السياسة والتاريخ والاقتصاد والفن والأدب، وما يرتبط بها ويتفرع عنها، هي المجالات التي كتب فيها وعنها الكاتب والمؤرخ والمفكّر اللبناني فوّاز طرابلسي، الذي أقام بينها روابط وصلات عديدة أعاد عبرها قراءة أحداث سياسية وتاريخية فارقة، وقضايا اقتصادية واجتماعية مختلفة. فالتاريخ، بالنسبة إليه، هو الأنسب والأشمل للتعبير عن الحروب والتجارب الكبرى التي خبرها. أما الأدب والفن، فهما في نظره الأقدر على الإحاطة بالتحولات الاجتماعية والسياسية من النص السياسي الصرف.
قرأ طرابلسي من خلال الأدب والفن وظائف العنف وطقوسه في الحروب الأهلية، وتناول عبرهما تحولات السلطة والمجتمع في لبنان خلال النصف الثاني من القرن الفائت. ورغم شغفه بهذين المجالين، إلا أن كتاباته لم تقتصر عليهما فقط، بل شملت السياسة والتاريخ والاقتصاد والأنثروبولوجيا وغيرها. ناهيك عن السيرة واليوميات والشهادات الشخصية التي تحيل إلى سيرة حافلة بالمغامرات الممتدة من بيروت إلى ظفار وصولًا إلى عدن خلال سنوات حكم اليسار لجنوب اليمن.
أصدر فوّاز طرابلسي، على مدار أكثر من 3 عقود، أكثر من 20 كتابًا، منها: "غيرنيكا – بيروت: الفن والحياة بين جدارية لبيكاسو وعاصمة عربية في الحرب" (1987)، و"صورة الفتى بالأحمر" (1997)، و"صلات بلا وصل: ميشال شيحا والإيديولوجيا اللبنانية" (1999)، و"إن كان بدك تعشق: كتابات في الثقافة الشعبية" (2004)، و"يا قمر مشغرة: المحسوبية، الاقتصاد، التوازن الطائفي" (2004).
إضافةً إلى: "فيروز والرحابنة: مسرح الغريب والكنز والأعجوبة" (2006)، و"تاريخ لبنان الحديث: من الإمارة إلى اتفاق الطائف" (2008)، و"حرير وحديد: من جبل لبنان إلى قناة السويس" (2012)، و"الديمقراطية ثورة" (2012)، و"ثورات بلا ثوار" (2014)، و"دم الأخوين: العنف في الحروب الأهلية" (2017)، و"سايكس – بيكو – بلفور: ما وراء الخرائط" (2019). كما ترجم أيضًا عدة أعمال أدبية وفلسفية وسياسية لكبار الكتّاب والمفكرين العالميين، مثل أنطونيو غرامشي وإدوارد سعيد.
في هذا الحوار الذي سيُنشر على 3 أجزاء، يجيب الكاتب والمؤرخ والمفكر اللبناني على مجموعة من التساؤلات حول قضايا ومواضيع مختلفة تشمل السياسة والتاريخ والأدب والفن، إلى جانب ثورات الربيع العربي والديمقراطية والدولة الوطنية والطائفية ومفهوم المجتمع المدني والتأريخ وغيره.
طرح عليّ الأخ مصطفى ديب أكثر من 15 سؤالًا يدور معظمها مدار نظريات وأفكار من فترة ما بعد الحرب الباردة، وقد وصلت إلى المنطقة العربية وباتت فاعلة في الحياة الفكرية والثقافية وبدأ تداولها، حتى لا أقول استهلاكها، وقد حلّت بسرعة محلّ مفاهيم ونظريات سابقة، جرى التخلي عنها، وتبني الجديدة قبل أن تتعرّض لما تستحقه من تدقيق ونقاش.
قبلت التحدي، خصوصًا أن بعض الأسئلة حفزني إلى التفكير والكتابة في مواضيع لم أكن قد تطرّقت لها من قبل. وغني عن القول إن الإحاطة بهذا العدد من المواضيع استدعى مقدارًا من الضغط والاختصار.
1- السياسة والتاريخ
- بدايةً، ثمة سؤال لا بد منه، وهو: نعرف فوّاز طرابلسي كاتبًا وباحثًا ومؤرخًا ومفكّرًا أيضًا، ولكننا لا نعرف فعليًا ظروف لقائه بالتاريخ والسياسة. هلّا تكرمت وحدّثتنا عنها؟
نشأت في زمن الثورات وثرت مع الثوار. كنت أرى إلى نفسي مناضلًا في حركة التحرر الوطني والاجتماعي العربية، ومارست ذلك النضال بما هو نضال للتحرر الفردي أيضًا. لعب عدوان السويس دورًا كبيرًا في تأسيس وعيي السياسي والوطني.
طرابلسي: علم التاريخ هو الأنسب والأشمل بين كافة الاختصاصات للتعبير عن التجارب والحروب التي عشناها
لم أمارس السياسة بالمعنى التقليدي، إذ كان إطار عملي السياسي هو دومًا العمل الحزبي الجماعي، وقد مارسته بالتزامن الدائم مع التفكّر بتلك الممارسة، وخدمتها، عن طريق الإنتاج الفكري والثقافي. عملت في الصحافة منذ وقت مبكّر، وبعد الانتهاء من تفرّغي الحزبي، الذي دام عقدًا ونصف من الزمن، امتهنت التدريس لكسب العيش.
والسياسة هي أيضًا اختصاصي الأكاديمي، درستها في المرحلة الجامعية ودرّستها في الجامعة. بعد العام 1984، قررت استكمال دراستي نحو الدكتوراه التي قطعتها العام 1970 حين عدت إلى البلاد للمشاركة في تنظيم كنت قد شاركت في تأسيسه، وهو "منظمة العمل الشيوعي". انتقلت إلى باريس، اخترت أن أكمل دراستي بقسم التاريخ وقد بتّ مقتنعًا بأن علم التاريخ هو الأنسب والأشمل بين كافة الاختصاصات للتعبير عن التجارب والحروب التي عشناها، وقد قررت أن أتفرّغ للكتابة عنها، بوسائل متعددة، منذ تلك الفترة.
قررت أن أروي تلك التجارب في أعمال أسميتها "تصنيع التجربة"، وهي مزيج من شهادات عن التجارب ومحاولات إعطاء معنى لها ومراجعتها نقديًا أضعها بتصرّف القراء والثوار من الأجيال الجديدة، وسنتكلم عن ذلك فيما يلي.
2- الأدب
- الجد شاعر، والأخوال شعراء أيضًا، بمعنى أن الظروف كانت مهيأة لتُصبح شاعرًا أو كاتبًا أو رسامًا، ولكنك تركت كل ذلك جانبًا وانخرطت في السياسة وبعدها كتابة التاريخ. هل تشعر الآن بأنك أديب ضلّ طريقه إلى السياسة؟ أم ترى نفسك اهتديت إليها؟ وعند الكتابة في السياسة أو التاريخ، ألا تراودك الرغبة في كتابة قطعة أدبية خالصة؟
الجد عيسى إسكندر المعلوف مؤرخ ولغوي. ثلاثة من الأخوال شعراء، وثلاثة من أخوال الأخوال شعراء. كنت مصابًا بالربو في الطفولة ومنزلنا رطب، فسكنت خلال فترات طويلة منزل جدي وجدتي في بيروت في الشتاء، أو في زحلة خلال الصيف. تعلّمت من الجد الولع بالكتب وباللغة العربية، واكتسبت متعة القراءة وفضول التحري والبحث.
لكني أنتمي أيضًا إلى عالم آخر. تنحدر أسرة الوالد من بلدة مشغرة المختلطة (مسيحية – شيعية) في البقاع الغربي، وقد توزّع أفرادها بين العمل في دباغة الجلود والتجارة بها والهجرة. عرفت صناعة الجلود الازدهار خلال الحرب العالمية الثانية بسبب الطلب العسكري على الجعب والأحزمة والجزمات الجلدية. كان الوالد يعمل موظفًا في "فندق الشرق" (أوريانت پالاس) بدمشق، فتزوّج وانتقل خلال الحرب إلى بيروت، حيث افتتح محلًا لبيع الجلود التي تنتجها دباغة أخيه، وكانت له حصة متواضعة فيها. انتكست صناعة الجلود انتكاسة كبيرة في نهاية الأربعينيات عندما أُقفلت الحدود مع فلسطين، المستورد الأول لجلود البلدة، بسبب الاحتلال الإسرائيلي. كما أقفلت مع سورية بسبب القطيعة الاقتصادية بين لبنان وسوريا 1948 – 1950، فأخذ الوالد حينها يزاوج بين تجارة الجلود واستثمار فندق في بحمدون حتى تفرّغ للأخير.
لم أفكّر كثيرًا بهذا الأثر العائلي المركّب، ولكنه فاعل دون شك، وأحسب أنه أغنى حياتي ونوّعها ووسّع آفاقها. لكنني صنعت حياتي بقدر كبير من الاستقلال عن البيئة العائلية.
طرابلسي: التعبير الأدبي والفني أقدر على الإحاطة بالصراعات والتحولات الاجتماعية والسياسية من النص السياسي الصرف
مثل أي مراهق عربي، كانت لي محاولات شعرية لم تعمّر بعد المدرسة الثانوية. لكن ولعي الأول منذ أيام الدراسة كان بالفن التشكيلي، ما دفعني، في خواتم المرحلة الثانوية، إلى دراسة الفن في معهد فني بمدينة مانشستر نهاية الخمسينيات، ثم اكتشفت الاشتراكية والماركسية، وقررت دراسة الاقتصاد والسياسة.
لم تقتصر كتاباتي على السياسة. مع أن كتاباتي السياسية موزعة على عدة مؤلفات ومجموعات مقالات في السياسة اللبنانية والعربية والدولية مع وفرة من المقالات والأبحاث عن ثورات العام 2011، إضافةً إلى عدة مؤلفات تلامس السياسة دون أن تنحصر بها: نقد الأيديولوجيا اللبنانية من خلال فكر ميشال شيحا (1998)؛ إلى هذا، ألهمتني مشغرة دراسة في الأنثروبولوجيا بعنوان "يا قمر مشغرة: المحسوبية، والاقتصاد، والتوازن الطائفي" (2004)، وفي الاجتماعيات أصدرت "الطبقات الاجتماعية والسلطة والسياسة في لبنان" (2016) إلخ..
أثناء التفكير في أجدى وسيلة للتعبير عن تجارب الحرب والثورات، توصّلت إلى أن التعبير الأدبي والفني أقدر على الإحاطة بالصراعات والتحولات الاجتماعية والسياسية من النص السياسي الصرف. وأدركت عكسًا أنه يمكن قراءة تلك الصراعات العنيفة والتحولات الجذرية من خلال تعبيراتها في الأدب والفن.
قرأت تحولات المجتمع والسلطة في لبنان بين حربين أهليتين (1958 – 1975) من خلال مسرح الأخوين رحباني وفيروز "فيروز والرحابنة: مسرح الغريب والكنز والأعجوبة" (2006)، وفي مقالات وأبحاث في الثقافة الشعبية في "إن كان بدّك تعشق" (2004). في "غيرنيكا – بيروت: الفن والحياة بين جدارية لبيكاسو وعاصمة عربية في الحرب" (1987) قرأت جدارية بيكاسو الشهيرة بعيون شاهدت حربًا أهلية، وختمت بمقارنة بين مقاطع من جدارية عن الحرب ومشاهد من مدينة في الحرب.
واصلت الإنتاج عن الحروب الاهلية والعنف في "دم الاخوين: العنف في الحروب الاهلية" (2017) من خلال أعمال هاينر موللر، ومحمد الماغوط، ولوحات كارافاجيو، وفيلم عن حصار ساراييفو البوسنية، والتعريف بطائفة الكاثار الفرنسية، وملصقات الحروب اللبنانية، وتاريخ القصف الجوي ضد المدنيين، وغيرها. وفي اليوميات، كتبت عن حصار الجيش الإسرائيلي لبيروت صيف 1982 في "عن أمل لا شفاء منه" (1984)، وعن زياراتي لليمن في "وعود عدن" (2000). ونشرت مختارات من أعمال مجهولة لأحمد فارس الشدياق، مع عزيز العظمة (1995) مساهمةً في التعريف بهذا الكبير المنسي بين شخصيات النهضة العربية في القرن التاسع عشر. وفي كل هذا، أدين بالكثير الكثير إلى صديقي وأخي الناشر والصحافي رياض الريّس صاحب الدور الأكبر في تحريضي على التأليف والنشر وملاحقتي على التنفيذ.
طرابلسي: أتصور الرأسمالية والماركسية بطلين تراجيديين مثل أبطال التراجيديات الاغريقية، في مبارزة لا متناهية بينهما لن تنتهي إلا بمصرع الاثنين.
لا تراودني كتابة الأدب لذاته. لست أملك الموهبة ولا القدرة لكتابة رواية، مع ثقتي بأن أفضل نوع أدبي للتعبير عن الصراعات والتحولات المجتمعية هو الرواية. أتوسل الأسلوب الأدبي من أجل أفضل أداء في المواضيع التي أكتب عنها. ترجمت الشعر الحديث من وإلى العربية، كما ترجمت أعمالًا ثقافية وأدبية لإدوارد سعيد وإتيل عدنان وجون برجر وآخرين.
كتبت في النقد الأدبي والفني على سبيل الهواية. وحظيت بصداقة شعراء وأدباء وفنانين أقدّر نتاجهم وأشخاصهم وأعتز بصداقتهم. وأنا أصدر منذ عقد من الزمن فصلية ثقافية اسمها "بدايات". أتابع ما استطعت في الشعر والرواية والمسرح والفن والنقد. وأنا محاط بأسرة تتعاطى الفن. شقيقتي آمال تدير "غاليري" للأعمال الفنية في بيروت، وزوجتي نوال عبود فنانة ترسم كالأطفال للأطفال، وكلانا يتابع بشغف وإعجاب شغل ابنتي جنى في الرسم والتصميم الغرافيكي.
3- الصورة باللون الأحمر
- بما أننا نراوح بين الماضي والحاضر، اسمح لنا أن نسألك عن صورة الفتى بالأحمر: ما الذي تبقى منها؟ لبنان الاشتراكي، منظمة العمل الشيوعي، الحرب الأهلية، ظفار، اليمن، وغيرها. ما الذي تبقى من صورتك في تلك المرحلة؟ ما الذي ظل ثابتًا؟ وما الذي تغيّر أيضًا؟ ولماذا؟
عايشت عدة ثورات مباشرة، وشاركت ببعضها. وقد شهدت على تلك التجارب وراجعتها نقديًا في "جنوب اليمن في حكم اليسار: شهادة شخصية" (2015) بمساعدة الروائية والمناضلة بشرى المقطري، وفي "ظفار: شهادة من زمن الثورة" (2003)، وفي كتابات عديدة في القضية الفلسطينية والمقاومة الفلسطينية وغيرها.
لم أكتفي بالشهادة والمراجعة لتجاربي، بل حرصت أيضًا على تحرير ونشر شهادات لتجارب رفاق من المناضلين اليساريين العرب، بينهم اليمني جار الله عمر، واللبناني جورج البطل.
أشدد على الشهادة والمراجعة، أي على تقييم تلك التجارب وتعيين الأخطاء المرتكبة في سياسة معينة وأسبابها، وتعيين المسؤول أو المسؤولين عنها. لست مقتنعًا بالنقد الذاتي لأنه طقس تكفيري لا يفسّر الخطأ، ولا يتضمن في العادة استعداد من يمارسه، فردًا أو جماعة، لتحمّل المسؤولية أو التعرّض للمحاسبة. ينتهي مفعول النقد الذاتي عادةً بمجرد الإدلاء به. كما أنني لست معجبًا بفعل الندامة، فمثله مثل نقيضه الذي يتباهى بتبني التجربة بحرفيتها لو قدّر لها أن تتكرر. أما اعتبار أن عكس الخطأ في الممارسة السياسية والمجتمعية هو الصح، فطقس بليد لا يثبت بذاته صحة الصح.
طرابلسي: لست مقتنعًا بالنقد الذاتي لأنه طقس تكفيري لا يفسّر الخطأ، ولا يتضمن في العادة استعداد من يمارسه، فردًا أو جماعة، لتحمّل المسؤولية أو التعرّض للمحاسبة
خلاصة تجربتي في اليسار الشيوعي و"اليسار الجديد" تقول إنهما ينتميان بالجملة إلى مرحلة انقضت هي مرحلة التحرر الوطني التي لا تزال تهيمن على الوعي والرؤية لديهم. واليسار الآن بقايا أحزاب وتنظيمات معظمها انشق تحت وطأة الانهيار السوفييتي بين مكوّنين رئيسيين: المكون القومي، والغالب عليه عداء بدائي للاستعمار الكولونيالي، والأحرى لأميركا، أكثر مما هو عداء للإمبريالية الجديدة والرأسمالية النيوليبرالية، من جهة. والمكون الليبرالي، أكثر مما هو ديمقراطي، داعية تعددية، أكثر منه داعية مساواة سياسية وقانونية، شديدة التأثر بالثقافوية وسياسات الهوية ومقولات "المجتمع المدني" والرأسمالية النيوليبرالية.
والتشديد هنا على أنه لا وجود ليسار واحد. اليسار متعدد، كما في كل مذهب أو تيار، وقد انتهى عهد احتكار المرجعية على أمل استكمال ذلك بالقضاء على منطق التكفير بين اليساريين. رأيت في ثورات 2011 فرصة كبيرة لليساريين كي يلتقطوا أسباب وآليات وخصائص تلك المرحلة، ويعيدوا تأسيس تنظيماتهم وإنتاج رؤية يتعاقدون عليها وبناء قواهم وتجديد قواعدهم الاجتماعية. فالمؤكد أن الثورات والانتفاضات مناسبات استثنائية لكشف أعماق السلطة والمجتمع وآليات تشغيل هذه وذاك. كانت تلك فرصة ضائعة ولا يزال ثمة دور ينتظر من يضطلع به.
ولا أزال مقتنعًا بأن اليسار، واليسار الماركسي خصوصًا، هو الأقدر بين المذاهب والتيارات المعاصرة على فهم عالمنا المعاصر، وخصوصًا هذا الطور الأخير من الإمبريالية والرأسمالية. إلا أن ذلك يقتضي الاستعداد للبدء من البداية في إنتاج رؤية للوضع العربي الراهن تستجيب لتحديات المرحلة الجديدة، رؤية لا تقضي على الخاص بحجة العام. أي لا تستسلم للتعميمات على مجمل العالم العربي، الصادرة عن المؤسسات الدولية أو الأكاديميات الأميركية: من تعميم نمط إنتاج كولونيالي على المنطقة، بحجة أن فلسطين لا تزال تحت الاحتلال الاستيطاني، إلى التصنيفات الاختزالية المختلفة للاقتصاد، الريعية والباتريمونيالية وأخواتها، المبنية على تعميم تجربة الدول النفطية، والكل للتغطية على عولمة الرأسمالية وحقبتها النيوليبرالية.
بعبارة أخرى، الصراع الفكري موجود ومحتدم مقدمة لبلورة الرؤية الجديدة التي ترقى إلى مستوى مواجهة تحديات العولمة والطور الجديد من الرأسمالية في وقعهما على العالم العربي. ومن أبرز التحديات الإضافية المطلوب هنا التفكّر بها نجاح الولايات المتحدة لأول مرة في عقد علاقات تحالف بين قاعدتيها في المنطقة: الأنظمة النفطية وإسرائيل. وهو منعطف تاريخي لا يختزل بالتطبيع، ولا تنحصر آثاره قطعًا بالقضية الفلسطينية.
لا أزال أرى إلى صورتي باللون الأحمر، مع أن النشيد الذي أحب وتدمع له عيناي هو نشيد "موطني".
كانت الماركسية ولا تزال مرجعي الفكري الأول. أقصد نقطة الانطلاق الرئيسية في الجهد النظري لا نهاية المطاف. الماركسية نظرة شاملة إلى العالم تنطوي على فلسفة واقتصاد وتاريخ واجتماع، وهي تشكل أبرز تراث فكري لفهم الرأسمالية في اتجاهاتها وتحولاتها وقوانينها.
ليس غريبًا أن رجال الأعمال اليابانيين يقرأون "رأس المال" ماركس ليساعدهم على فهم آليات تشغيل الاقتصاد الذي يترأسون عليه. ولا عجب أن يكون السيد فوكوياما قد تراجع عن نظرية نهاية التاريخ وأبدية النظام الرأسمالي، في استدارة نقدية ضد النيوليبرالية، وأخذ يدافع عن ضرورة تدخل الدولة في التوزيع الاجتماعي لتعديل الفوارق بين الطبقات. ولعل في ذلك ما يجب أن يشجّعنا نحن أبناء القارات الثلاث أن لا نهلط كل ما يأتي من فكر أو نقد قبل أن يمتحنه الزمن.
أتصور الرأسمالية والماركسية بطلين تراجيديين مثل أبطال التراجيديات الاغريقية، في مبارزة لا متناهية بينهما لن تنتهي إلا بمصرع الاثنين.
أسترشد بما أسميه "الماركسية العملية"، أي ما يمكن استنسابه من التراث الماركسي، بكل موارده ومدارسه وتياراته، من مفاهيم وتجارب لإنتاج معارف عن أوضاعنا العربية. وهذه بعض نقاط الاستدلال:
- أبرز ما أنتجه ماركس يتخطى التناقض بين تطور قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج. إنه الفكرة التي تقول: بفضل الرأسمالية والتطور العلمي والاقتصادي، بات العالم قادرًا على أن ينتج ما يفي الحاجات الضرورية لجميع سكانه. ولكنه في ظل سيادة السوق ومبدأ الربح والملكية الفردية، لا يزال يعرف المجاعات، وتنامي الفوارق بين القارات، وبين المداخيل والثروات والموارد. وقد بلغ هذا التناقض ذروته الفاضحة في العصر النيوليبرالي، حيث يملك 62 من أثرى الاثرياء ما يزيد عما يملكه ثلاث مليارات من البشر.
- التناقض بين الفرد والمجتمع مقولة خصبة في الماركسية تقدّم الدليل على كيفية تجاوز قطبي المعادلة السائدة: إما سحق المجتمع للأفراد في المذاهب القومية والشمولية، وإما الفردانية الليبرالية الواهمة بأنه يمكن للأفراد أن يولدوا وينموا خارج العلاقات المجتمعية وأحكامها، أو بالضد منها.
طرابلسي: اليسار، واليسار الماركسي خصوصًا، هو الأقدر بين المذاهب والتيارات المعاصرة على فهم عالمنا المعاصر
- الديمقراطية ثورة بذاتها وإنجازًا تاريخيًا بذاته تحقق المساواة السياسية والقانونية بين مواطنين في الدولة. لم تأت تاريخيًا على يد البرجوازية، على عكس ما يروج له ليبراليون وماركسيون معًا. نشأت وتراكمت وهيمنت بواسطة الثورات والحركات الشعبية ضد الرأسمالية، وانتهت إلى مساومة تاريخية شرعّت الحرية والمساواة السياسية والقانونية في الدولة، وكرّست وحمت اللامساواة في المجتمع المنقسم إلى طبقات وأشكال تراتب وتمييز مختلفة. وهذا التناقض بين المساواة في الدولة وعدم المساواة في المجتمع ينخر المساواة في الدولة بتقييد الحريات والحقوق السياسية والقانونية وإخضاعها لسلطة المال. وقد تصور ماركس وإنغلز أن يكون حل هذا التناقض هو الانتقال من الديمقراطية السياسية والقانونية إلى الديمقراطية الاجتماعية، التي هي الاسم الآخر للمساواة الاجتماعية، أي الاشتراكية.
- في المادية التاريخية، يمكن الانطلاق من الرفيق ابن خلدون: "إن اختلاف الأجيال في أحوالهم إنما هو باختلاف نحلتهم من المعاش". وقد أضاف ماركس إلى إنتاج المعاش "إنتاج الحياة الحقيقية"، أي دور المرأة في التاريخ. وفي أبرز تطويراته باتت تتخطى التحديد الاقتصادي، أي تفسير الحياة والمجتمع والسلطة وفق مبدأ تفسير وتسيير واحد. بل يزداد الاهتمام لدى الماركسيين بما يسمّى "التحديد المضاعف" الذي يجدل الاجتماعي والسياسي والثقافي في دراسة الرأسمالية. وكم هو معبّر أن نُقّاد المادية التاريخية المعاصرين، الذين يرفضون أحادية العامل الاقتصادي في تفسير الحياة والتاريخ وتسييرهما، ينتهون في معظمهم إلى الأخذ بالتحديد السياسي، أي القول بمبدأ تفسير وتسيير أوحد للحياة والتاريخ هو السياسة، وهي نظرية تقع في مجملها في أسر الليبرالية الجديدة.
- على عكس ما ينسب إلى الماركسية من تتابع حتمي لأنماط الإنتاج، أبان إنغلز في التأريخ للإمبراطورية الرومانية كيف يمكن لنمط إنتاج أن يدمّر نفسه بنفسه دون أن يفضي إلى نمط إنتاج جديد وتشكيلة اجتماعية أرقى. ومن هنا الخيار التاريخي الفاجع الذي أطلقه ماركس وإنغلز، وتستعيده روزا لوكسمبورغ: "الاشتراكية أو البربرية!". وأحسب أننا نقارب هذه الاخيرة في عهد التوحش النيوليبرالي.
- كل المجتمعات منقسمة إلى طبقات تتعايش – ولو بنسب متفاوتة - مع مراتب وتكوينات أخرى مثل القوميات والأعراق والإثنيات والمذاهب الدينية والأقليات المسيّسة وسواها. والصراع بين الطبقات، الخفي منه والسافر، ليس يختصر الصراعات السياسية والاجتماعية، لكنه قائم وفاعل ومتفاوت القوة والأثر، يتدخل فيها جميعًا ويتقاطع معها ويتغذى منها. وغالبًا ما يمارَس الصراع الطبقي من فوق لتحت أكثر مما يمارس من تحت لفوق. صدق الأميركي وارن بافت، رابع أغنى أغنياء العالم، إذ قال إنه لا يعترف فقط بوجود "حرب طبقية"، بل يؤكد أن طبقته، طبقة الأغنياء، هم الذين يخوضون تلك الحرب وينتصرون فيها. ومن يرد مثالًا عينيًا راهنًا عن حرب طبقية تشنها طبقة حاكمة بمكونيها الاقتصادي والسياسي، فليتابع سطو الأوليغارشية اللبنانية على أموال اللبنانيين وعلى حياتهم ومستوى معيشتهم ومستقبلهم في الأزمة متعددة الأوجه المستمرة منذ العام 2019.
طرابلسي: الديمقراطية نشأت وتراكمت وهيمنت بواسطة الثورات والحركات الشعبية ضد الرأسمالية، وانتهت إلى مساومة تاريخية شرعّت الحرية والمساواة السياسية والقانونية في الدولة
- في نظرتها إلى الدين والتديّن، تتجاوز الماركسية النظرة العقلانية المجرّدة القائمة على معادلة "ظلمات الجهل يبددها نور العلم". تثير حاجة البشر إلى الدين، حاجة المقهورين إلى العزاء وإلى تحمّل العوز والقهر والألم ("لا تهملني لا تنساني، يا شمس المساكين" تصلّي فيروز). تعترف الماركسية بهذا الوجه من الدين، وتؤكد التناقض القائم في كل الديانات: إنها تفرض الاستكانة بل الامتثال، قدر ما تحرّض على الثورة على الظلم والاستغلال. ثم إنها تحوي أقوى وأبلغ تسويغ للعنف والقتل، مثلما تحوي أعظم الدوافع للتضحية والغيرية والتضامن الإنساني.
- لا يكفي التنوير في الدين، الحاجة ملحة للتثوير. وهؤلاء هم بعض الثوار المعاصرين: فقه التحرير في أميركا اللاتينية، محمد محمود طه السوداني، وعلي شريعتي الإيراني.
- المهتمّون الجدّيون بالتغيير السياسي والاقتصادي والاجتماعي لا يمكنهم الاستغناء عما تحويه الماركسية من تراث زاخر في نظريات وتجارب الثورة، والتحرر الوطني والاجتماعي، والتوحيد القومي، والتغيير السياسي والاجتماعي، والحركات الاجتماعية، والتجارب النقابية والتعاونية.
- أخيرًا ليس آخرًا، تثير الماركسية الإشكالية الوجودية الكبرى للاجتماع البشري، إشكالية العلاقة بين الحرية والمساواة، وإن تكن ليست تحمل وحدها وسائل معالجتها أو التعبير عنها.
4- المرحلة الجديدة والثورات
- ذكرنا للتوّ أحداثًا وعناوين مختلفة رسمت فصلًا مهمًا من تاريخ المنطقة. والآن، هناك أحداث جديدة تُحاول رسم فصل جديد لتاريخ المنطقة؛ ثورات شعبية وثورات مضادّة واضطرابات لا تعد ولا تحصى. كيف ينظر فوّاز طرابلسي إلى هذه الأحداث؟
افتتح العام 2011 أشكالًا جديدة من الاحتجاجات والانتفاضات الشعبية، مع أنها لم تكن دون مقدمات وسوابق. كانت ثورات بمعنى أن نواياها المعلنة إسقاط الأنظمة بواسطة الضغط الشعبي "الشعب يريد إسقاط النظام". وقد أدّت في بعض الحالات إلى ما تؤدي إليه الثورات عادةً: عسكرة الاحتجاج والاقتتال الأهلي.
- اندلعت الانتفاضات في سياق ردود الأفعال الشعبية على فرض إعادة الهيكلة الاقتصادية وإطلاق قوى الأسواق على غاربها والخصخصة وسائر الإجراءات النيوليبرالية، خصوصًا بُعيد الأزمة العالمية الكبرى التي ضربت النظام العالمي العام 2008. ومن نتائجها عربيًا: تقلص التوزيع الاجتماعي، بما فيه دعم المواد الغذائية والمحروقات، وانهيار الخدمات العامة، واقتحام الرأسمالية والخصخصة ميادين التعليم والصحة والسكن، ونمو البطالة وانسداد آفاق العمل والمستقبل أمام الشباب، واتساع الهجرة الريفية مع ضمور القطاع الزراعي، وارتفاع معدلات الفقر، وانخفاض مستوى المعيشة لدى الطبقات المتوسطة، وتنامي الفوارق الطبقية والمناطقية على نحو غير مسبوق في التاريخ، وغيرها. وهذه ظواهر لم تأخذ نصيبها من البحث والمراجعة والتقييم واستخلاص الدروس نظرًا الى شحّة ما صدر عن القوى التي خاضت الانتفاضات.
طرابلسي: تثير الماركسية الإشكالية الوجودية الكبرى للاجتماع البشري، إشكالية العلاقة بين الحرية والمساواة، وإن تكن ليست تحمل وحدها وسائل معالجتها أو التعبير عنها
- لعبت القوى الإقليمية والدولية دورها في الانتفاضات منذ البداية. وهذا أمر نادرًا ما يؤتى على ذكره، اللهم إلا عن طريق أصحاب نظريات المؤامرة. خلافًا لاتهامات معارضي الانتفاضات بأن الولايات المتحدة طبّقت بواسطتها سياسة "الفوضى الخلاقة"، كان المبدأ الأول للإدارات الاميركية المتعاقبة هو الحفاظ على الأمر الواقع المحلي والإقليمي: أمن حدود إسرائيل، واتفاقات السلام مع إسرائيل، وحماية الأنظمة التابعة، وخصوصًا تحصين أنظمة حكم الأوليغارشيات النفطية. وحيث وقعت الانتفاضات، في الأنظمة الصادرة عن حركات التحرر الوطني، اعتمدت سياسة التعديل/الإصلاح في الأنظمة، بواسطة تنحي الرئيس واستبداله بنائبه وتنظيم انتخابات نيابية كان واضحًا أنها ستأتي بالتنظيمات الإسلامية – أي بـ "الإسلام المعتدل" – إلى الحكم. وهي سياسات انحكمت بالدرجة الأولى بالاستراتيجية الأميركية الشاملة عن الحرب الكونية ضد الإرهاب.
طُبّقت هذه السياسة في تونس ومصر والمغرب، وحظيت بدعم من الجيش وبتدخل إقليمي سعودي وإماراتي. وانتكست الانتفاضات إلى حروب داخلية وإلى تدخلات عسكرية دولية واقليمية، عندما انكسر الجيش في ليبيا وسورية واليمن. ومع أن الولايات المتحدة دعمت فئات من المعارضة السورية، لم يصل بها الأمر الى أبعد من البحث عن بديل للأسد من داخل السلطة. والعامل الحاسم في ذلك هو القبول بأن النظام السوري نجح في أن يقدّم حربه ضد قسم كبير من شعبه على أنها "حرب ضد الإرهاب". وقد استدرج النزاع السوري تدخلات إقليمية خليجية وتركية داعمة لقوى المعارضة المسلحة بما فيها التنظيمات الجهادية، ومعها التدخلات الدولية المباشرة من الولايات المتحدة حماية للشريط الذي تسيطر عليه التنظيمات الكردية، كما تدخلت القوات الروسية والميليشيات الموالية لجمهورية إيران الإسلامية لإنقاذ نظام بشار الأسد. الأمر نفسه يمكن أن يقال بالنسبة إلى اليمن، حيث جرى استبدال الرئيس بنائبه، بناءً على مبادرة "مجلس التعاون الخليجي"، برعاية الولايات المتحدة والمؤسسات الدولية، أعطت صلاحيات استثنائية للرئيس وهمّشت الحكومة الائتلافية التي تضم أطراف الازمة. وأُعيد تنظيم المقاطعات اليمنية بتجاهل واضح لأبرز مطالب مكونين مسلّحين في الأزمة: "أنصار الله" في صعدة، و"الحراك الجنوبي" في المحافظات الجنوبية. ومن تداعيات هذا الحل سقوط السلطة في صنعاء ومعظم الشمال بيد الحوثيين، وسيطرة الحراك الجنوبي على المقاطعات الجنوبية، واندلاع حرب استدرجت التدخل السعودي والإماراتي والإيراني معًا.
وفي السودان، انتهى التدخل السعودي الإماراتي، المدعوم من الولايات المتحدة وبريطانيا وإسرائيل، إلى دعم انقلاب عسكري أطاح بالرئيس عمر البشير، ومهّد الطريق أمام شراكة عسكرية – مدنية، تحت ضغط الانتفاضة الشعبية، لكنه كرّس، في المقابل، حضور الجيش البديل "ميليشيا الجنجويد" في رأس السلطة.
أشدد على هذا الدور الخارجي من أجل قياس مبلغ المراهنة الواهمة على القوى الخارجية و"المجتمع الدولي" و"الرأي العام الدولي" التي راجت في الانتفاضات، والتحذير من مغبة التعويل عليهما، ما أفقد الحركات الشعبية استقلاليتها وحرية الحركة. وهي دعوة للاعتماد على الذات وتنمية القوى الذاتية لتيار الحرية والتغيير، وقياس قواه الفعلية بناءً على ما يستطيع ولا يستطيع تحقيقه.
- الاختلاط بين الردة السلطوية ضد الانتفاضات والردة الجهادية، ما اضطر الانتفاضات إلى أن تقاتل على جبهتين، ومن نتائج ذلك اضعافها عمومًا واضعاف وجهها المدني والديمقراطي مع انحياز فصائل متزايدة منها إلى المعسكر الجهادي، كما في الحالة السورية مثلًا.
طرابلسي: المراهنة على القوى الخارجية والمجتمع الدولي والرأي العام الدولي التي راجت خلال الانتفاضات أفقد الحركات الشعبية استقلاليتها
- الانشقاق في الانتماء المجتمعي والأهداف والوجهة في صفوف الانتفاضات بين الطبقات المتوسطة، وقطاعاتها المتعلمة والحداثية من جهة، والقوى العاملة والريفية والطرفية والمفقرة من جهة أخرى. وقد تجسد هذا الانشقاق إلى حد كبير، دون أن يتطابق، في ثنائية "مدني/إسلامي". وبلغ تدهور النزاع بين القطبين إلى حد انحياز قطاعات من الثوار إلى الحكم الاستبدادي العسكري في بعض الأحوال، مصر وتونس مثلًا.
- سيادة رؤية وأهداف ووسائل عمل في القسم المدني من الانتفاضات مستمدة في معظمها من أفكار بعد الحداثة والمفاهيم ووسائل العمل التي راجت إبان فترة سقوط الأنظمة الأوروبية الشرقية، تضاف إليها حملات الترويج للديمقراطية الأميركية وأيديولوجيا منظمات المجتمع المدني. وهذه أبرزها:
أولًا، مع أن الأهداف الأصلية المشتركة بين كافة الساحات العربية المنتفضة – عيش/عمل، حرية، عدالة اجتماعية – حملت بذاتها رؤية عميقة لأسباب الانتفاضة، إلا أنها أُهمِلت في مجرى الاحتجاج وغلبت السياسة ووجهها الأبرز، العداء للدولة باسم رفض "السلطوية" والدعوة إلى إسقاط الأنظمة، واختفت معها المطالب الاجتماعية والمعيشية.
ثانيًا، غياب الاستراتيجية. حل محلها مطلب التغيير. تغيير ماذا؟ ما الأولويات؟ التغيير بواسطة أي قوى؟ وبأي وسائل؟ في ظل أي ميزان قوى مع السلطة والطبقات الحاكمة؟ وذلك في غياب تشخيص يسمح بتقدير حجم الأزمة، والقوى التي أطلقتها، والوضع الفعلي للسلطة وتعيين بالتالي طبيعة التغيير الممكن: فهل أن الأزمة تتيح الاستعداد لتسّلم الحكم (وبأية وسائل؟) أو تنظيم مقاومة لصد هجوم من الطبقة الحاكمة، أم أن الإمكانات مفتوحة فقط أمام تحقيق إصلاحات (وما هي؟).
ثالثًا، النفور من التنظيم ومن الأحزاب ومن القيادة باسم نزعة فردانية تزداد انتشارًا بين الشباب ("بيننا مليون قائد" في مصر؛ أو "أنا القائد" في لبنان؛ ورفض المطالبة والبرامج ("ننتزع ولا نطالب" في لبنان). ولعل أبرز المفارقات أن منظمات المجتمع المدني التي تبشرّ بالديمقراطية وتعادي الأحزاب والنقابات في آن نادرًا ما يرد في ورشاتها وتمارينها أن منظمات المجتمع المدني في بلدان المنشأ الأوروبية والأميركية ليست هي أدوات التغيير، بل أدوات التغيير هي الأحزاب السياسية ترفدها قوى شعبية ضاغطة منظمة في حركات اجتماعية ونقابات عمالية واتحادات مهنية!
طرابلسي: المبدأ الأول للإدارات الاميركية المتعاقبة هو الحفاظ على الأمر الواقع المحلي والإقليمي: أمن حدود إسرائيل، واتفاقات السلام معها، وحماية الأنظمة التابعة
رابعًا، وحدانية التكتيكات: مقولة "احتلال الفضاء العام" (المستعارة من نظرية هابرماس حول الانتقال إلى الديمقراطية مع أن الرجل أكّد أنها لا تنطبق إلا على أوروبا!!) وقد عبّرت عن نفسها بتكتيك تحرير ساحات من سلطة الدولة – ميدان التحرير بالقاهرة، ساحة الساعة بحمص، ميدان التغيير بصنعاء، شارع بورقيبة بتونس، ساحة الميدان بالخرطوم، ساحة الشهداء ببيروت، إلخ – وملحقها في الحالة اللبنانية: تطويق ساحة البرلمان بدافع من وهم أنه يكفي لفرض استقالة حكومة أو حتى تغيير نظام. وهو تكتيك مبني على ما تروجه ورشات منظمات المجتمع المدني عن انهيار أنظمة أوروبا الشرقية بواسطة تطويق البرلمانات بالتظاهرات الشعبية. وهي رواية لا تتطابق مع مجريات الأمور. فمثلًا، سقط الرئيس الموالي للروس في "ثورة الميدان" بأوكرانيا عام 2014 عندما احتلت "كتيبة آزوف" اليمنية المتطرفة عدة بنايات حكومية في العاصمة، واقتحمت البرلمان بالسلاح، واعتقلت أكثرية النواب. وفي الحالات الأخرى، سلّم بيروقراطيون السلطة السياسية لأحزاب معارضة طوعًا بعد انهيار ألمانيا الشرقية، وقد احتفظوا بحصص كبيرة من المؤسسات المؤممة.
خامسًا، الدور المتناقض للإعلام ولوسائل الاتصال المجتمعية في الانتفاضات. لا شك في أن هذه لعبت دورًا كبيرًا في تأمين الربط بين الساحات والتواصل والتبليغ والتعبئة. لكنها شكلت في الآن ذاته بيئة تلغي الفواصل بين الافتراضي والواقع، بين المتخيّل والممكن، بين الكلمة والفعل، وتروّج للسائد عالميًا: الفردانية الجامحة والثقافوية وسياسة الهويات.