يعود الحديث عن ممارسات التعذيب ضدّ الموقوفين في السجون التونسية، بعد خمس سنوات على اندلاع الثورة، إثر تسجيل بعض حالات وفاة اتهم فيها أهالي الضحايا وزارة الداخلية بتعذيب أبنائهم ما أدّى إلى وفاتهم، وأدانت العديد من المنظمات الدولية والوطنية عودة التعذيب إلى بلد شهد ثورة على القمع والدكتاتورية البوليسية.
عرفت المداهمات الأمنية غير القانونية ارتفاعًا ملحوظًا بعد إعلان قانون الطوارئ
ورغم إمضاء اتفاقية بين وزارة العدل والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، حول مراقبة السجون، يوم 10 تموز/يوليو الماضي، التي تعهد فيها وزير العدل محمد صالح بن عيسى إلى التصدّي إلى محاولات انتهاك حقوق الإنسان داخل السجون، لم يمنع حدوث التعذيب داخل غرف الإيقاف والسجون لا سيما بعد إعلان حالة الطوارئ في الفترة الأخيرة، ومحاربة الإرهاب الذي طال المدنيين ونكّل بهم، بل وصل الأمر إلى قنصهم وقتلهم.
مرّت سنة على حادثة قتل أنس وأحلام الدلهومي، في آب/أغسطس من السنة الماضية، برصاص دورية أمنية، وما تزال حيثيات وملابسات الجريمة مجهولة رغم مطالبة العائلة ومساعيها الحثيثة لإماطة اللثام عن الحادث وتقديم القتلة إلى العدالة.
لم تكن أنس وأحلام الضحيتين الوحيدتين للتعذيب من طرف قوّات الأمن فقد سبقهما آخرون، وتبقى حادثة السيدة دليلة الساحلي التي توفيت على مرأى من قوات الأمن في مدينة الفحص، بعد تصديها لهم واستفسارهم عن سبب الزيارة، وذلك أثناء مداهمة منزلها لإلقاء القبض على ابنها الذي لم يعرف عنه ميولات إرهابية حسب السجل الأمن،. مؤشرًا على تواصل التعذيب.
عرفت المداهمات الأمنية غير القانونية ارتفاعًا ملحوظًا بعد إعلان قانون الطوارئ، وقد نبهت بعض المنظمات الحقوقية إلى هذا وأبدت تخوفها أن يكون هذا سببًا في زرع الحقد والكراهية بين المواطن والأمن، لا لمحاربة الإرهاب واجتثاثه.
ورغم محاولات وزارة الداخلية تقديم قواتها في مظهر الأمن الجمهوري الحامي لقيم الديمقراطية والتعددية في تونس ما بعد الثورة، إلا أن هذا لم يمنع من تنامي التعذيب داخل مراكز الإيقاف والسجون، إضافة إلى العنف البوليسي ضدّ المتظاهرين، خاصة في مظاهرات "وينو البترول" التي اتسمت بالوحشية في قمعها، وكانت آخر الاعتداءات الاعتداء بالقوة المفرطة في تفريق تجمع احتجاجي للمعلمين، في ولاية سيدي بوزيد، في سابقة من نوعها، إذ لم يحدث سابقًا الاعتداء بالعنف الشديد على المربين، وهو ما أحدث استياء كبيرًا في أوساط المجتمع المدني والسياسي في تونس.
ويبقى الحديث حول إطفاء أعقاب السجائر على أجساد المتهمين أشهر الأحاديث المرتبطة بالتعذيب في المدّة الأخيرة، إذ عمد النظام، وبعض الإعلاميين، إلى تبرير العنف البوليسي ضدّ المشتبهين في قضايا الإرهاب، بعد قيام بعض العناصر بإطفاء السجائر على أجساد الموقوفين لانتزاع الاعترافات منهم.
وفي هذا الصدد، قال لزهر العكرمي، الوزير المكلف لدى رئيس الحكومة بالعلاقات مع مجلس النواب وأحد قياديي الحزب الحاكم "نداء تونس"، في تصريح إعلامي له إن إطفاء السجائر على أجساد المشتبهين ليس تعذيبًا إنما هو سوء معاملة ضرورية لأخذ الاعترافات.
