في السرفيس، في دمشق، طلب أحد المسنين القرويين من سائق السرفيس إنزاله على "جسر الرئيس". بدا، من خلال زوغان عينيّ الرجل المسن، وتململه على الكرسي، واصفرار وجهه المفاجئ، أنه ارتكب خطيئة كارثية، ولتصحيح الأمر، توجه إلى الركاب، وأضاف: السيد الرئيس، المناضل، باني سوريا، الله يحفظو ويحميه وينصرو، الله يخليلنياه، رفع راسنا والله.
المؤرخون المحايدون فقط يستطيعون الكتابة عن حقبة الأسد، وكيف وصل إلى السلطة
اكتشف الرجل خطيئته بأنه قال "جسر الرئيس" دون أية ألقاب تسبق كلمة "الرئيس" كما هو معتاد، على الرغم من أن الناس يقولون، اعتياديًا، "جسر الرئيس" دون ألقاب، لكن الرجل لم يعتد على ذلك! ران صمت رهيب على الركاب جميعًا، أطرقوا جميعهم في الأرض، لا حركة، لا نأمة، بدا أن لا نفسَ يخرج منهم أيضًا، بدا الأمر كما لو أنهم ماتوا جميعًا، حتى سائق السرفيس، صمت ذلك الصمت الذي تظنه أبديًا، مع أن السائقين لا يكفون عن الثرثرة والتشاتم والتعصيب... بين الموقف والآخر كان يتوقف السرفيس دون أية كلمة، ولا حرف، وينزل الراكب بصمت كثيف... عندما وصلنا إلى "جسر الرئيس" قال السائق للرجل القروي: وصلنا يا عم، انزل. وفيما ينزل سأل: هادا جسر السيد الرئيس، المناضل؟ أومأ له السائق أن: نعم، وانطلق مسرعًا. حينها كان الرئيس هو حافظ الأسد.
مدائح الرجل المرعوب، وصمت الناس كأنهم موتى، كان حال سوريا على مدار حكم الأسد. عمليًا، كان السرفيس في تلك الأثناء الدهرية هو سوريا المكثفة، سوريا الرعب الدهرية أيضًا.
المؤرخون المحايدون فقط يستطيعون الكتابة عن حقبة الأسد، وكيف وصل إلى السلطة، وعن خلافاته مع رفيقه صلاح جديد، ثم انقلابه عليه ووضعه في السجن حتى مات (1970 – 1993)، ووضعه الرئيس آنذاك في السجن وهو نور الدين الأتاسي لمدة 20 عامًا، ثم إفراجه عنه وهو في مرض الموت، وقد مات بعد ذلك بفترة قصيرة. ووضعه في السجن كافة رفاقه من "جماعة" صلاح جديد، فيما أبقى على رفاقه في الجيش، ثم بدأ بعملية عزل وقتل من يشك بولائهم له، وتعيين من يدرك حجم إخلاصهم. وغير ذلك مما بات معروفًا بكثرة في تاريخ سوريا.
لكن هذا ليس شأن الناس، ليس ذاكرتهم. الناس يتذكرون تلك الحقبة بعلامتها الأشد حضورًا وهمينة وقسوة وهي الرعب. وإذا كان ثمة فرق بين الخوف والرعب، من حيث أن الخوف صفة ملازمة للطبيعة البشرية، وأن الرعب صفة طارئة نتيجة ظروف خاصة، ومن حيث أن الخوف لا يمنع الإنسان من التفكير والتطور، فيما الرعب يشل قدرته على كل شيء، فإن الناس في سوريا الأسد كانوا مرعوبين إلى الدرجة التي جعلوا فيها للجدران آذانًا! حتى صاروا خرسًا لا يتكلمون، إلا إرغاميًا ورعبًا. فالفاشية، في إحدى صورها القوية، لا تمنع الناس من التكلم، بل ترغمهم عليه، ترغمهم على نوعد واحد منه، وقد مارسه السوريون بحرفية: التكلم بالتمجيد.
ثلاثون عامًا من الرعب السوري تجلى على نحو لا مثيل له في اللحظة الكبرى: موت الرئيس
ثلاثون عامًا من الرعب السوري تجلى على نحو لا مثيل له في اللحظة الكبرى: موت الرئيس. دمشق مدينة خالية إلا من بعض الناس الذين لم يسمعوا، بعد، بهذا الخبر الصاعق. صمت ضاجٌّ في الشوارع والأحياء، صمت يُشعر بالهلع، بل هو الهلع عينه. التعبير الوحيد الذي صار يمكن مشاهدته، بعد ذلك، هو محاولات الناس إظهار حزنهم: ارتداء الأسود، جعل العيون محمرّة من أثر البكاء.. الضحكات الخفية اللاإرادية التي تظهر هنا وهناك كان يعقبها مشهد مرير من البكاء بصوت عالٍ كفعل تطهّري على محاولة ضحك آبقٍ.
النصائح التحذيرية من الأهل لأولادهم من ارتداء ثياب ملونة، من إظهار ما يشير أنهم يمارسون حياتهم بطبيعية، من الضحك أو التبسم، من تشغيل التلفزيون على غير القرآن الكريم، أو الموسيقى الكلاسيكية في أحسن الأحوال، ضرورة إغلاق الشبابيك والأبواب والستائر وخفض الصوت حتى آخره لو أراد أحد من أفراد العائلة التكلم بشيء يؤدي إلى الفناء... الحل المثالي الذي ابتكره بعضهم: وضع بطانية سميكة على جهاز التلفزيون ووضع لحافات على رؤوس أفراد الأسرة ليشاهدوا ما ليس قرآنًا أو تعبيرًا عن الحزن العميق لئلا يخرج الصوت إلى الحيطان التي "لها آذان".
دخلت على جارنا صاحب المحل -وكان قد سُمح بفتح المحلات على أن توضع صورة كبيرة للقائد الخالد، ويُسمع صوت القرآن- وكان مع صديقه يضحكان بصوت خفيض، ثم قال، ليخفي ويستدرك فعل الضحك، الفعل الهمجي، الخلاعي، اللامبالي: والله عم نضحك من القهر، قلبنا محروق، يلعن أبو الشيطان، الله بيعين.
لا ذاكرة لنا، نحن السوريون، مع الأسد سوى هذا: الرعب.
اقرأ/ي أيضًا: