردُّد أن ينفق مال البحَّار على متابعة هذا البحث، ولكنَّ ذلك لم يُجْدِ نفعًا أيضًا. كانت الحقيقة هي أنَّ خجل مايكل هِنْشَرْد الأكيد من كشف فَعْلته قد منعه من متابعة بحثه الذي يقتضي إثارة الصخب ليأتي بنتيجة، ولعلَّه لهذا السبب لم يحصل على أيَّة معلومات، مع أنَّ كل شيء قام به لم يتضمَّن أيَّ تفسير للظروف التي فقد فيها زوجته.
أصبحت الأسابيع شهورًا، وكان ما يزال يبحث مُنفقًا على نفسه بالقيام بأعمال صغيرة بين فترة وأخرى. وفي أثناء ذلك وصل إلى ميناء بحري، وهناك استمدَّ بعض الأنباء بأنَّ الأشخاص الذين وصفهم كانوا قد هاجروا منذ وقت قصير. ثم قال إنه سيتوقَّف عن البحث وسيذهب ويستقر في المقاطعة التي كانت في ذهنه بعض الوقت. وفي اليوم التالي بدأ رحلته نحو الجنوب الغربي، ولم يتوقَّف إلا ليلةً للمبيت، حتى بلغ بلدة كاسْتربرِدْج في جزء قصيٍّ من مقاطعة وِسِكْس.
اقرأ/ي أيضًا: