غطفان غنوم (1976) مخرج سينمائي وممثل مسرحي وكاتب سوري يقيم في مدينة هلسنكي في فنلندا. وهو أيضًا، إلى جانب ما سبق، مصور فوتوغرافي تنطوي صوره على ما يشبه السحر، أو يُنسب إليه. وتبدو، لمن يتنقل بينها على صفحته في الفيسبوك، محاولات لتوثيق ما تبقى من سحر العالم على وقع محاولات أخرى تسعى إلى تجريده منه.
ليس هذا سوى انطباع من بين انطباعات كثيرة تبثها صور غطفان غنوم، التي نرى فيها وجوهًا ومشاهد طبيعية التُقطت بطريقة نشعر أمامها بأن من التقطها يحاول بناء نص أدبي إلى جوار المشهد، أو إحالة المشهد ذاته إلى نص قد يكون شعرًا أو سردًا.. لا فرق طالما أننا، في جميع الأحوال، أمام مشهدين فني وأدبي لا يغيب عنهما الخيال رغم واقعيتهما التي لا تلغي سحرهما أيضًا.
صور غطفان تتحدى الكتابة والموسيقى مثلما تتحدى عين المشاهد، لا سيما حين ترغمنا على الانتباه إلى أن في كل لحظة من لحظات الحياة العابرة كثير من الفلسفة، وكثير من الحكايات، وكثير من الشعر. ولأن كل ذلك ينتظر من يلتقطه تلعب الكاميرا التي يحملها هذا الفنان المتجوّل دور حصّادة، وبدلًا من أن تملأ البيدر بالقمح تجعل من عيوننا بيادرَ لمعاني الحياة المتوثبة، ومستودعات لجمالها العظيم.
هذا الحوار محاولة في الذهاب إلى الصندوق الأسود لتلك الألبومات.
- دعنا نبدأ من سؤال بديهي: في عالم مليء بالفيديو الذي يضعك في قلب الحدث أو المشهد، ما الذي بقي أمام الصور لتقوله؟
لنفترض بأننا نتابع حدثًا ما على الشاشة، في لحظة ملفتة قد يتطلب الأمر تثبيت الصورة، تجميدها. هذه اللحظة تحديدًا تمتلك في نظر المتلقي خصوصيةً وتأويلًا، وتشي بأن هنالك تفاعلًا نفسيًا قد بدأ بينه وبين الصانع. تذكّر تلك الصور المتعاقبة في الفيديو بمقولة أندريه تاركوفسكي بأن السينما امتلكت لغتها عندما تم القبض على الزمن!
غنوم: من المفارقات التي يطيب لي التندر بها هي أن نزوعي نحو الصورة كان هروبًا كاملًا من الكتابة
بهذا المعنى إذًا تصبح اللقطة الفوتوغرافية مهيمنة على لحظة ثابتة تم اقتطاعها من سياق زمني ما. لكنها لحظة محرضة، موقظة، وتمتلك جزءًا من الحقيقة بحكم أنها وجهة نظر المصور التي تحققت حين امتزج العامل الجسدي الفيزيائي مع النفسي في لحظة حدس، فتم الضغط على زر الكاميرا.
اقرأ/ي أيضًا: حوار| بيار سولاج: يرشدني ما يحدث على اللوحة إلى ما أريد رسمه
اللقطة الفوتوغرافية متحررة بذاتها، ولذلك فهي قابلة للتأويل بسبب ثباتها، فأنت أمام ماضٍ ومستقبل تستطيع، كمشاهد، التكهن بمساحتيهما الفارغة. وبهذا المعنى تصبح اللقطة الفوتوغرافية أكثر من مجرد مكنونات مرتبة ضمن إطار، وتتجاوز ذلك نحو اللامرئي خارج الإطار الافتراضي للصورة.
لنتذكر تلك الصورة التي أثّرت عميقًا في الوجدان العالمي، صورة الطفل الكردي إيلان التي التقطت له، بعد غرقه، على أحد الشواطئ التركية. الصورة بحد ذاتها تتجاوز المشهد كاملًا، وهذا ينطبق أيضًا على صورة الشهيد محمد الدرة مع والده، أو صورة الطفلة الفيتنامية العارية التي أحرقها النابالم، وهزت الضمير العالمي حينها.
- هل للتصوير الفوتوغرافي علاقة بكونك مخرجًا سينمائيًا؟
الكثير من المصورين الفوتوغرافيين الكبار لم يصنعوا الأفلام، والعكس صحيح أيضًا. لكن يغريني التذكير بأن المخرج ستانلي كوبريك كان مصورًا فوتوغرافيًا بارعًا، كذلك الحال بالنسبة إلى عباس كيارستمي.
بداياتي مع التصوير الفوتوغرافي كانت قديمة، ويعود الفضل بذلك إلى دراسة الإخراج السينمائي التي مكنتني من التعود على الإمساك بالكاميرا، والتعامل والتآلف معها أيضًا كشخص يمتلك حق المواطنة في وجداني الشخصي.
- ثمة نزعة أدبية في صورك، أو هكذا يراها متابعوها. تُرى إلى أي حد تلتقي الصورة والنص؟
من المفارقات التي يطيب لي التندر بها هي أن نزوعي نحو الصورة كان هروبًا كاملًا من الكتابة. فالبعض يمتلك موهبة التحدث باللغة، ويبدو أنني وجدت أن لغتي البصرية أسهل نطقًا، فلجأت إلى الصورة.
رغم ذلك، فإن السؤال يستدعي بالضرورة مقالة هامة للباحث في علم الألسن والنقد الأدبي رولان بارت بعنوان "الرسالة الفوتوغرافية"، التي يشرح فيها قوة المعنى الذي تحمله الصورة الفوتوغرافية من حيث أنها تحمل رسالة هامة، شأنها شأن النص المكتوب.
اقرأ/ي أيضًا: حوار| زياد توبة.. عن الأيدي المحبطة وأمزجة الخشب
تلتقي الصورة بالنص حين تحمل بُعدًا شاعريًا، أو معرفيًا، أو توثيقيًا، أو إخباريًا. ويندر من وجهة نظري ألا تحمل صورة ما قيمة نصية، ربما باستثناء صور الفضاء البعيد وصور الأشعة السينية فقط.. لست متأكدًا. وعلى كل حال، فالمصور يختار زاوية اللقطة بالطريقة التي يختار فيها الكاتب من وجهة نظر أي بطل يتحدث. والمصور حين يختار نوع وقوة اللون في الصورة، غامقًا أم باهتًا، فإنه يفعل ذلك لينقل مشاعره الشخصية التي تتنازعه، تمامًا كما تفعل الكلمات.
ولا نغفل هنا عن الإشارة إلى أن الصورة التي رسمها أجدادنا في الكهف كانت هي الكلمة في يوم ما، وأن اللغات سابقًا اعتمدت الرسوم الأيقونية كحروف وكلمات. وكما أن للكلمة تمثيلها صوريًا في الذهن، فإن للصورة تجريدًا لغويًا مقابلًا لها، وقد يكون ذلك التجريد اللغوي صالحًا كعنوان. ولذلك لم أحاول إطلاق عناوين على الصور التي التقطتها لاعتقادي بأن العنونة ستقيّد الصورة ضمن معنى محدد، وهذا ما لا أفضله.
- حسنًا. ما الذي يجعلك تقرر أن تصوّر لقطة؟ ما الذي يشدك أو يدفعك إلى ذلك؟
هنالك، بشكلٍ عام، عدة عوامل. يتعلق العامل الأول بالشق المهني، فإجادة التعامل مع الكاميرا وتحديثاتها يتطلب جَسر الهوة بين الجهل التقني والحداثة التي لا ترحم، وبين الكسل الشخصي. لذلك فالتصوير حالة مران مستمر، وخاصةً بعد مرحلة الديجيتال التي لا تستلزم وضعًا ماديًا فائقًا.
العامل الثاني يتعلق بالحالة النفسية، خاصةً بعد أن فقدت الأرشيف الكامل الذي أنجزته طيلة حياتي بعد الخروج من سوريا. أنا أدرك أهمية كل صورة لم تكن تعني لي شيئًا ذات يوم، ثم تحولت فجأة بعد خسارتها إلى حقلٍ من حقول الذاكرة التي يسعدني التجول فيها.
أما العامل الثالث فيتعلق بالفضول. كما تعلم فالصورة أصلًا في حالة كامنة وتتطلب تحميضًا – قبل الديجيتال – حتى تظهر، وتتطلب تفريغًا بعد الديجيتال. وفي كلتا الحالتين فإنني أعيد ترتيب الأشياء وفقًا لذائقتي حينما أقتطعها من مكان ما وأخزنها في الكاميرا، لأعيد لاحقًا اكتشافها بعد فترة كمونية قد تقصر أو تطول. جميع ما سبق يجعل لأي صورة ألتقطها خصوصية ما بالنسبة لي.
- هناك تصوير بالألوان، وهناك تصوير بالأبيض والأسود، وتصوير تجريبي، وآخر وثائقي.. وأنت تقريبًا مصور جوال بين هذه الأنواع.. ما السبب؟ وأليس هذا صعبًا؟
تكمن الصعوبة في هذا الأمر بامتلاك التقنية المناسبة، فمن يريد تصوير الحشرات لابد أن يقتني عدسات مناسبة وخاصة، وكذلك الأمر بالنسبة لمصوري الحفلات، أو مصوري البورتريهات والموديلات في الاستوديو. هذا لا يعني بتاتًا بأن الأمر محض تقني، فلابد من توفر الخيال الفعال والرؤية الواعية لدى المصور الجيد.
أما بالنسبة للمواضيع المصورة واختيار الألوان، فهذا ما اتركه للحدس الشخصي. من ناحيتي أميل للتصوير بالأبيض والأسود لأنه يوفر حيادية أكبر تجاه المواضيع المصورة، ويشكّل تحديًا مستمرًا لأنك لا تمتلك سوى التحكم بالضوء والعمق والتباين والحدة للسيطرة على مادتك، وهذا يضفي مزيدًا من المتعة والتشويق.
- ما الفرق بين الصورة والفيديو؟
طبعت أول صورة فوتوغرافية عام 1918، ولذلك فالتصوير الفوتوغرافي سبق التصوير للسينما وللتلفزيون. والحقيقة أن الفيديو عبارة عن صور متعاقبة ومتتابعة يوحي تكرارها باستمرارية الحركة، ذلك أن العين البشرية قاصرة عن تمييز الكوادر الفارغة بين الصور.
اقرأ/ي أيضًا: الفنّان الأردني رأفت الخطيب.. الكاريكاتير فن استثمار في المفارقة
ولذلك من غير المجدي التكلم حول الفرق بين الصورة الثابتة والصورة المتحركة تقنيًا. يأخذ الأمر أهميته عندما يُرصَد الاختلاف من الناحية الانطباعية التي تتعلق بالمشاهد، ومن الناحية التعبيرية التي يختارها المنفّذ. فالمخرج السينمائي يتكلم من خلال السينما، وللسينما لغتها الخاصة المتمثلة في المونتاج، بينما ينطق الفوتوغرافي من خلال عدسة كاميرا. السينمائي يكتب روايته بالصور، والفوتوغرافي يلقي قصيدته المكثفة، كالهايكو، بالصور.
- هل تخسر الصور من قيمتها بعد التعديل؟
مع افتراض وجود العين المدربة والخبرة المناسبة والخيال المتحفز، قد تمتلك الصور بعد المعالجة بُعدًا جماليًا ونفسيًا إضافيًا. الكثير من المصورين يفضلون التقاط الصور بالألوان ثم معالجتها لتصبح بالأبيض والأسود.
من جانب آخر، ماذا يعني أن نرتب المكان، نهيئ الإضاءة، ونبرمج مكان ووضعية وقوف موديل في الاستديو أو في المكان المنتقى لأخذ لقطة مدروسة؟ ألا يشي ذلك بأنه تعديل مسبق للطبيعة إن جاز التعبير! غير أن التعديل المقصود هو التعديل الذي يطرأ على قماشة الصورة بعد إنجازها، وقد يجري ذلك بغية إخفاء بعض العيوب التقنية وتلافيها. وبالطبع يطمح أي مصور إلى الصورة الكاملة التي لا يُطبّق عليها أي تعديل، لكنه أمر ثانوي من وجهة نظري.
- هل الكاميرا عندك بمثابة دفتر يوميات توثّق فيه اللحظات التي ترغب، أم هي طريقة لفهم العالم؟
الكاميرا بالنسبة لي وسيلة جيدة للتفكير والاسترخاء والتأمل، وهذه أوقات جيدة لصياغة أفكار ورؤى حول الهموم العامة والشخصية. لكنني لا أتعامل مع الكاميرا من وجهة نظر راديكالية، إذ تأتي أوقات أهمل فيها ذلك الجهاز واغترب عنه، ثم تعاودني الرغبة مجددًا بالخروج والمشي لساعات طويلة حاملًا إياها كرفيق جيد.
غنوم: لم أحاول إطلاق عنوان على صورة التقطتها لاعتقادي بأن العنونة ستقيّد الصورة ضمن معنى محدد
قرأت مرة تشبيها لطيفًا بأن الصورة التي يجب أن تلتقطها، تشبه الطلقة التي تدافع بها عن نفسك. تخيل ذلك: لديك طلقة واحدة فقط، ولذلك فلا يجب التفريط بها. حدث ذلك حقًا عندما كان الأمر يحتاج إلى شريط غال الثمن، ولتحميض في استوديو لاحقًا. أما الآن، فأنت مزود برشاش لا تنضب طلقاته.
اقرأ/ي أيضًا: عن مجموعة صور جيلبير الحاج "إنها حياة رائعة".. وجوه تشبه عري أصحابها
في أحد الأفلام الجميلة لشركة ديزني، اسمه "كوكو"، نعلم بأن كل من يموت وينتقل إلى العالم الآخر، كما تقول الأسطورة، لا يستطيع الانتقال بروحه عبر درب الزهور نحو الخلود في الجنة إن لم توضع صورته الشخصية على المذبح في منزل العائلة كي يتذكره الأحفاد، وأن من يفقد الصورة يبقى معلقًا لفترة ثم يتلاشى في عالم لا يعرف أحد عنه شيئًا. قد تساعد هذه الأسطورة في فهم العلاقة مع الكاميرا حقًا، ومع ذلك الإرث البصري الذي أطمح إلى تركه.
- يقولون إن الموبايل يغني عن الكاميرا.. كيف ترد على مثل هذا القول؟
بالنسبة للموبايلات، فإن التطور التقني يوفر كاميرات تلتقط الصور بجودة عالية ومنافسة، وهي تتمتع بالسعر المعتدل وبسهولة الحمل وسهولة التعامل أيضًا، وما يزيد الأمر إغراءً أن للموبايل طرقًا سريعة مفتوحة على وسائل التواصل الاجتماعي. لكن تبقى الكاميرات المستقلة بمثابة مصانع كبرى للتعامل مع الضوء والعمق والحقل البصري، مما يجعل من الكاميرات البسيطة في الموبايلات غير قادرة على مجاراتها.
- لماذا يقتصر حضور صورك على السوشيال ميديا؟ لماذا لم تُقم أي معرض؟
توفر المنصات الاجتماعية حيزًا جيدًا لنشر الصور والتفاعل معها بشكل محفز، وتمنحني شعورًا بالتواصل مع الآخرين، وهذا هو السبب وراء نشري للصور هناك. يسعدني جدًا أن أضيف قليلًا من الجمال إلى هذا العالم المثقل بالأحزان. لكن المؤسف أنني لا أستطيع نشر الكثير من الصور التي قد تحمل تمردًا ما على الذائقة العامة، وقد لا يتقبلها الكثيرون، مما يعني أن مكانها في مثل هذا الوضع هو المعارض الخاصة، ولذلك سأفكر بأمر المعرض حينما تحين الظروف المناسبة.
اقرأ/ي أيضًا: