نال الفيلم الوثائقي السوري "صراع البقاء" للمخرج عبدو مدخنة جائزة الدولفين الفضي ضمن فعاليات مهرجان "كان" السينمائي (Cannes Corporate Media & TV Awards) كأفضل فيلم ديكودراما (Docudrama) لعام 2022. الفيلم الذي يسلط الضوء على كفاح الناجيات والناجين من معتقلات النظام السوري، وصراعهم من أجل الاستمرار في الحياة، حاز على الجائزة بعد منافسة بين 800 عمل تمثل أكثر من 40 دولة. وتكتسب هذه الجائزة أهميتها من كونها تأتي من مهرجان رفيع، وكونها اندرجت تحت وصف يجمع بين نوعين فنيين: الدراما والوثائقي.
عن الفيلم والجائزة كان هذا الحوار مع المخرج.
- كيف ولدت الفكرة؟ وما تصوراتكم عن آليات العمل قبل التنفيذ؟
بدأ العمل على الفيلم في أوائل 2019. التحضيرات الأولية تمثلت في تأسيس فريق العمل الأساسي للمرحلة الأولى التي تسبق الشروع في الإنتاج. وبعد لقاءات كثيرة جمعتني أنا وكاتب السيناريو ساشا العلو مع عدد كبير من الناجين والناجيات بدأت مرحلة العمل الفعلية من اختيار القصص وتدوين الملاحظات والتصورات المستخلصة من تلك الشهادات، لتبدأ بعد ذلك ورشة تحضير مواقع التصوير التي استغرق العمل عليها حوالي عشرين يومًا في مدينة إعلامية في القسم الآسيوي من مدينة اسطنبول لإجراء التعديلات اللازمة على السجن وبناء المنفردات ومعدات التعذيب وغيرها.. مما اتفق عليه المخرج مع مهندس الديكور التركي مصطفى اولكيجيلار.
"صراع البقاء" فيلم يسلط الضوء على كفاح الناجيات والناجين من معتقلات النظام السوري، وصراعهم من أجل الاستمرار في الحياة
- كيف بدأت بصياغة الرؤيا النهائية للفيلم قبل بدء عمليات التصوير؟
بتحديد حجم الكتل الموجودة ضمن العمل، فنحن أمام عمل وثائقي لا نملك منه سوى شهادات الناجين، وهي شهادات يختلف كل شخص عن الآخر في القدرة في التعبير عنها. وهنا كان لا بد لنا من الاتجاه نحو فيلم ديكودراما تشكل فيه المشاهد التمثيلية حيزًا كبيرًا، وهذا ما ركزت عليه منذ البداية. وفي سياق الاختيارات القصصية، بمعنى المفاضلة بين القصص المتشابهة حول نفس الموضوع واختيار تلك التي يكون فيها المشهد مؤثرًا، فعلًا كنت أرى في مخيلي تلك المشاهد أثناء استماعي للشهادات وهذا شكل النواة الأولى لصياغة الرؤية النهائية للفيلم.
- ما هي التحديات التي واجهتك؟
بعد اختيار القصص والأماكن كان أصعب شيء تعرضنا له هو اختصار تلك القصص المؤلمة، والمفاضلة بينها لتكون ضمن الساعة المتفق عليها مع الجزيرة كمدة زمنية للفيلم. وبالفعل كانت ورشة عمل أخرى مع الكاتب امتدت أيامًا حتى خلصنا الى مجموعة شهادات متسلسلة بنى عليها الكاتب سيناريو الراوي في الفيلم. حيث اعتمدت أسلوب الراوي من قبل شخصية افتراضية تلعب دور مسن قضى عمره في السجن، ليستحضر أمام الكاميرا بعضًا مما صوره قيصر من جثث من تلك المسالخ البشرية، وما يتحدث عنه المعتقلون من أدوات بدائية وكأنه لسان حالهم.
- كيف تغلبتم على قصور أمكنة التصوير من أجل التعبير عن معتقلات الموت؟ وكيف خرجت النتيجة خرجت بهذه الصورة التي تكاد تطابق الواقع؟
لم يفارقني هذا الإحساس طيلة العمل على المشروع وفي كل مفصل من مفاصله، ما الذي يمكن أن يوازي بصريًا ما يحصل في معسكرات الموت؟ أما كيف تغلبنا على قصور الأماكن؟ فمن خلال فريق عمل كبير، فبالنسبة لعمل ديكودراما استطعنا إلى حد ما الخروج بتلك الواقعية، ابتداءً من اللوكيشن والديكور وتحويله إلى فضاء يشبه إلى حد ما التصورات المستخلصة مما سمعته من الناجين. وعلى الرغم أن مهندس الديكور مصطفى اولكيجيلار تركي إلا أنه وبمجهود فريد استطاع التقاط ما أريده بحرفية عالية، واستمرت التعديلات والتحضيرات على السجن الموجود في مدينة إعلامية في القسم الآسيوي لإسطنبول لحوالي عشرة أيام.
بعد الديكور وتفاصيله الكثيرة أتى دور الكاميرا والكوادر المنتقاة، وهذا ما كان لمدير الاضاءة كاني جميل الدور الأكبر في تحقيق المزاج المتفق عليه قبل الشروع في التصوير، حتى مؤثرات المكياج فقد عمل عليها فريق تركي مختص بهذا النوع من الأعمال، بحيث احتاج كل شخص ظهر في الفيلم إلى ساعات طويلة للظهور بالدور المنوط به، أما عدد من شارك في التمثيل فقد زاد عن خمسين شخصًا.
كما أود أن ألفت أني إلى جانب تصوير هذه المشاهد لجأت إلى الأنميشن، الذي استغرق العمل عليه حوالي الشهرين مع المدعين تحسين نحلاوي وسمير سلامة، فمن وجهة نظري كصانع لهذا الفضاء أن الصورة الحية لا تكفي، وأن الأنميشن كان إشارة إلى عوالم أخرى لا يمكن لكاميرا أن تلتقطها.
- "صراع البقاء".. لماذا هذا العنوان ؟
لأننا أردنا أن نبتعد عن الطرح المعرف حول آليات التعذيب في سجون الأسد، وأردنا التركيز على الآليات التي يتبعها السجناء للبقاء على قيد الحياة في مواجهة حاجاتهم الأساسية من طعام وشراب، مرورًا بصراعهم مع المرض بشقيه الجسدي والعقلي، وصولًا إلى تمسكهم بالحياة بوساطة الأمل ومفردات الحلم..
- ثمة ثقل أخلاقي في العمل على هذا الموضوع، كيف جرى التعامل معه؟
بالتأكيد. نحن ممثلون عن أصحاب الحكاية، ولسنا أبطالَها، كي لا ندخل في باب الادعاء المرضي الذي يرى في نفسه مبدعًا، بينما المبدعون الحقيقيون هم المعتقلون، مادة الحكاية ومنطلقها ومنتهاها، وما نحن (أقصد فريق العمل) إلا صدىً لأوجاعهم التي حاولنا بأمانة أن ننقلها للعالم، علنا نساهم في تكريس سردية يريد نظام الأسد طمسَها وتغيبَها، ظنًا منه أن التعمية يمكن أن تخنق صوت المقهورين في زنازينه، وصوتَ ثورة دفعت أرواحًا وعذاباتٍ من أجل حلم ببناء بلد يطمح الجميع لان يكون دولة لا مزرعة، لسلطة قاتلة ومتوحشة.
عبدو مدخنة: "نساهم في تكريس سردية يريد نظام الأسد طمسَها وتغيبَها، ظنًا منه أن التعمية يمكن أن تخنق صوت المقهورين في زنازينه"
- كيف تلقيت خبر فوز فيلمك بهذه الجائزة؟ وهل كان ذلك متوقعًا؟
ربما أجمل ما في تلك اللحظة أنني تلقتيها وأنا في أقرب نقطة إلى سوريا التي لم أزرها منذ سنوات، فقد كنت على حدودها برفقة عائلتي. صحيح أني مخرج العمل إلا أنني لا اعتبر هذه الجائزة تخصني وحدي، بل تخص فريق العمل كله، من الكاتب إلى مدير الإضاءة والتصوير، وإلى الممثلين وعمال الإنتاج، وأن النجاح هو تظافر جهود الفريق في رغبة لإنصاف أهلنا المعذبين على أمل الحرية.
لا أعلم حقيقة إذا كان ذلك متوقعًا أم لا، لكن متأكد أن عدالة هذه القضية بالتأكيد تستطيع أن تصل إلى أرفع المهرجانات. وإذا كان هناك خطوة قادمة فأعتقد أنها ستكون فيلمًا روائيًا بعد عملين وثائقيين نفذتهما عن معتقلات الأسد "صراع البقاء" والجحيم "سخرة الموت".