لم يكن العكرمي الوحيد في ابتداع هذا التعريف الجديد، فقد ساندته في هذا الإعلامية التونسية مريم بلقاضي التي حصلت مؤخرًا على منصب سفيرة معاهدة سيداو من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدّة، وقد أثارت تصريحات الإعلامية بلقاضي حفيظة شرف الدين القليل، أحد محاميي عائلات شهداء وجرحى الثورة، حيث أعلن في تدوينة له على فيسبوك عن رغبته في إطفاء السجائر على جسد مريم بلقاضي، وهو ما أثار الرأي العام بين مؤيد أو مستنكر لتصريحات القلّيل التي جاءت بعد تصريحات الوزير والإعلامية.
عودة التعذيب هي عودة للدكتاتورية
تعتبر المعارضة في تونس أنّ عودة التعذيب تبشر بعودة الدكتاتورية، بينما يدافع النظام عن نفسه باعتبار كل ما سُجل من ممارسات للتعذيب بأنّها حوادث فردية، لا تعكس الإرادة السياسية في الانتقال الديمقراطي وبناء دولة القانون والمؤسسات. وفي هذا السياق يصرّح الإعلامي أمان الله المنصوري، أحد الناشطين في حملة "وينو البترول"، أنّ التقرير السنوي لـ"المنظمة التونسية لمناهضة التعذيب"، يوثّق اتباع الجهاز الأمني لـ22 نوعًا من التعذيب وسوء المعاملة ضد المشتبه بهم، أو المعتقلين داخل مراكز الإيقاف، أو في السجون، وبالتالي فإنه من غير الممكن الادعاء أنها حالات فردية.
وواصل المنصوري حديثه بأنّ متابعة البيانات الشهرية للمنظمات الحقوقية حول انتهاكات حقوق الإنسان، ومقارنتها بنظيرتها أيّام ديكتاتورية نظام بن علي، نلاحظ تفاقمًا رهيبًا لظاهرة التعذيب وصلت إلى حدّ وفاة عدد من الموقوفين، وإصابة آخرين بعاهات جسدية، فالتعذيب أصبح عقيدة أمنية تغذيها سياسة الإفلات من العقاب، وتبررها شماعة مكافحة الإرهاب، ولم يخفِ الناشط المنصوري تخوفه من عودة الديكتاتورية بعد استغلال وزارة الداخلية لحالة الطوارئ في قمع الاحتجاجات المطلبية، على غرار قمع مظاهرات حملة "وينو البترول".
وفي هذا السياق يعتبر الناشط اليساري فوزي الدعاس، أحد الناشطين في ملف شهداء وجرحي الثورة، أن الحديث عن التعذيب كحوادث معزولة هو ضرب من ضروب التستر على حقيقة قمع هذا النظام، الذي ما زال بيد أقلية سياسية تعتمده لتسيير مصالحها والمحافظة عليها.
ويؤكد الدعاس أنّ تواصل التعذيب في أروقة وزارة الداخلية وداخل السجون التونسية، منذ تاريخ قتل الناشط اليساري نبيل بركاتي تحت التعذيب البوليسي، في 8 أيار/مايو 1987، وصولًا إلى يوم قتل الشاب وليد دنقير، تحت التعذيب أيضًا، أواخر سنة 2013، ليس إلا حجة دامغة على تواصل النظام القديم، وأن الانتقال الديمقراطي ليس إلا كذبة لتضليل الثوريين عن مواصلة مطلبهم الأساسي في إسقاط النظام.
يبقى الجدل قائمًا في تونس حول عودة الدكتاتورية البوليسية، على عدة أشكال كإعلان قانون الطوارئ ومكافحة الإرهاب وعودة التعذيب إلى السجون، وهو أحد المواضيع التي انقسم فيها التونسيون بين مناصر لعنف وزارة الداخلية في التعاطي مع ملف الإرهاب، ومندد بالخروقات الأمنية خوفًا من عودة القمع تحت شماعة مكافحة الإرهاب.