مؤخّراً أثارت دعوة الشيخ صالح المغامسي لمذهب إسلامي جديد ضجّة في الأوساط العربية. فاللغة التي استخدمها، لغة تخطئة الفقه السائد والدعوة لاستبداله، كانت من خطاب الإصلاحيين، لا التقليدانيين الذي كان يُنسَب لهم المغامسي. ثمّ إنّها دعوة لم تسلمَ من التسييس، إذ فُهِمت في سياق العلمنة السعودية الجارية التي تتطلّب محتوىً دينياً مختلفاً. لكن الواقِع أنّه لا الدعوة ولا الضجّة عليها بجديدة. ففي 2019 تملّص الداعية عائض القرني من "الصحوة" واعتذر عنها، رافضاً وصايتها على المجتمع ونتائجها الأخلاقية وصلاحيتها الاجتماعية. ولعلّ الجديد في دعوة المغامسي هو انطلاقها من النقد إلى العمل، وابتغاء محتوىً فقهي قادر على النهوض عِلمياً ودينياً.
المذاهِب الجديدة هي أمرٌ حاصِل فعلياً منذ عقود في المجال، وإن كان الربيع العربي قد سرّعها ومدّها. فاليوم تتصارع على أفئدة الجمهور حراكات "مذهبية" لكلّ منها نسخة خاصّة من الإسلام
بَيْد أنّ المفاجأة هي أنّ المذاهِب الجديدة أمرٌ حاصِل فعلياً منذ عقود في المجال، وإن كان الربيع العربي قد سرّعها ومدّها. فاليوم تتصارع على أفئدة الجمهور حراكات "مذهبية" لكلّ منها نسخة خاصّة من الإسلام: الإسلام المقاصدي والقرآني والليبرالي والأخباري أو التقليداني. صحيحٌ أنّ هذه المذاهِب ليست فقهية أو فقهية حصراً، وإن كانت خلافاتُها الفقهية بيّنة. ولكنّها تلعب في الوعي الإسلامي المعاصِر نفس دور المذاهب القديمة بما هي مناهج لاستدرار الأدلة والأحكام. والسبب في كونها ليست بفقهية يتعلّق بأن الحداثة ألغت الفروع التي يستند عليها الفقه. فالعلمنة ألغت الحاجة للتفاصيل الشعائرية الدقيقة في حياة المسلم الاعتيادي؛ ومنطق الدولة ورقمنة الفقه خلقت نوعاً من الاختيارية اللامذهبية في أوساط المستفتين. فالمستفتي تحوّل إلى مستهلِك في سوقٍ حُر. ثمّ إنّ اضمحلال المذاهب كان عملية تاريخية تواكَبت مع تحديث المجتمعات الإسلامية. فإلى القرن التاسع عشر كانت المذاهب حراكات اجتماعية مجغرفة ومتمايزة في الثقافة والممارسة، ولم تكن مجرد آثار قانونية. بل كانت طرائق حياة. ومع الإصلاح الدّيني وظهور الوطنية الحديثة أُجهِز على المذهبية بتقريب ودمج المذاهب بالمختصرات الحديثة كفقه السنة للسيد سابِق وخُصّصت لذلك منذ الملكية المصرية مؤسّسة "دار التقريب" التي عمل بها محمد شلتوت وعبد المجيد سليم، رئيس الأزهر وغيرهم.
يعود المذهب المقاصدي، الذي يتيح طرائق جديدة في تقييد العام وتخصيص المطلق وتخصيص العلة والاستحسان، إلى اكتشاف الإمام الشاطبي الذي كان مغموراً قبل العصر الحديث ومنزوياً في الأحواز الصحراوية والمغاربية والسودانية، كما في أعمال أحمد بن بابا التنبكتي وسيد المختار الكنتي. ووصلت هذه النسخ المغريية والشنقيطية إلى الأحواز المشرقية منذ مطلع القرن العشرين. ومع التسعينيات أعيد تخصيب المقاصد مع الأصول المشرقية كما في أعمال الجويني والغزالي والقرافي والطوفي وغيرهم، وهي أعمال حُقّقت غالباً في التسعينيات. فتوسّعت هذه النظرية من الفقه إلى أن استُدخِلت سياسياً من قبل أحمد الريسوني وسعد الدّين العثماني، وكانت إطاراً سمح بالتصالح مع العلمانية واستحداث مبادئ جديدة للتشريع كصون الحريات والديمقراطية وخوّل التحلّل من بعض الأثر باعتباره عرفياً لا مقاصدياً، وبالتالي فتاريخي. ورغم أنّ أكثر الأعمال المقاصدية جديّة عند فريد الأنصاري وعبد الله بن بيّة ظلّت تُنتَج من خارج المثقّفين العضويين للإسلام السياسي إلاّ أنّ المذهب ينتشر بهذه الحركة وبالأخصّ في شقّها المغاربي.
أمّا المذهب القرآني فقد ظهَر في البداية بالهند في أعمال أحمد سيّد خان وغلام أحمد برويز. ولكنّه تجدّد في سياق الطبقة الوسطى المصرية. في البداية كان مقولة حذرة لفقهاء العصر الجمهوري أمثال محمّد شلتوت، ولكنّه سرعان ما تدفّق إلى مضطهدين في هذه المؤسّسة، كأحمد صبحي منصور. فاكتِشف أنّ جزءاً مما منع تحقّق إسلام حضاري كان "فيتو" الأخباريين؛ واكتُشِف أنّ إسلام القرآن أصلَح للعصر من إسلام الحديث، بل ويتناقَض معه. وثير بالأخصّ على مقولة أنّ "السنة تحكم على القرآن، [لا العكس]"؛ وتواكب هذا مع نقد أبي هريرة أولاً؛ ثمّ انصبّ المجهود على البخاري كما هو الآن في مداخلات أحمد عبده ماهر ورشيد أيلال ومن ينتحل مذهبهم. وانصبّ جزءٌ من اهتمام المذهب على إثبات وعدم درء التعارُض بين القرآن والأحاديث. وفي مرحلة معيّنة من تطوّر هذا المذهب مع محمّد شحرور انكبّ على منهج جديد في قراءة القرآن يحرّره من التراكمات القديمة التي تُشوّش عليه. وظهرت في هذا المذهب حركة تروم تفسير القرآن بالقرآن بعيداً عن التفسيرات التاريخية. ومع الربيع العربي تحوّل القرآنيون إلى حركة ثقافيّة قويّة، إذ نجحوا في خلق سرديّة تحرير القرآن واتخذوا استراتيجية صِفّين برفع المصاحف في وجه الحرب الأهلية.
أمّا الإسلام الليبرالي فهو كذلك مذهب متجدّد. إنّ أصوله تعود إلى فجر الحداثة الإسلامية إبّان التقائها مع الاستعمار الغربي، فأرهصت مع سيّد أحمد خان حتّى محمد إقبال في الهند وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده في مصر وإيران. ومع العهد الليبرالي في مصر تطوّر هذا الضرب من التفكير عند مثقّفي النهضة وخلق حرباً فكرية في أوساط الأزهر. وسرعان ما انتشَر المذهب على يد طلبة عبده أمثال قاسم أمين وسعد زغلول وهدى شعراوي وأمين الخولي. وسيبلغ هذا الإسلام مداه في المستوى السياسي في أعمال علي عبد الرازق وفي المستوى الفقهي في أعمال مصطفى عبد الرازق وأحمد شلتوت والقانوني علي يد عبد الرزّاق السنهوري. ومع النكسة ذبل الإسلام الليبرالي واستبدلَه الإسلام الصحوي في السبعينيات والثمانينيات. فانبثق المذهب الليبرالي المحدَث من إسلام تركيا وإيران وغالباً من إسلام الغرب، وبالأخصّ مع طارق رمضان وعبد الكريم سرّوش وأمينة ودود وليلى أحمد وأسماء برلاس وسواهم.
أمّا المذهب التقليداني فيختلف عن هذه المذاهب في أنّه في حالة دفاع، لا هجوم. وهو لا يجد مشكلة في الموروث ولا يدعو لتغيير الفقه بالمتطلّبات الحديثة. وهو حركة واسعة تضمّ ما تبقّى من المذاهب والأسانيد التقليدية ويتعدّد طيفها من السلفيين أمثال الشيخ الحوّيني وياسر برهامي إلى الاعتذاريين أمثال عبد الله رشدي إلى التقليدانيين في المدارس الإسلامية الاعتيادية. فهو مذهب العامة. وكان هذا المذهب يضمّ في صفوفه كبار العلماء والهيئات الدّينية، ولكنّه تعرّض لاختراق سياسي انصرف فيه كثير من رجالات هذه الهيئات ومؤسّسات الدولة إلى البحث عن بدائل فقهية كما في حالة القرني والمغامسي.
ليست هذه كلّ المذاهب المعاصرة. بل توجد مذاهب أخرى نخبوية أو منسية. فاليسار الإسلامي كان اتجاهاً قوياً في السبعينيات والثمانينيات ولكنه اضمحل بفعل هيمنة وعلاقات السوق وأفول المدّ الثوري. أما المذهب الأخلاقي الذي يدعو له خالد أبو الفضل وطه عبد الرحمن وحمزة يوسف فما زال نخبوياً وأكاديمياً وصوفياً..
إذاً، بعكس ما يُقال عن الجمود فإنّ الساحة الإسلامية المعاصرة عامرة بالتجديد. ويعود هذا الثراء المذهبي إلى سبيين: الأوّل فشل الإسلام الصحوي الذي كان إطاراً ناظِماً لكثيرٍ من التفكير الإسلامي حتّى وقتٍ وجيز. ومع تمرّد الطبقة الوسطى على هذا المذهب وفشله السياسي-الثقافي بشكل جلي في سياق الربيع العربي فإنّ وتيرة البحث عن بدائله بدأت في كلّ الاتجاهات من المحافِظة (التقليدانية) إلى إعادة الترتيب (المقاصدية) إلى الكومبرادور (الليبرالية). أمّا الثاني فهو الحاجة إلى لاهوت إسلامي جديد يعبّر عن الرغبات الأيديولوجية لمسلمي القرن الواحد والعشرين والإحساس بفشل الموروث الفقهي في ذلك. وجزء من هذا يعود إلى الحاجة إلى ردّ الحرج الذي يشعر به المسلم الحداثي من بعض تناقضه مع العصر.
ما زالت هذه "المذاهب" في بداية تشكّلها وما زالت الفروق بينها في الأصول غالباً. إلا أنّها ليست مختلِفة في هذا عن تشكّل المذاهب الإسلامية الأولى. فمدرسة أبي حنيفة فقامت على الرأي والتجريد عصفاُ بالأخبار والتقاليد، التي لن تتصالح معها إلاّ على يد أتباع أبي حنيفة كأبو يوسف وابن أبي ليلى والشيباني. والمالكية كانت المدرسة الثقافية التي تستخلِص القواعد الفقهية من ممارسة أهل المدينة. أمّا الشافعية فكانت مشروع ضبط القرآن بالسنة واختزال السنّة في سنة الرسول ورفض مفهوم السنن الذي كان سائداً قبل ذلك، وصدّ الباب على مذهبية في الرأي من نوع مذهب أبي حنيفة. أمّا الحنبلية فكانت حركة المحدّثين التي رفضت المبادئ الأصولية واستبدلتها بالدراسة النقدية للأحاديث. غير أنّ هذه الاختلافات الأصولية والدستورية سرعان ما تحوّلت بسرعة إلى خلافات فروعية. وبهذا المعنى فقد تتوجّه المذاهب الإسلامية المعاصرة إلى أن تتبلور في الخلافات فروعية جديدة وتخلق طرائق حياة مرتبطة بكلٍّ منها.
تشذّ المذاهب الإسلامية الحديثة عن القديمة؛ ولكنها تتبع منطقها بطرق شتّى. فالمقاصدية تخاصب التقليد الأندلسي المالكي، القائم على المصلحة المرسلة، مع مبادئ الأصول. والقرآنيون يبنون على نقاشات القرآن والسنة القديمة؛ فأوائل المعتزلة وأهل الرأي كانوا قرآنيين، قليلي الأخبار، يرفضون ما يُسّمونّه بالحشوية، التي هي مذهب المحدّثين. أمّا الليبرالية فتستمدّ من قراءات الجنوسة والأقليات وفقههم الاجتهادي عبر الإسلام واكتشاف القراءات الحداثية في تراث الإسلام؛ وينصبّ اهتمامها أساساً على درء التعارض بين العقل الليبرالي والنقل الديني. وينضاف إلى هذا أنّ هذه المذاهب مجغرفة بنفس الطريقة التي تشكّلت بها المذاهب القديمة. فالمقاصدية حية في المنطقة المغاربية، ويكاد ينعدم حضورها في مصر حيث تزدهر القرآنية وحيث يعتمد التقليد المصري بالذات على المدرسة الأزهرية بفقهها الحنفي-الشافعي الذي عاش طويلا في كنف الدولة والتفكير من زاويتها؛ والليبرالية تعيش في أعالي الطبقة الوسطى المتأورِبة؛ أمّا التقليدانية فمذهب الجمهور.
المذهب المغامسي، المذهب الخامس، هو الآخر قد بدأ بالفعل في التحقّق، إمّا على يد سميّه، كما يرجو هو، أو في إطار التحوّلات الفكرية الأعمّ في الجزيرة
يأتي المذهب المغامسي في هذا السياق. ويبدو من إرهاصاته أنّه يتبِع المذاهب الإسلامية المعاصِرة في نقمته على الصحوية ونسبة البطلان إليها؛ وأنّه يقترِح طريقة جيدة للتعامل مع المتن السنّي وأنّه ينضمّ للنقد القرآني والمقاصدي في الدعوة لعرض الأحاديث على العقل، بدل التعامل معها بالسند، وهي مقاربة تثير قدماً الإشكال. ولا يختلِف هذا المذهب المعتزَم كثيراً عن بعض التوجّهات الإصلاحوية الدينية في الآونة الأخيرة، من قبيل مشروعٍ لتنقيح الأحاديث في السعودية. وبهذا المعنى فإنّ المذهب المغامسي، المذهب الخامس، هو الآخر قد بدأ بالفعل في التحقّق، إمّا على يد سميّه، كما يرجو هو، أو في إطار التحوّلات الفكرية الأعمّ في الجزيرة. ورغم الضجّة التي أثارها مخاض هذا المذهب إلاّ أنّه قد لا يبدو بدعاً من الاهتمامات الإصلاحية المعاصرة، وإن كانت قوته في الحلم بتقليد مذهبي حديث في أرض الجزيرة، التي، بتاريخها الحنبلي والحنبلي المحدَث، ظلّت عصيّة على هذه المذاهب المعاصرة.