لم يصل زياد توبة إلى حرفة النجارة طائعًا. تصاريف الحياة وضعته في الموقع الذي يجد نفسه فيه اليوم. هو أستاذ جامعي مع وقف التنفيذ، ورسام مع وقف السعي، ومثقف مع وقف الثرثرة. كائن موقوف على هذه الأصعدة كلها، لكن يديه تتكلمان على الخشب. دخل إلى عالم النجارة من بابها الخلفي، مواده الأولى وأدواته المبكرة جاءت من نفايات النجارين التي تترك عادة للنار. كان يجمع هذه المواد والأدوات من مصادر مختلفة ويحاول أن يتحاور مع الخشب. أخشاب متنوعة وكل نوع منها له مزاجه، وطواعيته على التشكل تتوافق مع مزاجه غالبا. النجار بالنسبة لزياد توبة هو الذي يستطيع أن يتعرف إلى أمزجة الخشب، وبعد ذلك تقوده يداه إلى حيث يريد له أن يذهب.
زياد توبة فنان وحرفي لبناني أقام 3 معارض رسم فردية وأنشأ غاليريًا للأعمال الخشبية والحرف المتنوعة. يحمل هادة دكتوراه في علم الاجتماع يقيم ويعمل في تركيا. هذا الحديث محاولة للدخول إلى عوالمه وهواجسه.
الرسم على السطوح الهشة
- ترسم على كرتون لم يعد له أي وظيفة غير إعادة تدويره. هل هذا سعي منك إلى إعادة الفنون لمسارها الأولي، بوصفها عملًا حميمًا أكثر مما هو عمل تجاري أو ثقافي بالمعنى العريض؟
اختيار مادة الكرتون التي ترمى في النفايات بعد تأدية وظيفتها بتعليب السلع لم يكن بهدف بيئي أو محاولة ملتوية لإعادة تدويرها. لقد اخترت هذه المادة لسببين، الأول جماليتها وطواعيتها، من خلال الرسم وإزالة الرسم، عبر ما تتيحه من إمكانية التمزيق وتلف أجزاء منها خدمةً لأسلوب الرسم وموضوعه. موضوع الرسم هنا هو البيت المعاصر المستعاد من أزمنة غابرة، ريترو/ باو هاوس، وما يدور فيه وما ينشأ من علاقات داخله (إنسان/شيء/حيوان). أما الهدف الثاني فهو نزع فكرة الموت عن الكرتونة بمجرد خروج السلعة منها، أو تحييدها عن التلف واستخدامها بكافة إمكانياتها المتاحة لجعل ما ينتج عن هذا الجهد عملًا يتضمن أبعادًا فنية وحرفية معًا. حرفي لجهة ما يتطلبه الكارتون من عناية بالرسم عليه بألوان مائية، وضرورة مراعاة التوازن بين وضع اللون المائي وإمكانية تلف الكارتون نفسه. في البدايات كنت أتعرّف على حدود المادة وإمكانياتها طبعًا، وهذا ما يجعل وصف علاقتي بهذه المادة بالعلاقة الحميمة ممكنًا.
زياد توبة: أتمنى أن أصل إلى تصميم عملي مبتكر يومًا ما، ومن دون أي أيقنة فنية، بل أيقنة وظيفية وجمالية، مثل تصميم كرسي ويندسور
النجارة بين الحرفة والفن
- ترسم لوحات أصيلة على طاولات معدة للبيع. هل تتوقع في أي يوم أن تنضم هذه الطاولة إلى متحف؟ أم ستبقى قيد الاستعمال اليومي؟ وإذا كانت سبتقى قيد الاستعمال اليومي، فهل تعتقد أن هناك مستقبلًا لهذه الحرفية الفنية، وأين؟ كما تعلم للفن سوق وله أباطرته، والصناعة أيضًا لها سوقها وأباطرتها. أين يقع شغلك بالضبط في هذه المعادلة، وكيف يتحول إلى شغل مرئي ومعاين على نطاق واسع؟
لا أستطيع القول إن دخولي إلى حرفة النجارة كان خيارًا. لقد كان مسارًا إجباريًا على نحو من الأنحاء. فبعد أن منعت من التعليم بشهادة الدكتورة التي أحملها بعلم الاجتماع. قررت أن أبدأ تعلم حرفة بناءً على حاجتي للعمل وتحصيل دخل بالمعيار الأول، واختيار النجارة تحديدًا بين مختلف الحرف ربما تعود أسبابه إلى طبيعة شخصيتي "الحرتقجية". وحين قررت دخول عالم النجارة بدأت بالقراءة عنها وعن مدارسها الكلاسيكية، وتتبعت روادها، ودرست الفروقات الثقافية بين البلدان الرائدة في هذا المجال، مثل اليابان وألمانيا وإيطاليا فضلا عن المدارس الحديثة، لا سيّما الوود ورك الأمريكي. هذا البحث مكنني من الخروج باستنتاجات نظرية حول الفروق بين النجارة والأعمال الخشبية. ومكنني من تكوين مسار حرفي قابل للتعديل وفق أمرين: أولًا التعامل مع الأدوات والمواد، وثانيًا تأليف القطعة المنتجة بما يتناسب مع وظيفتها عند مقتنيها وبُعدها الجمالي أو الفني وسعرها. وهذا الأمر كان أساسيًا في تطوير مهارتي، لاحقًا، ومكنني من أخذ كل هذه التوزانات في الحسبان خلال الاشتغال على القطعة. التجربة كانت مرهقة بداياتها، ولكنها سرعان ما تحولت إلى نمط عمل، وخفّت وطأتها عليّ، وباتت تستلزم حيزًا أقل من التفكير على القطعة واحتمالاتها، ما سهّل عليّ، مع تقدم مهاراتي في هذه الحرفة، الاتجاه نحو خلق أسلوبي الخاص. مع التقدم في ممارسة الحرفة أصبح العمل يحتل موقعا متوازنا بين المستويين، الحرفي والفني، ويكتسب هويته من هذا التوازن.
اقرأ/ي أيضًا: فاطمة مرتضى تشكّل بالخيط والنار ألوان أيامنا
البيوت الأليفة لا المتاحف الباردة
- هل يمكن تصنيف عملك في النجارة في خانة الفنون؟
هذا كله لن يتيح لأعمالي أن تنضمّ إلى الفنون بشكل حاسم، لكنها أيضًا ليست حرفية خالصة. وبطبيعة الحال، لا يمكن تصنيفها في خانة الصناعة، ما دمت أحافظ على ما يمكنني أن أسميه، البعد الخفي، والذي يمكن تعريفه بفرادة القطعة المشغولة، وهي فرادة تتحصل من نقاشي مع متطلبات الزبون وحول طبيعة استعمالها، وحاجته لها. ما يعطي كل قطعة شخصيتها الخاصة التي تلائم حاجات مشتريها وتصوراته حولها. وهذا ما خلق لي مساحة من الشغف داخل المشغل وأثناء العمل، وكان بمثابة حافز أساسي لبدء تطويع الخشب.
لا أعلم إذا كان ثمة عمل من هذه الأعمال قد ينضم إلى مجموعة متحف في يوم من الأيام، على غرار ما حصل مع كثير من الحرفيين الفنيين أمثال جورج ناكشيما مثلًا. وهو الذي أبدع في دراسته المعمقة للخشب وطواعيته وملاءمته بين وظيفة القطعة وبعدها الجمالي ومتانتها. لكني أتمنى أن أصل إلى تصميم عملي مبتكر يومًا ما، ومن دون أي أيقنة فنية، بل أيقنة وظيفية وجمالية، مثل تصميم كرسي ويندسور مثلًا الذي لم يذهب إلى المتحف بل ظهر في بيوت الناس في أغلب أصقاع الأرض وظهر في السينما وشاشات التلفزيون. وتحول قالبًا يُستنسخ منه بلا حدود، ويمتلك جمالية خاصة ووظيفة مكتملة دون الحاجة إلى انضمامه إلى المتاحف الباردة، -حتى أن صانعه مجهول. والحقيقة أن تصميم كرسي ويندسور أصبح شغلًا مرئيًا ومعاينًا ومستخدمًا على نطاق أوسع بكثير من النطاق الذي يتيحه المتحف كمؤسسة، ناهيك عن أبعاده الحميمة أيضا.
الأدوات التي تصبح امتدادًا لجسمك
- ماذا عن الأدوات المستعملة في حرفة النجارة. إلى أي حد تقرب أدوات العدة هذه الحرفة من الصناعة، خصوصًا لجهة قدرتها على منحك الثقة بدقة ما تصنعه وما ينتج عن استعمالها؟
للأدوات حكاية خاصة، تخضع بدورها للعوامل "والمحددات الثقافية" من حيث النشأة والوظيفة التي خصصت من أجلها، وتخضع أيضًا لفكرة "العدّة الفخ"، أي تلك العدة التي تستسهل استخدامها وتعطيك نتيجة مرجوة، ولكنها تعلمك الكسل في الوقت نفسه، والكسل مثابة فخ في الحرفة وينطوي على مخاطر كبيرة. من هذه النقطة يمكنني إعادة كل النقاش لأربطه بما بدأناه حول طبيعة المراد من الحرفة والمنتج على حد سواء. لكن إذا تخطينا هذا النقاش واعتبرنا أن العدة، مهما كانت، هي بمثابة امتدادات الأيدي والعيون والأظافر والرئتين... عندها يمكن أن تختبر مدى نجاحك وفشلك في ابتكار أو صنع قطعة خشبية دون إحالة الفضل في الإنجاز إلى العدة نفسها، بل تنسيبه إلى مستوى مهارتك على عدد من المستويات، التي تبدأ بالتخيّل وتمر بالتنفيذ وتنتهي بالتأمل.
زياد توبة: للأدوات حكاية خاصة، تخضع بدورها للعوامل "والمحددات الثقافية" من حيث النشأة والوظيفة التي خصصت من أجلها
اقرأ/ي أيضًا: الفنّان الأردني رأفت الخطيب.. الكاريكاتير فن استثمار في المفارقة
مزاج الخشب
- هل تعني أن الخشب يفرض نفسه على الحرفي، وبالتالي فإن الفضل في تشكله يعود له نفسه؟
معيار الفشل في هذه الحرفة، على الأقل كما أراه من خلال التجربة، لا يكون بالقياس بين ما تخيلته وما نتج عني، بل بالعطب الوظيفي للقطعة أو الفتور الجمالي أو الاثنين معًا. والتخيل الكامل عندي غير موجود، إذ أن نقطة انطلاقي لإنجاز أي عمل تتموضع عند الحد الأدنى من التصور المسبق والقياسات والوظيفة المرجوة، لكن يبقى أن اسلوبي فيه كثير من الارتجال، خصوصًا وأن الخشب وتنوعه يتيح لكل شخص التفكير به بطريقة مختلفة عن الآخر... بكلام أوضح ثمة قطع خشبية تختار بنفسها ما ستؤول إليه وفقًا لطبيعتها ومدى جمال أليافها وعقدها، أو إذا أردت أن أتجنب أنسنة الخشب، فيمكنني القول إن القطعة الخشبية تفرض نفسها عليك وتأخذك مثلًا لصناعة طاولة بدلًا من صناعة درج مخفي داخل خزانة. هذا الارتجال يخفف من وطأة الخوف من عدم تحقيق التطابق بين المتخيل قبل البدء بالعمل وبين مآله النهائي.
الأيدي المحبطة
ما دمت مقتصدا في استخدام الأدوات الموفية إلى الكسل، فهل يحدث غالبا أن تحبطك يداك؟
العلاقة مع الأدوات تبدأ بالخوف، الخوف أساس العلاقة. الخوف على الأيدي من تلك الامتدادات. الخوف خوفان: واحد، خوف فعلي من إصابة الأيدي بالأدوات بشكل مباشر. وثان، خوف الاعتماد الكلي على الأدوات، لا سيما الآلات اليدوية الكهربائية، التي تساهم بضمور مهارة اليد وحسن استخدامها للأدوات البدائية وإصابتها بالكسل كما ذكرت سابقًا. وهناك خوف إضافي، وربما ثانوي لكنه موجود، وهو من احتمال أن تفسد الأدوات بعضًا من الأعمال نتيجة المبالغة في استخدامها أو الاعتماد عليها. من الممكن أن أجد صعوبة في وصف ما أذكره الآن حول تلك المخاوف، أو يخونني التعبير في هذا المجال، نظرًا لدقة الممارسة ومشاعرها وتفاصيلها والمرور بالتجربة يختلف عن الحديث حولها، هناك تفاصيل من الصعب نقلها من التجربة إلى حقل النظر، كما من الصعب نقلها إلى أي قارئ لم يختبر يديه وامتداداتها خلال العمل بالنجارة أحيانًا.
المشتغلون بالخشب يعرفون جيدا ما أعني، ولا بد أنهم مروا بحالات الحزن التي أمر بها حين تعجز عن إكمال ما بدأته نتيجة الخيبة في تحقيق وظيفة القطعة الخشبية أو بعدها الجمالي، لكن ماهية الخشب ميزة تُحسب لهذه المادة، التي تتيح لك فرصا أخرى على الدوام.
زياد توبة: إن القطعة الخشبية تفرض نفسها عليك وتأخذك مثلًا لصناعة طاولة بدلًا من صناعة درج مخفي داخل خزانة
اقرأ/ي أيضًا: عن "مشروع المحترف- تمارين في التعب".. ما الذي تفعله الأيدي الحاذقة؟
لا تُختصر علاقة النجار مع الأدوات داخل المحترف على ما يحصل ويتم تطويره بين اليدين والأدوات، بل تنسحب على باقي الجسد والأعضاء. وأعني بهذا الشمول ما يتعلق بتقسيم المحترف وترتيبه، وهو ترتيب لا يستقر إلا حين يرتاح الجسد في حركته داخل المحترف، فتحفظ الأيدي أمكنة الأدوات وأين تستريح. وتقنص العين أيضًا تلك الأمكنة بالوقت المناسب وتهتدي للأدوات والمواد المطلوبة. وتعرف الرئتين أين تلزمك أن تضع قدميك لتتفادى غبار المحترف... بالتالي هذه العلاقة في تطور مستمر ولا أحسب أن ثمة نهاية له.
اقرأ/ي أيضًا:
انطباعات حول لوحات رولا الحسين وصورها.. أي شياطين تسكن هذا الليل؟
مهند نصر في ألبومه "الحمراء".. موسيقى عربية على إيقاع الفلامنكو