"أخجلُ من لغتي العربية المكسّرة، من لكنتي السخيفة، ومعجمي الذي لا يتعدى لائحة طلبات البقالة.. إنه لأمرٌ غبي أن يرهب المرء الحديث بلغته الأم"؛ بهذه الكلمات افتتح الكاتب الصحفي الفرنسي، نبيل واكيم، كتابه "العربية للجميع: لماذا لغتي تابو في فرنسا؟" الصادر حديثًا عن منشورات Seuil بباريس. واصفًا بها الشرخ العاطفي الذي يرزح تحت ثقله، هو بوصفه من أصول لبنانية، إزاء لغته العربية التي ضاعت منه في غفلة، في مكان ما بين الرابعة من عمره و سن الأربعين.
يحضر معنا نبيل واكيم متحدثًا، في حوار خص به "ألترا صوت"، والذي نحاول من خلاله رسم بورتريه للغة العربية في فرنسا
فيما ليس هو الوحيد الذي يكابد هذه الأحاسيس المتضاربة، هذا ما نقرأ في الكتاب، بل هي حالة عامة تصف العلاقة المرتبكة بين أبناء جيل من العرب في المهجر الفرنسي، أغلبهم فتح أعينه لأول مرة تحت سماء الجمهورية، أدرك نفسه على لسان الآخر كـ "عربي عفن!"، غير أن هذه الهوية بقيت ممتنعة بنقصانها اللسان الناطق بلغتها الأم. نقصانٌ يبحث واكيم عن علته في مساحتي بحث مختلفتين، مترابطتين بشكل جدلي. أولهما يمتدُّ على طول تجربته الحياتية، في عالمه الداخلي وذاكرته محاولًا أن يستخرج منها الأدلة اللازمة للإجابة. أما الثاني فموضوعي، كون اللغة سؤال سياسي، واقفًا على أوليات الرفض والتنميط السياسي الفرنسي للغة العربية.
اقرأ/ي أيضًا: "اليسارية الإسلامية" عوضت " البلشفية اليهودية".. دومينيك فيدال يكتبُ
هكذا، وعن إصداره الجديد والنهايات التي توصل إليها عبر بحثه، يحضر معنا نبيل واكيم متحدثًا، في حوار خص به "ألترا صوت"، والذي نحاول من خلاله رسم بورتريه للغة العربية في فرنسا.
- "اللغة العربية تابو في فرنسا"، لنقتبس هذا الجزء من عنوان كتابكم الأخير، ولنطرح السؤال: تابو بالنسبة لمن؟
الحقيقة أن اللغة العربية في فرنسا تابو مزدوج: بالنسبة للعائلات المهاجرة وأبنائها، هي اللغة المخجلة، التي لا نستطيعُ التحدث بها في الفضاء العام، في المدرسة أو مكان الشغل، مع أنها ثاني أكثر لغة محكية في البلاد! هي أيضًا تابو سياسي: كل مرة يقترحُ فيها مسؤولٌ سياسي تدعيم تعليم اللغة العربية، تقابلهُ ردات فعلٍ مستهجنة، مرفوقة بعدد من الصور النمطية الكريهة. فكلما تقدمنا باقتراح تدريس اللغة العربية في المدارس، ينهال علينا اليمين المحافظ بالهجوم، دافعًا بالفكرة العبثية "أن تدريس العربية أداة لخلق المتطرفين والمتشددين دينيًا"، فيما الحقيقة التي نعتقد بها، هي أن تدريس لغة حيّة هو في ذات الوقت فرصة جديدة وثراء معرفي وثقافي.
- في كتابكم "العربية للجميع"، يتأرجح النص بين أسلوبين أساسيين: الأول سيري، شاعري أكثر، ينطلق من ذاتكم وتجاربكم الشخصية. والثاني تحليلي واستقصائي، ينطلق من الواقع الموضوعي بإشراك الحد الأدنى من الذاتية. سيد نبيل، ما كانت دوافعكم لكتابة هذا الكتاب؟ وما السرّ في اختياركم لهذا الشكل من الكتابة؟
أنا لبناني، هاجرت مع عائلتي إلى فرنسا وأنا في الرابعة من عمري. فاللغة العربية هي لغتي الأم، التي فقدتها في مكان ما بين سن الأربع سنوات والأربعين سنة. فوددت أن أبحث في الأسباب الخاصة الذاتية والعامة السياسية التي أبعدتني عن لغة آبائي وأجدادي.
هكذا أخذت في استجواب عائلتي الصغيرة وأقاربي عن الكيفية التي أبعدت بها العربية من حياتي. كما توجهت بذات الأسئلة إلى من هم مثلي، أبناء لعائلات مهاجرة من المغرب الكبير والشرق الأوسط، والذين يعانون بالمثل من صعوبات إزاء اللغة العربية. وبحثت مع مختصين في اللسانيات والعلوم الاجتماعية عن الأسباب التي تجعل لغة تحظى بقيمة اجتماعية أكثر من أخرى. في النهاية اكتشفت أنني لم أكن الوحيد الذي يطرح هذه الأسئلة بخصوص لغته الأم.
من هذه الدوافع تشكّل التصور العام للكتاب، الذي أخوض من خلاله في سيرتي الذاتية وعلاقتي الشخصية بالعربية، باحثًا في الكيفية التي فقدت بها لغتي الأم. وفي نفس الوقت، أمارس فيه الاستقصاء الصحفي لتسليط الضوء على الانسداد الحاصل في علاقة فرنسا بهذه اللغة. آملًا لهذا المزيج، بين ما هو ذاتي وموضوعي، في التعاطي مع القضية أن يساهم أكثر في فهم سؤال اللغة، كونها موضوع شخصي وخاص، وفي نفس الوقت قضية سياسية عامة.
- هل هذا يعني أن القلب للغة العربية والعقل للغة الفرنسية؟
لا أعتقد هذا، فالأمر لا يتعلّق بموقف محدد، وأقل من ذلك بموقف جمعي. ما لاحظته كان ببساطة أن عددًا كبيرًا من العائلات ذات الخلفيات العربية يرفضون نقل اللغة العربية لأبنائهم كلغة حيّة، لغة مهنية وتعليمية.. ربما مردّ ذلك إلى الصورة النمطية السيئة اللصيقة باللغة العربية، لكن كذلك لغياب البنيات التي تسمح بتعلّمها بشكل جيد.
- كيف تفسرُ عودة أبناء الجالية المهاجرة، خصوصًا من الجيل الثاني والثالث منها، إلى اللغة العربية؟
أنا ابن عائلة مهاجرة، والآن أصبحت أبًا من أصول مهاجرة، لي ابنة أريد أن تكون العربية جزءًا من حياتها وثقافتها. وأظن أن عددًا كبيرًا ممن هم في نفس وضعيّتي يطرحون نفس السؤال الذي كتبت من أجله: كيف أنقل لأبنائي لغتي الأم التي لا أتكلّمها؟
وصحيح أنني كبرت في فرنسا، لكني أريد للغة العربية أن تكون جزءًا من عالم ابنتي ومن حياتها. والأمرُ هنا لا يتعلق بحزن أو بحسرة على فقداني اللغة العربية، لكن بوعي تام بانتمائنا كفرنسيين لهذه اللغة، بنفس قدر انتمائنا للفرنسية، وأن العربية جزء من ثقافتنا المشتركة. لا يجب على الجيل الثاني والثالث من المهاجرين محو أصولهم، بل على العكس، يجب في استطاعتهم تنميتها وإغنائها على التراب الفرنسي.
- هل يمكننا الحديث عن وجود معاداة للغة العربية بفرنسا؟
صحيح، فمنذ زمن طويل وفرنسا تعرف عنصريّة تجاه اللغة العربية، وهذا ليس بالشيء الجديد، لكنه بلغ ذروة تأجيجه خلال السنوات الماضية مع تعدد الهجمات الإرهابية على التراب الفرنسي، وانخراط عدد من المسؤولين السياسيين والمنابر الإعلامية في رسم الصورة الكاريكاتورية عن أن العرب كلّهم إرهابيون خطيرون.
- في خطابه الأخير، أتى الرئيس الفرنسي على ذكر أن تدريس اللغة العربية مظهر من مظاهر ما أسماه بـ "الانعزالية". هل هذا يدخل في نفس سياق العداء السياسي للغة العربية؟
في خطابه عن "الانعزالية" دافع ماكرون عن الفكرة القائلة بأنه يمكن لتعليم اللغة العربية أن يكون أداة لمحاربة التشدد الديني. وهي فكرة تبدو لأول وهلة مثيرة للاهتمام، غير أنها كاريكاتورية بعض الشيء: ليس بدراسة اللغة العربية في المسجد نصبح متشددين. بالمقابل، ستربح المدرسة الفرنسية الكثير إن هي درّست اللغات الحية، وعلى وجه الخصوص اللغة العربية.
واكيم: منذ زمن طويل وفرنسا تعرف عنصريّة تجاه اللغة العربية، وهذا ليس بالشيء الجديد، لكنه بلغ ذروة تأجيجه خلال السنوات الماضية
فلفرنسا تاريخ عريق مع اللغة العربية، تعود جذوره إلى حقبة النهضة، إضافة إلى علاقاته التاريخية بالمغرب الكبير، الشرق الأوسط ومصر. بالتالي، فهو مكسب كبير للمجتمع الفرنسي أن يعترف بهذا الإرث الثقافي واللغوي الغني، عوض تغذية الصور النمطية والكاريكاتورية. وهذا يمر أساسًا عبر إدماجٍ جيد للغة العربية داخل المنظومة التعليمية، لكن كذلك عبر حوار ديموقراطي في الموضوع يتجنب كل الصور النمطية.