فقد جدي جميل السمع في شبابه. كان حينها يسبح في نهر الفرات بالقرب من مدينة دير الزور مع عدد صحبه. تلقى ضربة مازحة من صديقه مما جعل الكثير من الماء يتسرب إلى أذنه اليسرى، وهذا جعله يفقد حاسة السمع بهذه الأذن.
كانت عمتي، حين تخاطبه، تصدح بصوتها الرنان الذي يسمعه الجيران كلّهم، حتى كنت أظنّ أنّ بإمكانها أن تصبح مغنية أوبرا، إن وُجد في مدينتا مسرح واحد وقليل من التدريب، فهي كانت تمرّن صوتها بالصراخ مع جدي أكثر من أيّ فنان عرفته الأرض.
أما عمي، فقد كان ذا صوت هادئ، ساكنًا كجدول، لكنّ الآية انقلبت وأصبح صوته مرتفعًا، كأصوات أهل القرى الجبلية حين ينادون بعضهم البعض عبر الوديان ومن الأعالي، بعد أن فقد جدي سمعه.
جدتي كانت تطلب من ابنتها أن تخاطب جدي، إن أرادت مخاطبته، فهي ذات صوت لا يُسمع إلّا بصعوبة. وكانت عمتي تقوم بالمهمة على أكمل وجه.
جدي كان طويلًا، عريض المنكبين، صغير العينين، رفيع الشارب، حليق الذقن، ذا أنف كبير مثله مثل معظم الأكراد. كان طيب القلب جميل الروح ونبعًا من حنان لا ينضب.
جدي جميل كان يحبّ الطائر الحر أكثر من جدتي التي أنجبت له ستة أولاد وخمس بنات. في كل عام تقريبًا، وفي موسم الصيد، كان يقوم برحلة مع ابن أخته إلى ريف دير الزور وتدمر وجبل كوكب وجبل عبد العزيز بحثًا عن هذا الصقر العنيد. كانت سعادته الكبرى هي الفوز بهذا الحرّ وجعله أسير حبّه. كان يتحدث عن "ابن السماء" وكأنه يتحدث عن صديق عزيز يعرفه ويفهم طباعه.
في غرفة الجلوس كان يملك جدي زوجين من طائر الحجل، يعتني بهم رغم عدم قدرته على سماع أصواتهم. ذات شتاء بارد، حين كنت رضيعًا، كان جدي يلاعبني كما يلاعب الحجل. حينها سقى الحجل ماءً ومن ثم سقاني من نفس الماء. خافت أمي كثيرًا واستنجدت بجدتي، لكن جدي جميل طلب منها عدم الخوف وقال إنّ هذا الماء سوف يساعد الرضيع على التكلم بسرعة كبيرة. وذلك ما كان، فقد بدأت النطق وأنا ابن ثمانية شهور.
كنت حفيده المفضل، رغم إنّني لم أكن الحفيد الوحيد الذي يحمل اسمه، فابن عمي الأكبر يحمل الاسم نفسه. كان يطلب مني الاجتهاد في المدرسة كي أصبح مهندسًا، لكنّني خيبت ظنه، ولم أفلح في الدراسة قط.
كان جدي يحب بيروت مثلي، أو الأجدى بي القول: لقد أحببتُ بيروت لحبّه لها. كان يعرف المدينة ككف يده. كان يزورها كثيرًا منذ ستينيات القرن الماضي، وله صور كثيرة فيها. أذكر إحداها، حينها كان يرتدي بزّة سوداء وربطة عنق حمراء، يقف مع أولاد عمه الثلاثة ومن خلفهم تظهر صخرة الانتحار، صخرة الروشة.
يقولون إنّ جدي كان وسيمًا جدًا في شبابه ويشبه ناظم الغزالي قليلًا، لكن أجمل منه بكثير. وقيل إنّه كان على علاقة بواحدة من جاراته (لن أذكر اسمها خوفًا من فضيحة تطال عائلتها). قيل إنّها أحبّته كثيرًا، وإنّها بكيت كثيرًا عندما مات.
سنة 2007 كنت أمشي مع جدي في منطقة راس النبع في بيروت، حينها رأي جدي فتاة جميلة تطل من شرفة في الطابق الأول. قال لي: انظر كم هي جميلة تلك الفتاة. ابتسمت وقلت: إنّها كذلك. ظلّ ينظر إليها مطولًا، وأكاد أجزم بأنّه كان يفكر بها طوال اليوم. كانت عيناه في ذلك اليوم تلمعان وهو يتأمل أبنية بيروت. قال لي إنّ بيروت متجددة دائمًا ولكن هذا التجديد لن ينال من معرفتي بها. قال إنّ لبنان كان أجمل بلد في الشرق كلّه ولكنّهم دمروه. قال إنّ بيروت زهرة عطرة تسحر الغريب فتجعله غريق حبها. قلت له: أتحبها يا جدي أكثر من القامشلي؟ لم يجب. عرفت جوابه من صمت عينيه.
امتلك جدي حبًا عظيمًا لفريد الأطرش، كان يقول إنّ فريد الأطرش هو أعظم فنان عربي على الإطلاق، فنان مكتمل الصوت والحضور وملحن عظيم. كان يقول: إن كان لآلة العود لسان لقالت لن أسمح لغير فريد الأطرش بالعزف على أوتاري. كان جدي حازمًا جازمًا في رأيه هذا.
شاهد جميع أفلام فريد الأطرش ومرة في السبعينيات حقق أمنيته بلقاء فنانه المفضل وذلك حين حضر حفلة فريد الفريد في بيروت. لم يكن يصدق ما يراه، كانت حماسته ولهفته ودهشته أكبر من أن يحتملها، فبكى كثيرًا في تلك الليلة. لم أستغرب من ذلك حين قال لي هذه القصة، فلطالما عرفت جدي رقيق القلب كريم الدمع.
كنّا نتناول طعام الغداء ذات ظهيرة شديدة الحرارة حين طلب مني جدي بأنّ أجد له فيلمًا لفريد الأطرش. بحثت في قنوات الأفلام العربيّة عن أحد هذه الأفلام القديمة، ولحسن الحظ كانت إحدى تلك القنوات تعرض فيلم "زمان يا حب". فَرِحَ جدي شديد الفرح، طلب منّا السكوت ورفع صوت التلفزيون ليسمع الحوار جيدًا. كان يتابع باهتمام شديد، وأنا كنت على ثقة بأنّه شاهد هذا الفيلم أكثر من سبعين مرة. فرحتُ لفرحه. كان يستبق الأحداث ويخبرنا بالمشهد القادم. بكى جدي أمامنا حين أنهى فريد الأطرش غناء "فوق غصنك يا لمونة". حزنت حينها كثيرًا لبكائه.
كان جدي يملك جهاز راديو قديم من ماركة سوني. كان يحبه كثيرًا ويهتم به كطفل. كان يقوم بتنظيفه وتلميعه كلّ يوم، ولا يبعده عن أذنه اليمنى إلا نادرًا. يستمع إلى الأخبار وإلى أغنيات فريد وفيروز ووديع الصافي وإلى برنامجه المفضل، حكم العدالة.
مات جدي سنة 2008 وهو يشارف السبعين من عمره، ودفن بالقرب من ابنه، الذي مات بمرض تشمع الكبد بعد أن أنهى خدمته العسكريّة الإلزاميّة بشهرين، وأخته.
كنت في بيروت مع أبي وأعمامي حين عرفنا بخبر رحيل جدي. لم أبك في بادئ الأمر، كنت مصعوقًا. بكى أبي كالأطفال وكذلك فعل أعمامي. انفجار دمعي حصل في المساء، انفجرت كالبركان الذي يحبس في داخله غضبًا وحممًا راقدة على شكل دموع مالحة.
قبيل موته طلب جدي أن يشرب كأسًا من الماء. استلقى على ظهره واضعًا منشفة الحمام على عينيه، مبعدًا الضوء عن عينيه للمرة الأخيرة. حين حاولوا لاحقًا إيقاظه لم يستجب. هكذا ببساطة شديدة وبهدوء وسلام، ودون أن يزعج أحدًا بموته، مثلما لم يزعج أحدًا في حياته، رحل جديّ جميل الجميل.
ابن عمي، اسمه أمير، عمره أربع سنوات، أرى فيه الكثير من ملامح جدي. أناديه أحيانًا "يا جدي". أقبله وأحضنه كما لو كنت أقبل وأحضن جدي. جدي الذي ترك الطائر الحر حرًّا في السماء، والذي ترك طيور الحجل تموت حزنًا على فرافه.
اقرأ/ي أيضًا: