ألترا صوت – فريق التحرير
تستعيد هذه المساحة الأسبوعية، كل أربعاء، ترجماتٍ منسية مختلفة الاتجاهات والمواضيع، كُتب لها أن تؤدي دورًا معينًا في لحظةٍ ما، قبل أن يطوي الزمن صفحتها فيما بعد، لتصير ترجماتٍ "طي النسيان"، بعيدة عن اهتمامات الناشرين العرب. إنها، بجملةٍ أخرى، مساحة يخصصها "ألترا صوت" لرد الاعتبار لهذه الترجمات، عبر لفت انتباه القراء والناشرين العرب إليها، في محاولةٍ لجعلها قيد التداول مجددًا.
يُعرف الكاتب الفرنسي ريجيس دوبريه (1940) بصفته مفكرًا وفيلسوفًا أكثر منه روائيًا. ولكنه قبل ذلك صاحب تجربةٍ نضالية سُلط عليها الكثير من الضوء، وشغلت حيزًا واسعًا من مؤلفاته الفكرية والأدبية، وساهمت أيضًا في إعادة تشكيل وعيه ومواقفه السياسية. ففي ستينيات القرن الفائت غادر دوبريه العاصمة الفرنسية باريس نحو كوبا، ومنها باتجاه بوليفيا، حيث التحق بصفوف جيش التحرير الوطني "إي إل إن"، بقيادة إرنستو تشي جيفارا، قبل أن يقع أسيرًا في يد قوات الحكومة البوليفية التي أصدرت بحقه حكمًا بالإعدام.
"غير المرغوب فيه" ليست رواية بقدر ما هي سيرة ذاتية، يتناول فيها دوبريه تجاربه في صفوف حركات التحرر الوطني اللاتينية
خُفف حكم الإعدام لاحقًا إلى السجن لمدّة ثلاثين عامًا، ولكن المفكر الفرنسي خرج من السجن بعد نحو أربع سنواتٍ من اعتقاله، نتيجة جهود الحملة التي التي انطلقت لمساندته، بقيادة مواطنه جان بول سارتر، لتُطوى بذلك صفحة نشاطه المسلح في صفوف حركات التحرر الوطني اللاتينية.
اقرأ/ي أيضًا: تُرجم قديمًا: ما يبقى
في روايته "غير المرغوب فيه" التي صدرت للمرة الأولى عام 1975، يسرد ريجيس دوبريه وقائع تجربته النضالية في القارة اللاتينية، من خلال حكاية شابٍ ينخرط في صفوف التنظيمات المسلحة، التي بنى في مخيلته عنها صورة مختلفة تمامًا عن تلك التي صادفها في الواقع، الأمر الذي دفع البعض إلى القول بأن الرواية مساحة يسعى دوبريه من خلالها إلى تصفية كامل حساباته مع تلك المرحلة.
تُقدِّم الرواية التي صدرت النسخة العربية منها عام 1983 عن "مؤسسة الأبحاث العربية"، ترجمة كميل قيصر داغر، حكاية فرانك، الشاب الذي يخوض غمار الكفاح المسلح في صفوف إحدى الجماعات الشيوعية المسلحة بعد انتصار الثورة الكوبية، حيث سيعاين، وبخيبة أملٍ كبيرة، الفروقات الهائلة بين ما سمعه عن حركات التحرر الوطني، وبين ما يراه واقعًا أمامه مباشرةً، في الوقت الذي تتعالى فيه حدة الانتقادات الموجهة إلى هذه الحركات، ومن خلفها الدول التي تساندها.
يدخل فرانك نتيجة هذا الواقع والتحولات البائسة والمتسارعة من حوله، في حالة من الإحباط والشعور المرير بالخيبة التي تدفعه للتساؤل عمن: "خرّب حلمنا؟ كسر لعبتنا؟ لماذا ينبغي أن نكبر ونجد أنفسنا على هذه الدرجة من الوحدة؟". ولكن هذه الخيبات لا تدفع بفرانك إلى التخلي عن أفكاره وقناعاته بقدر ما تدفعه للتمسك بها، انطلاقًا من قناعته بأن هناك ما يدفع للتفاؤل وإن نسبيًا، ذلك أنه، وبعيدًا عن البيروقراطية الطفولية التي أقامت أنظمةً اشتراكيةً تسلطيةً بدلًا من تلك التي سعت الثورات لإقامتها، هناك من لا يزال يقاتل من أجل بناء عالمٍ نظيف.
ويحاول ريجيس دوبريه في روايته هذه، أن ينقل إلى القارئ مشاعر يرى كميل قيصر داغر في تقديمه لطبعتها العربية أنها: "النقيض المطلق لما يمكن أن تفرزه العلاقات البيروقراطية الباردة والقاسية والغُفلة، المتحولة إلى قوانين صارمة، والتي تضع حواجز بالغة السماكة بين المناضلين، ولا سيما بين الشرائح الحزبية العليا، وتحوّل العمل النضالي إلى طقوس".
يقدِّم دوبريه في "غير المرغوب فيه" مشاعر هي النقيض المطلق لما يمكن أن تفرزه العلاقات البيروقراطية الباردة والقاسية
"غير المرغوب فيه" ليست رواية بالمعنى المتعارف عليه بقدر ما هي سيرة ذاتية، يتناول فيها الكاتب الفرنسي تجاربه في إطارٍ يزاوج بين الخيال والواقع، بهدف تقديم قصة قادرة على اقناع القارئ، وشخصياتٍ لا تبتعد عن هذا الهدف أيضًا، لا سيما وأن بطلها هو انعكاسٌ لمؤلفها، بل إن البعض ذهب باتجاه القول بأنها مساحة يعيد فيها دوبريه كتابة تاريخه المحمل بالتناقضات، شأنه شأن شخصيته.
اقرأ/ي أيضًا: تُرجم قديمًا: إدغار آلان بو
إنها، وبحسب داغر، سردٌ لقصة: "ذاته الأخرى، الشخص الآخر الذي يطل بين الحين والآخر من حنايا نفسه. إنها كتابة تلك الحياة من ضمن نظرة ارتدادية حيث يجري الجمع بين الحنين الدائم إلى طفولةٍ متخطاة، والتطلع نحو مستقبل يبدو أكثر فأكثر أنه لا يخضع لإرادتنا وبدرجةٍ أقل أيضًا لأحلامنا".
اقرأ/ي أيضًا: