تجتاح العالم حالة من الفوضى في التعريفات والمفاهيم التي يسكها صُناع الرأي والإعلام فضلًا عن القادة والمسؤولين؛ لكن النفاق الذي يواجه به الغرب العالم العربي والإسلامي يُثير الاستغراب وربما الاشمئزاز في حالات معينة.
فُصِّل الإرهاب ليكون إسلاميًا. وليس الغرب وحده المسؤول عن انتشار هذه الدراما ما بعد الحرب الباردة؛ إذ يتشارك الحكام العرب المستبدون الذين لا غاية لهم سوى الحفاظ على مناصبهم في ذلك
فتحت حادثة قتل المصلين المسلمين في نيوزلندا جرحًا قديمًا لم يلتئم منذ أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001، وهو الإرهاب الديني. وبدت الأصوات العربية "الشعبية" التي فتحت مواقع التواصل الاجتماعي مساحة لها تتساءل عن مفهوم الإرهاب وعلاقته بالجاني والمجني عليه. هل تُحدد هوية القاتل نوع الجريمة المرتكبة بحق أبرياء؟
اقرأ/ي أيضًا: "مانفستو الإرهابيّ".. ماذا كتب سفاح نيوزلندا قبل جريمته؟
حسنًا، المهاجِمون مصابون بأمراض نفسية. القاتل لديه عقدة منذ الطفولة. تلك العبارات التي تعودنا سماعها بعد أية حادثة يرتكبها سفاحٌ غربي، لتبدأ التحليلات السيكلوجية بالبحث عن الأسباب التي قادت المُجرم لارتكاب فعلٍ ضد الحضارة والمدنية، وتغوص في مسببات المسببات حتى تجترح حلولًا نفسية واقتصادية واجتماعية تخص المجتمع ككل، المجتمع المحلي الغربي طبعًا.
لا يصح القول عن أي هجمة بأنها "إرهابية" طالما كان الضحية مسلمًا. هناك إجماعٌ إعلاميٌ وسياسي في مشهدٍ عبثي يُشارك فيه مسؤولون عرب، ووسائل إعلام عربية. وسواء أكان الضحية في جامع آمن، أو بلد محتل من جماعة تستخدم الدين لقتل المدنيين الفلسطينيين، فلا تُدرج تلك الأعمال تحت خانة "الأعمال الإرهابية"، فالقاتل إسرائيل وليست فصائل المقاومة. القاتل أشقر، لا يصرخ "الله أكبر". إن القاتلَ لم ينل الخصائص التي تجعله مؤهلًا للظفر بلقب "إرهابي".
فُصِّل الإرهاب ليكون إسلاميًا. وليس الغرب وحده المسؤول عن انتشار هذه الدراما ما بعد الحرب الباردة؛ إذ يتشارك الحكام العرب المستبدون الذين لا غاية لهم سوى الحفاظ على مناصبهم وليذهب الدين وتذهب القومية وحقوق الإنسان وثروات البلاد وكرامة الشعوب إلى الجحيم. فجرائم الأنظمة العربية سواء ضد مواطنيهم أم ضد دول أخرى تُمحى ما زالت تلك الأنظمة صديقة لإسرائيل، أو تدفع الجزية المطلوبة للولايات المتحدة وتشتري المتبقي من الأسلحة المتكدسة في المصانع الغربية، أو تخضع لمطالب ترامب بتخفيض أسعار النفط متى وأنى شاء. أنظمةٌ تقتل مواطنيها وتقمع المعارضين وتزج بهم في السجون وترشي الحكومات الغربية وبعض صحافتها ومنظماتها المدنية ليسكتوا عنها، ليست أقل من شريكٍ أساسي في صناعة الإرهاب.
أنظمةٌ تقصف شعبها المُطالِب بالخبز والحرية والكرامة، وتستعين بدول أخرى لمساعدتها بقمع شعبها المنتفض ضد سياستها الفاشلة ليست أقل من عامل أساسي في مصنع الإرهاب. وقد يَصب توجيه أصابع الاتهام إلى الحكومات العربية ـ إذا ما تم فصله عن الدعم الغربي لتلك الحكومات ـ في جعبة بعض العرب والمسلمين ممن سحبهم فقدان النموذج وسنوات الانحطاط العربي إلى خانة جلد الذات، وتحميل مجتمعاتهم مسؤولية الخراب الحاصل في العالم. وقد ذهب بعضهم من المتأثرين بالرؤية اليمينية الغربية إلى تحميل مسؤولية جريمة المسجدين في نيوزلندا للمسلمين أنفسهم، معتبرين جرائم القتل التي تطال المسلمين مجرد "ردة فعل" على العمليات الإرهابية في أوروبا، وهم يتبنون بذلك منطق الإرهابي برينتون تارانت ومبرراته التي أعلنها في بيان إلكتروني قبل ارتكاب جريمته.
يقود "الحَول الذهني والنفسي" هؤلاء إلى البحث الجذري عن مسببات ارتكاب الجريمة وتفكيكها إلى عناصرها الأولية، وعدم الاكتفاء بالإدانة فحسب، وإنما بسوق التحليلات التي تؤدي أحيانًا إلى تبرير الجريمة عبر تبني خطاب المجرم الفاعل؛ لكنهم لا يبحثون عن الأسباب السيكولوجية والسوسيولوجية والاقتصادية والسياسية التي قادت شريحة قليلة ـ بالمقارنة مع أكثر من مليار إنسان ـ من الشباب المسلم والعربي إلى اللجوء للعنف والإرهاب.
إن الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين والحصار الأمريكي على العراق ثم احتلالها وارتكاب جرائم ضد المدنيين، ودعم الغرب للأنظمة المستبدة التي قطعت سُبل التغيير والنهضة على شعوبها، وإفقار مجتمعات العالم الثالث، والبطالة والتعذيب في السجون؛ كل تلك العوامل تراها بعض العقول الغربية المُصابة بداء التفوق والغرور، وراء الجريمة، كذلك العقول العربية والإسلامية التي قادها الانحطاط إلى الإصابة بأخطر أمراض الشعور بالعار: تعلق الضحية بالجاني. فقط كُتب التراث الإسلامي وفتاوى بعض الشيوخ هي الدافع لارتكاب الإرهاب، ولا داعٍ لوضع حلول للمشاكل التي تعاني منها مجتمعاتنا أعلاه، بل بدعوات تنقية التراث وتبني الخطاب العلماني بطريقة المراهقين.
المتبنون لخطاب "الإرهاب الإسلامي" يقفزون مرة أخرى على جذور المشكلة، ويناقشون قضية المهاجرين المسلمين الذين "يغيرون التركيبة الثقافية للمجتمعات الغربية"، دون البحث في السؤال الأهم: لماذا يُهاجر العرب والمسلمون إلى الغرب؟.
وللباحث سليم النفس والعقل حرية التحري عن جنسيات ضحايا حادثة المسجدين في نيوزلندا، العربية خصوصًا، ليرى كيف تُساهم الدول الإمبراطورية في دفع الشباب لهجرة بلدانهم، من مصر على سبيل المثال حيث استضاف "مؤتمر ميونخ للأمن" رئيس نظامها عبد الفتاح السيسي ليقدم وجهة نظره في كيفية تحقيق الأمن العالمي بعد أيام من تعديله للدستور، بما يتيح له تنصيب نفسه حاكمًا على البلاد مدى الحياة.
تجاوزت الدول الكبيرة موضوعة الانقلاب العسكري، وتجاوزت هذا التعديل، وأظهرته زعيمًا عالميًا يُساهم في تحقيق الأمن في العالم، ليعود إلى بلاده بعد المؤتمر ويَعدم الشباب المصري في قضية مقتل النائب العام أمام مرأى ومسمع الجميع. يجري ذلك في الوقت الذي تؤكد الخطابات الغربية على ضرورة "المُشاركة السياسية" في الشرق الأوسط لتحقيق الأمن في المنطقة.
أو من العراقيين، وما فعلته الولايات المتحدة وحلفاؤها من حصار وتجويع للشعب العراقي ثم احتلال البلاد وفتح حدودها لمخابرات دول الجوار وغير الجوار وكذلك للتنظيمات الإرهابية. أو من السعودية، التي شاهد شعبها كيف يُستقبل ولي عهدهم من قبل زعماء العالم الغربي بعد جريمة قتل الصحفي جمال خاشقجي وتقطيع وإخفاء جثته. وهكذا مرورًا بالصومال وتركيا وباكستان وبنغلادش، ولا توجد بقعة في بلادنا الخربة إلا وآثار التدخل الاستعماري الغربي مطبوعة فيها.
وبالعودة لجريمة نيوزلندا، لم يدع القاتل أي مجال لصنع فرضيات وتحليلات تتعلق بحالته النفسية. كان يسمع موسيقى تتحدث عن الصراع الصربي/البوسني وما لها من دلالات عنصرية. وذكر معركة فيينا عام 1683 التي انتصرت فيها الجيوش الأوروبية المسيحية على الجيش العثماني المسلم. وادّعى تارانت أنه يُمثل ملايين الأوروبيين الذين يسعون لسلام داخل أراضيهم، وممارسة تقاليدهم الخاصة.
ووسط توريط المجرم لأصحاب المبررات الجاهزة، يُحاول بعضهم الهروب نحو البحث في قضية "اليمين المتطرف"، وظني أن ظاهرة صعود اليمين المتطرف في الدول الغربية ليست بالأمر اليسير؛ لكن الإدانة تحت تلك المسميات تصلح للندوات ومراكز الدراسات ومحاضرات الخبراء في مجالات العلوم الإنسانية؛ أما في الإعلام، فلا أجد مبررًا للتركيز على قضية "اليمين المتطرف" سوى أن تلك التمييزات تصب في صالح الصراع الداخلي الأوروبي، ولا مصلحة لنا ولا لقضايانا في هذا الصراع.
اقرأ/ي أيضًا: إعادة الاعتبار للغضب في فهم "الإرهاب"
لقد استعار تارانت معارك تاريخية كما فعل تنظيم الدولة داعش. واستعار حادثة مقتل طفلة في هجوم إرهابي في ستوكهولم عام 2017 على طريقة إصدارات داعش التي تُذكر بجرائم أعدائهم مرارًا. ونادى بالحفاظ على هوية مجتمعه ضد الغزاة كما طالب جنود أبو بكر البغدادي. لقد أرسل رسالة واضحة عبر بيانه الطويل بأن هدفه جعل أي مكان في العالم غير آمنٍ بالنسبة للمسلمين، الموجودين على أراضيـ"هم"، عبر "هديته" كما عبر. وهي رسالة إرهاب لا تحمل التأويل والتأطير في تصنيفات اليمين المتطرف واليسار المعتدل وغيرها من التصنيفات الغربية.
لقد دار تعريف الإرهاب في قاموس عصبة الأمم المتحدة في ثلاثينات القرن العشرين، ولدى الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، حول ضغوط عدوانية تُمارس من قبل شخص أو مجموعة أشخاص على الدول بهدف إجبار الحكومات على تغيير سياساتها. ونحن مطالبون بتوسيع مصطلح الإرهاب ليشملَ الدول التي تغزو أراضينا، والتي تُمارس الضغوط بأنواعها لأهداف اقتصادية وسياسية، وكذلك للخطابات التي تُعنى بـ "الرجل الأبيض" و "العنصر النقي" والتمييزات ضد العرب والمسلمين والمهاجرين عمومًا. نحن مطالبون بإعادة تعريف الإرهاب في إعلامنا وخطاباتنا على جميع الأصعدة لتشمل الكيان الصهيوني وأمثال تارانت قولًا واحدًا، ممن يغذون الكراهية في العالم. نحن مطالبون بشيء من تقدير الذات فحسب.
اقرأ/ي أيضًا: