منتقدو الرئيس الأمريكي بخصوص سياسته الخارجية وتعامله مع الأزمة الأوكرانية، يرون أنه لم يتخذ مواقف وإجراءات قوية لردع الرئيس الروسي عن اجتياح أوكرانيا. لكنهم جميعًا لا يفصحون عن طبيعة هذه الإجراءات التي يريدون منه أن يتبناها أو يبادر إليها.
آخرون يرون أن الانسحاب الأمريكي المتدرج من رعاية شؤون العالم والهيمنة عليه، يفسح في المجال لمغامرات من قبيل المغامرة الروسية في أوكرانيا، كما أفسحت المجال من قبل لمغامراتها في سوريا، وقبلها في جورجيا والشيشان.
لا تبدو الأزمة الأوكرانية، أوكرانية فعلًا. إنها من دون شك أزمة تطال أوروبا برمتها، أو لنقل إنها تطال معظم شرق أوروبا وجزءًا من آسيا
والحق إن هذه الاعتراضات تفترض أن الحرب الباردة السابقة قد انتهت إلى منتصر ومهزوم فعلًا. لكن وقائعها لم تكن كذلك. يمكن القول، بأثر رجعي اليوم، إن روسيا أواخر القرن الماضي تشبه الولايات المتحدة اليوم. يومها كانت الإمبراطورية السوفييتية منهكة من توسع حدودها المنهك اقتصاديًا وعسكريًا. وقررت يومذاك ترك هذه المساحات الشاسعة من الدول والأراضي لتتدبر أمروها بنفسها على النحو الذي ترتأيه. واليوم ترى الولايات المتحدة في كل تدخل خارج حدودها، باسم الدفاع عن الديمقراطية أو حقوق الإنسان، مكلفًا لها ولا يعود عليها بأي مكسب.
اقرأ/ي أيضًا: أوكرانيا المتروكة وحيدةً
في هذه اللحظة التي تميل فيها واشنطن إلى الانسحاب من التزاماتها الدولية في رعاية شؤون حلفائها اقتصاديًا وأمنيًا، تبدو موسكو كما لو أنها تقتحم مجددًا ما كانت قد انسحبت منه طوعًا. لتعود للهيمنة على جيرانها ورعايتهم أمنيًا واقتصاديًا. لهذا لا تبدو الأزمة الأوكرانية، أوكرانية فعلًا. إنها من دون شك أزمة تطال أوروبا برمتها، أو لنقل إنها تطال معظم شرق أوروبا وجزءًا من آسيا. الأوكرانيون اليوم ضحايا بامتياز، لأن هوية الرابح في هذه الأزمة لا تغير في حجم معاناتهم. بل يغامر المرء بالقول، إنه من الأنسب للأوكرانيين أن يستسلموا أمام الاجتياح الروسي ويخضعوا لنزوات بوتين كائنة ما كنت تلك النزوات. ذلك أن المعروض عليهم غربيًا، في أحسن الأحوال، لا يتعدى تكليفهم مشقة هزيمة روسيا في مقابل حصولهم على مساعدات عسكرية وأسلحة فتاكة، وبعض المساعدات الإنسانية. وفي النتيجة ستعود بلادهم أدراجها عقودًا إلى الوراء، فضلًا عن الكلفة الباهظة التي سيتكبدها الشعب الأوكراني في الأرواح والممتلكات. أفغانستان أوروبية. هذا بالضبط ما ينتظره الغرب من أوكرانيا وهذا ما يبدو أن ساستها يسعون إلى تحقيقه أو تبين إمكانه.
في الوقائع، ليس صحيحًا أن الجرأة الروسية على التدخل في أوكرانيا تعاظمت بسبب التراجع الأمريكي وسياسات واشنطن الضعيفة. سبق لروسيا أن تدخلت حيث رأت أن مصلحتها توجب التدخل، ولم يردعها الغرب، وسبق للولايات المتحدة أيضًا ان تدخلت حيث ارتأت ولم يردعها الشرق. وهذا الأمر أيضًا سبق لفرنسا أن مارسته في أفريقيا أيضًا تدخلًا وانسحابًا. لكن الصحيح أن النزاع الأوروبي الروسي المندلع باردًا منذ انهيار جدار برلين، وصل إلى طرق مسدودة على الوسائل الدبلوماسية، وكان لا بد لهذا الانفجار أن يحصل عاجلًا أو آجلًا. على هذا تبدو أوكرانيا المعاصرة بديلًا للسلطنة العثمانية الغابرة ولإمبراطوريات أوروبا الغابرة أيضًا. اجتياح أوكرانيا بهذا المعنى هو البديل الممكن وغير المكلف لنشوب حرب روسية ألمانية أو روسية تركية، أو نشوب الاثنتين معًا. وهو غير مكلف لأن ضحاياه لا يملكون قيمة كبرى تجعل التضحية بهم صعبا على الدول الكبرى. وتأسيسًا على هذه التضحية، يمكن التقرير براحة ضمير، أن الضحية الأوكرانية في هذه المعمعة أرفع مقامًا من الضحية الجورجية التي سبقتها إلى المذبح، التي كانت بدورها أرفع مقاما من الضحية الشيشانية أو العراقية أو السورية. لكنها ورغم ارتفاع مقامها على مقام الضحايا الأخرى، إلا أنها ما زالت قابلة للتضحية بها من دون تبكيت ضمير سياسي ودبلوماسي.
على الأرجح أن الضحية، أو من سينجو من تلك المعمعة، لن يجد حضنًا مستعدًا لاستقباله في القلعة التي كان يدافع عن ساكنيها وحدودها
هذه الحرب تثبت مرة أخرى هشاشة الحديث عن استقلال الدول الصغيرة والمتوسطة. واتضاح دورها بوصفها مجرد كلاب حراسة تذود عن قصور الأسياد التي تقع خارج حدودها. والأرجح أن هذه الضحية، أو من سينجو من تلك المعمعة لن يجد حضنًا مستعدًا لاستقباله في القلعة التي كان يدافع عن ساكنيها وحدودها.
اقرأ/ي أيضًا: عن يسار عربي يحيا في زمن الحرب الباردة
هذا التوصيف لا يعطي صك براءة لسياسات موسكو اليائسة والعنيفة، لكنه يوضح من وجه آخر حقيقة أن الروس أنفسهم يندرجون في قائمة الضحايا وليسوا من الناجين. وأن التضحية بهم مرغوبة ومطلوبة بشدة. كما لو أن السيد فلاديمير بوتين قرر في لحظة يأس استعد لها زهاء عشر سنوات، أن يسوق شعبه إلى المذبح طائعًا مختارًا. مغامرًا في أن يصفه التاريخ الذي بوشر بتدوينه منذ وقت ليس بقصير، كهتلر جديد، أو في أحسن الأحوال كإمبراطور من القرون الوسطى يعيش في زمن غير زمنه.
لا يملك القيصر الروسي، وهو اللقب الذي يستسيغه بوتين، ما كانت تملكه ألمانيا النازية من مقومات. ولو حدث ودانت له دول كثيرة في الجوار، فإن إمبراطوريته لا تملك مقومات هيمنة على المستويات كافة، من الاقتصاد إلى الثقافة إلى النظام السياسي، وصولًا إلى التقدم العلمي. على هذا لن تلبث هذه الدول التي قد تخضع لسطوته المباشرة أن تخرج من الخرائط كلها. وأن تتحول على نحو ما إلى مجاهل لا تطأها أقدام المستعمرين. لهذا تحاذر أوكرانيا أن تسلس له قيادها ولو على حساب أرواح شعبها، لأن خضوعها يخرجها من العالم كليًا، فيما قد تنجح دماء أبنائها، المسفوكة بغزارة، في أن تحفظ لما تبقى منها مكانًا متواضعًا تحت شمس هذا العالم.
اقرأ/ي أيضًا: