تهجيرٌ من البيوت المتوارثة أبًا عن جد، تطهيرٌ عرقي تحت سطوة النار والحديد، فصلٌ عنصري بجدران وأوراق إدراية، مصادرة لأبسط الحقوق المدنية؛ سياسية كانت، اجتماعية، اقتصاديَّة أم ثقافيَّة. تغيير قسري للطابع الديموغرافي والثقافي. ليس هذا إلا الواقع اليوميُّ في فلسطين، حيث أصحابُ الأرض ساكنون من درجة ثانية، أو أقل، يجوَّعون ويحاصرون، وإن ثاروا يقصفون أو ينكَّل بهم في الشَّوارع.
لنقاش جرائم إسرائيل من منظور القانون الدولي، يحاور "الترا صوت" ديزيري دي ماركو، الباحثة في الدراسات الشرق أوسطية والمتخصِّصة في القانون الدولي
كلُّها جرائم حسب ما يقرُّه القانون الدولي، عدا أن الاحتلال الذي ينصب نفسه أعلى من هذا القانون، يفلت دائمًا من الإدانة. واقع مركب، نستضيف من أجل نقاشه، ديزيري دي ماركو، الباحثة في الدراسات الشرق أوسطية والمتخصِّصة في القانون الدولي.
- سيدة دي ماركو، طرد الناس من أراضي عاشوا فيها لعشرات السنين، تغيير الطابع الديموغرافي لمدن بأسرها، ممارسة التطهير العرقي والميز العنصري في حق ساكنة بعينها، أليست كلُّ هذه جرائم يعاقب عليها بموجب القانون الدَّولي؟
هذا ما أخذت إسرائيل في اقترافه منذ 1967، وهي كلُّها خروقات وجرائم يعاقب عليها القانون الدَّولي. كما أن كل القرارات أحادية الجانب التي اتخذتها الحكومة الإسرائيلية منذ ذلك التاريخ تقع قانونيًا تحت بند الاحتلال، وفي الباب المقنن للنزاعات الدولية المسلَّحة الذي لا تعترف به إسرائيل. وحسب ما تدعيه أن آلتها الاستعمارية تلك – بما يرتبط بها من مسؤولية في تمكين الفلسطينيين من كامل حقوق الإنسان الأساسية – توقَّفت منذ سنة 2005، وهي بذلك تزيِّف الحقيقة من شتى الجوانب: تاريخيًا، سياسيًا، قانونيًا وحقوقيًا.
وإلى حدود 1980، حينما أعلن مجلس الأمن الدولي عن قراره 456 الذي يدين إسرائيل، وعلى وجه أخص سعيها لتغيير الميزان الديموغرافي للبلاد، لم يردع القرار المذكور دولة الاحتلال عن مواصلتها القيام بذلك. بينما أول قانون ينظِّم مفهوم الاحتلال في القانون الدولي يعود لسنة 1899، داخل ملقح معاهدة لاهاي الثانية. كما ألحق تعديل عليه، سنة 1907، لهعاهدة لاهاي الرابعة الخاصة باحترام قوانين وأعراف الحرب البرية. وبالتالي الرجوع إلى اتفاقيات لاهاي اليوم مهم للغاية من أجل تبيان فداحة ما تقترفه إسرائيل في حق الفلسطينيين.
فحسب المادة 42 من المعاهدة المذكورة لسنة 1907 : " تعتبر أرض الدولة محتلة حين تكون تحت السلطة الفعلية لجيش العدو ولا يشمل الاحتلال سوى الأراضي التي يمكن أن تمارس فيها هذه السلطة بعد قيامها". تباعًا لذلك، يجب، بقوة القانون، على إسرائيل أن تحترم القوانين والمعايير المنظِّمة لوضعيَّة دولة احتلال، وما تلزمها به هذه الاتفاقية وفقًا لهذه الحالة. وفي قلب هذا القانون يقع مبدأ حماية الأرض المُحتلَّة، ويحرم على دولة الاحتلال ضمها للأراضي إلى حين نهاية النزاع المسلَّح، كما وبشكل أوسع، يمنع عليها إحداث أي تغيير على الوضع القانوني، الاجتماعي، الثقافي والاقتصادي لتلك الأرض. وهذا دليل دامغ بأن تهجير الناس من بيوتهم، الاستفراد بتغيير الوضع الديموغرافي والثقافي لمدن بأسرها وعلى رأسها القدس، وعمليات التطهير العرقي للعرب الفلسطينيين، هي خروقات فادحة للقانون الدولي. وما تقوم به إسرائيل اليوم هو إمعان في خرق هذا القانون، وتنكيل بالضحايا الفلسطينيين العزَّل من أي وسيلة للدفاع عن أنفسهم.
- بالنسبة للأحداث التي عرفتها فلسطين قبل وخلال هبة أيار ، ماذا سجَّلتم من خروقات خلالها؟
حسب البند 43 من اتفاقية لاهاي، فإسرائيل ملزمة باحترام القوانين المنظمة لاستعمال القوَّة بالأراضي المحتلَّة. ليس فقط حسب ما جاء في اتفاقية لاهاي، بل كذلك طبقًا لبنود اتفاقية جنيف 1949 والإعلان الأممي لحقوق الإنسان. على المستوى القانوني، فإسرائيل ملزمة بمسؤوليات تجاه الشعب الفلسطيني، وبأن تحترم البندين؛ البند الإنساني والبند المتعلق بالأراضي المحتلَّة من القانون الدولي. لكنها بالمقابل تتجاهل هذا القانون من أساسه.
وبالفعل، لقد خرقت إسرائيل مبدأ عدم استعمال العنف المشار إليه في المادة الثانية من ميثاق الأمم المتَّحدة، والمؤكد عليه في القرار 2625/24 لمجلس الأمن الدولي سنة 1970، القائل ببطلان أي ضمٍ لأراضٍ باستعمال القوة. كما يعد قرار تهجير العائلات الفلسطينية القاطنة بحي الشيخ جراح خرق سافر لمقتضيات كل من المادة 43، 46 و52 من اتفاقية لاهاي، الذي ينص على عدم المسِّ بقوانين الملكية القائمة. إضافة إلى خرق المواد 47، 49، 52، 53 و59 من معاهدة جنيف، والتي تجرِّم التهجير القسري وتنص على ضمان حق العمل والملكية والغذاء.
منذ 22 تشرين الثاني/ نوفمبر 1967، ورغم السعي الأمريكي لعرقلة أي إجراء أممي ضد إسرائيل الذي يبقى محط تساؤلات كثيرة، أعلنت الأمم المتحدة عدم شرعيَّة ما تقوم به الدولة العبرية في الأراضي المحتلة. كما سجَّلت المحكمة الدولية خروقات عديدة لحقوق الإنسان ارتكبتها إسرائيل في غزة ومدينة القدس، خاصة الحق في حريَّة التنقل الذي تعرقله نقاط التفتيش التابعة لجيش الاحتلال ومتاريسه، محوّْلة الأراضي الفلسطينيَّة إلى سجن مفتوح. كما أن السياسة الاستيطانية التي تنهجها الحكومة الإسرائيلية خرق سافر للمادة 49 من اتفاقية جنيف التي تؤكد على "حظر النقل الجبري الجماعي أو الفردي للأشخاص المحميين أو نفيهم من الأراضي المحتلة إلى أراضي دولة الاحتلال أو إلى أراضي أي دولة أخرى، محتلة أو غير محتلة، أياً كانت دواعيه (...) ولا يجوز لدولة الاحتلال أن تحجز الأشخاص المحميين في منطقة معرضة بشكل خاص لأخطار الحرب، إلا إذا اقتضى ذلك أمن السكان أو لأسباب عسكرية قهرية.
لا يجوز لدولة الاحتلال أن ترحل أو تنقل جزءًا من سكانها المدنيين إلى الأراضي التي تحتلها". ومع كل هذا، وعلى أرض الواقع، لا يتمتَّع الفلسطينيون بأي حماية توفرها لهم هده النصوص القانونية، فيما إسرائيل تبقى دون رادع مستمرة في انتهاكها اليومي لحقهم في أن يكون لهم حقوق.
- أي مسؤولية تحملها إسرائيل من منظور القانون الدولي؟ وأي أدوات قانونية من أجل محاسبتها؟
من منظور القانون الدولي، فإسرائيل ملزمة باحترام كافة المواثيق واللاتفاقات الدولية التي تصون حقوق الإنسان، مثلها مثل أي دولة أخرى في العالم. وليس باستطاعتها التملص منها، وإن كانت غير موقِّعة على اتفاق لاهاي 1907، فالمحكمة الدولية أقرت مؤخرًا بشكل واضح: أن القانون الدولي يلزم كلَّ الدول دون استثناء، حتى تلك التي لم توقِّع على اتفاقيته.
فالمعاهدة الدولية للحقوق المدنية والسياسية، في بندها 17، تلزم إسرائيل بضمان حق تكوين عائلة وضمان حق تملُّك الأرض، وفي بندها 12، تلزمها بضمان حق التنقل والاختيار الطوعي لمحل السكن. بالتالي فإسرائيل دولة تخرق كل هذه القوانين عندما بنت جدار الفصل، وعندما تواصل احتلالها للأراضي الفلسطينية وتهجيرها للشعب الفلسطيني، وليس عليها الكف فقط عن تلك الجرائم بل تعويض المتضررين من جرائمها تلك. هذا ويجب أن نؤكد على أن المحكمة الدولية تدينها كذلك بخرق حق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم.
بطبيعة الحال، من يمتلك الآن الأدوات للدفاع عن نفسه هي إسرائيل، وليس الفلسطينيين الذين تنكر لهم المجتمع الدولي. إسرائيل التي تركن دائمًا للتلويح بمبدأ الدفاع الشرعي عن النفس، مع أنه مبدأ لم ترسِّمه أي من المواثيق الدولية. بالمقابل، في فتوى المحكمة الدولية بخصوص بناء الجدار، أقرت بأن حق الدفاع عن النفس لا يتم على أراضي هي في الأصل تحت سيطرة الجهة التي تدعي ذلك الحق. إذن فترديد خطاب الدفاع عن النفس لا يملك أي سند قانوني ولا قيمة له أمام القانون، بل ونفت المحكمة الدولية أن هناك علاقة لما تقوم به إسرائيل بالحق المذكور.
من الناحيَة القانونيَّة، دفوعات إسرائيل ترتكز على ادعاءين اثنين: الأول هو أن الأراضي الفلسطينية لم تخضع لسلطة أي دولة موقعة عل اتفاقيَّة جنيف. وهذا تحايل كبير، لأن احتلال قطاع غزَّة والضفة الغربيَّة لم يتم إلا في سنة 1967، ووقتها كانت هنالك دول ضمن النزاع موقِّعة على الاتفاقيَّة المذكورة. أما الادعاء الثاني، هو أنه مع الانسحاب التام لقوَّاتها من قطاع غزَّة أخلت مسؤوليتها تجاه الفلسطينين. وأيضًا في هذه النقطة تخطئ الحكومة الإسرائليَّة، إذ إن تعريف الاحتلال في المادة 42 من اتفاقيَّة لاهاي لا يشترط تواجد القوات على الأرض، بل ما يعالجه هو التحكم الفعلي بها. فيما الواقع، أن إسرائيل، وحتى بعد 2005، لا زالت تتحكم بالمجال البحري والجوي للقطاع.
لكن كلَّما تعلَّق الأمر بفلسطين تزداد المسألة تعقيدًا. فلقد تركت البلاد وحيدة تواجه آلة التطهير العرقي، فيما يلتزم المنتظم الدولي الصمت حيال كل ما يقع. وفي النهاية التغيير منوط بالآجال الشابة من الجانبين؛ نحن نرى كيف يشتغل الشباب الفلسطيني بجد لرأب تصدعات نسيج اجتماعي شرذمه الاحتلال، كما في إسرائيل كذلك هنا قطاع من الشباب الصاعد بدأ يعي خطر الجرائم التي ترتكبها حكومته.
- قد يبدو هذا السؤال ساذجًا، لكن لماذا تنجح إسرائيل إلى حد الآن في الإفلات من المحاسبة؟
على العكس، يقع سؤالك في قلب المعضلة الحاصلة. والحقيقة أنه لا إرادة لدى المنتظم الدولي لتحميل إسرائيل مغبَّة خرقها المواثيق الدَّوليَّة، وهذا للأسف ما يجعلها تمعن في ما تقوم به. في رأيي، عدم إنزال العقاب على إسرائيل لحد الآن رهين بسببين: الأول، هو عرقلة الولايات المتحدة الدائمة لأي قرار أممي ضدَّ إسرائيل، وبالتوازي مع ذلك تربط النخبة الأمريكية والإسرائليَّة علاقة متينة، يمتدُّ تأثيرها إلى مجالات عديدة كالتكنولوجيا، الثقافة، الديبلوماسية والجيوسياسة. ثاني الأسباب، هو، في نظري، سوق السلاح الدولية الذي تتقاطع داخله هذه المصالح كلُّها، بالنسبة لكافة أطراف المنتظم الدولي..
إذًا لأسباب ذات طبيعة سياسية واقتصادية تتمتع إسرائيل بحصانة داخل المنتظم الدولي. هذا المنتظم، أو الجزء الأكبر منه، الذي يغض الطرف عن مشروع التطهير العرقي والفصل العنصري الذي تنفذه الدولة الصهيونية، هو بدوره متواطئ في هذه الكارثة الإنسانية ويتحمل مسؤوليتها.
فيما سيستمر إفلات إسرائيل من العقاب، طالما لم يمتلك المجتمع الدولي الشجاعة الكافية لتسمية الأشياء بمسميَاتها الحقيقية: إسرائيل دولة أبرتهايد! كما على كل من الولايات المتَّحدة والاتحاد الأوروبي أن يمتلكا الشجاعة للإعلان أمام العالم بأن التواطؤ مع جرائم إسرائيل راجع للأرباح في سوق السلاح التي يجنونها من حليفهم ذاك. فالقضية في الأخير قائمة على المصالح الاقتصادية والسياسية المعقدة والمتشابكة التي تفرض على الدول الجنوح إلى النفاق إزاء جرائم إسرائيل.
- طوال السنتين الأخيرتين، رأينا الاتحاد الأوروبي يسارع لفرض عقوبات ضد النظام الروسي، أو على نظام لوكاشينكو عندما قمع المحتجين.. لماذا لم نر بروكسيل وحكومتها تفعل نفس الشيء نفسه إزاء جرائم إسرائيل؟
سياسة الاتحاد الأوروبي معروفة بازدواجيَّة المعايير: فعندما تتقاطع مصالح الدول الأعضاء في قضية ما، يتوحَّد حولها الموقف السياسي للاتحاد، ويهللون بها وكأنهم أبطال العدالة الدوليَّة. بالمقابل، عندما تتضارب مواقفهم مهددة وحدتهم الهشة ترى الاتحاد يلتزم صمتَ القبور. هذه الازدواجية في المعايير التي تبرز كذلك في موقف الاتحاد الأوروبي بخصوص العدوان على غزة في أيار/مايو 2021، حيث أدان صواريخ حماس دون أن يتطرَّق لجرائم إسرائيل.
حتى الإعلام، فما تبنته الصحافة الأوروبية لم يخرج عن نهج ديبلوماسية الاتحاد، حين تحدثت فقط عن عنف حماس، ولم تنبس بكلمة عن الحرب الدموية اليومية التي تشنها الدولة الصهيونية على الفلسطينيين العزَّل. ولم يكن إلا الشباب الذين قاموا بدور الإعلام البديل على مواقع التواصل الاجتماعي، ناشرين مقاطع توثق ويلات الجرائم التي ارتكبتها الآلة العسكرية الإسرائيلية.
والدول الأعضاء بدورها تفتقر لأي إرادة سياسيَّة من أجل تغيير مسار الصراع، لهذا هم ينتهجون نفس منطق العملية التي أطلقت عقب اتفاق أوسلو: منح الأهمية للإدارة الذاتية على حساب الدفاع عن النفس، ومنها يمكن أن نفهم لماذا لا يتحدَّث الأوروبيون عن حماية الشعب الفلسطيني. ومع ذلك، حتى وإن أرادوا أن يتدخَّلوا لحماية ذلك الشعب، فالاتحاد الأوروبي عاد هشًا وضعيف الموقف داخل المنتظم الدولي، ومفتقرًا للصوت الذي سيدعم به النضال الفلسطيني دون ضوء أخضرَ أمريكي.
دزيري دي ماركو: لا إرادة لدى المنتظم الدولي لتحميل إسرائيل مغبَّة خرقها المواثيق الدَّوليَّة، وهذا للأسف ما يجعلها تمعن في ما تقوم به
وماذا عن الطبقات الشعبية الأوروبية؟
صراحة، أنا في غاية الإحباط مما حصل ومن موقف الحكومات الأوروبية، وحكومات كل من أمريكا وإسرائيل. لم يكرِّس الغرب، وهو الذي لم يدفع الثمن بعد عن ماضيه الدموي الاستعماري، إلا أخطاءه السابقة بدعم الاحتلال، متنكِّرًا لما يتشدَّق به من قيم العدالة والديموقراطية. لكن الأمل في نصرة القضيَّة الفلسطينيَّة لازال قائمًا بين الأجيال الشابة، ليس فقط في فلسطين وإسرائيل، بل في أوروبا وأمريكا. هنالك شباب يدافع عن العدلة وحق الفلسطينيين، شرارته تمتد على وسع النسيج الاجتماعي الأوروبي، وهو الذي نراه ينظم نفسه في مسيرات تضامنية ويعمل لأجل نقل القضيَّة إلى المحكمة الدولية. وأنا عن نفسي، بمعيَّة هؤلاء الشباب، لن أتوقَّف عن النضال من أجل تحرُّر فلسطين.