لم تكن السينما في السودان يوما خارج السياسة وإن كانت أقل تركيزاً عليها في تناولها كموضوع فني. كانت ولازالت الحركة السودانية السينمائية رهينة وشاهد على الحالة السياسية من قمع في ظل الدكتاتورية السابقة حتى التقييد على حدود الحرية العامة والفردية، لذلك كان مجرد العمل في الصناعة السينمائية والثقافية بالمجمل تحدٍ كبير يستحيل معه صناعة عمل واحد مجمود في عصر باتت فيه الصناعة الثقافية أمر مسلم.
صمود وشغف السينمائيين في مواجهة هذا القمع ساهم في بروز بعض التجارب والمبادرات لإنتاج سينما مستقلة، وأزكى محاولات استرجاع رغبة الجمهور لحضور أفلام محلية ومحاولات حثيثة لتوثيق التاريخ الثقافي السينمائي وإعادة احياء دور العرض وتدريب كوادر تعمل على الصناعة المهلكة تماماً.
من هنا انطلق شغف المخرجين أمجد أبو العلا الذي حلم بإعادة بناء حركة سينمائية وطنية من وإلى السودانيين وصهيب قسم الباري الذي راهن دوماً وأبدًا على التركة السينمائية واعادة الروح من جديد لتجارب الجيل الذي قمعته الدكتاتورية.
من قصيدة بريخت "أي زمن هذا الذي يكاد فيه الحديث عن الأشجار أن يصير جريمة لأنه يعني الصمت عن جرائم أخرى" أخذ المخرج صهيب قسم الباري اسم فيلمه "حديث عن الأشجار" الفيلم التسجيلي الطويل، يحكي قصة أربعة مخرجين سودانيين ظلوا أصدقاء لمدة تقارب خمسة وأربعين عاماً، هم الطيب مهدي ومنار الحلو وإبراهيم شداد وسليمان محمد إبراهيم. يكسرون التقاعد الإجباري بعد عودتهم من هجرة استمرت قرابة ثلاثين عاماً بقرار إعادة إحياء دار عرض سينمائي في مدينة أم درمان.
ما يزال يطمح صهيب والمخرجون الأربعة ويحلمون بتقديم فيلم "حديث عن الأشجار" في دار عرض سودانية حتى يكون انتصاراً للحركة السينمائية السودانية ككل.
الفيلم يعكس التقاطعات الثقافية والسياسية بعرض القمع الهائل الذي واجهته الصناعة السينمائية دون الترميز على السياسة كموضوع مباشر، لكنه يتحداها كموقف صامد وصريح منها.
أسس المخرجون الأربعة جماعة الفيلم السوداني في العام (1989) مع بداية الدكتاتورية العسكردينية، فمورست عليهم أسوأ درجات القمع والقهر والمنع لمحاولاتهم صنع الأفلام. يعكس "حديث عن الأشجار" بعض أحلامهم الضائعة وأجزاء من أعمالهم المتلفة التي تم ترميمها وسط تجربة بحثهم عن دار سينمائية يعيدون فيها نشر الثقافة السينمائية.
دِق المشاعر والطموحات والصداقة التي يحملها الرباعي لبعضهم تعطي بعداً أعمق لمحاولاتهم تحريك ذلك الجبل الذي يقف حاجزاً أمام عودة السينما السودانية.
فاز فيلم "حديث عن الأشجار" بجوائز من مهرجان برلين السينمائي ومهرجان إسطنبول السينمائي وجائزتين من مهرجان الجونة السينمائي، وما يزال يطمح صهيب والمخرجون الأربعة ويحلمون بتقديم الفيلم في دار عرض سودانية حتى يكون انتصاراً للحركة السينمائية السودانية ككل.
اقرأ/ي أيضًا: فيلم "ستموت في العشرين" يثير جدلًا في السودان وإعجابًا في البندقية
كان الحلم والشغف الذي يدفع المخرج أمجد أبو العلا صاحب فيلم "ستموت في العشرين" مشابهًا لزميله صهيب؛ الرغبة المحمومة في الإضافة لرصيد السينما السودانية المجمد بفعل نظام سلطوي معاد للفنون والحياة، حلم أمجد بإعادة إحياء السينما السودانية من موتها المديد.
من المدهش وبعد التعرف على تجربة الفيلم الروائي الطويل "حديث عن الأشجار" ورؤية الكم الهائل من الجهد الذي بذل في صناعة السينما السودانية ما يزال "ستموت في العشرين" هو الفيلم الروائي السابع في تاريخ السينما السودانية!
"ستموت في العشرين" هو فيلم مأخوذ عن قصة الروائي السوداني حمور زيادة "النوم عند قدمي الجبل" فيلم مستقل بإنتاج مشترك سوداني مصري فرنسي ألماني نرويجي، هذا الإنتاج المشترك يعكس التحدي الهائل الذي يقابل أي فريق عمل محلي، في بلد نسي أهله أي ملامح لسينما وطنية، ويقف حاجزًا أمام صناعة سينما سودانية.
يحكي الفيلم قصة صبي ولد بنبوءة موته في العشرين، لتصبح لعنة تقف أمام العشرين عامًا القادمة من حياته، يغرق فيها في الحياة المستقيمة المحددة سلفاً التي تمنعه من أي تجربة جديدة، من أي اختبار للذات أو اكتشاف حدودها، غارقاً في حياة القرية والخلوة يصطدم بمعرفة شخص سينمائي من خلفية ثقافية مناقضة تماماً لثقافته ومرفوضة عندها، فيبدأ عنده صراع داخلي بين القناعات الثابتة ونوافذ الأفكار الجديدة. ينتهي الأمر برمزية الهرب كمحاولة للخلاص الفردي من الارتباك الظاهري والصدام غير المعلن بين الداخل والخارج، الأصيل والوافد، المقدس والمدنس.
اقرأ/ي أيضًا: الفيل الأسود.. أوان الحنين للسينما السودانية
حاز فيلم "ستموت في العشرين" والمخرج أمجد أبو العلا على جائزة الأسد الذهبي من مهرجان البندقية، والنجمة الذهبية لأفضل فيلم روائي طويل من مهرجان الجونة كما حصل على تنصيب الفيلم الإفريقي الأكثر تأثيراً في المهرجان.
لذلك فالفيلم يعتبر انتصاراً لسينما قادمة من غياهب النسيان، ولكن أيضاً للمجهود الفردي لفريق عمل الفيلم الذي تعد هذه التجربة الأولى له في صنع فيلم طويل، من ممثلين لم يسبق لهم التمثيل وآخرين من خلفية مسرحية - دفعة كبيرة في الصناعة السودانية، ليبقى التحدي الأكبر لتجربتي صهيب وأمجد هو عرض الفيلم في دور السينما المحلية للجمهور السوداني، كما حلما دوماً.
نهضة السينما لا تكون فقط بصناعة الأفلام فلا بد لكل لعوامل التي تدفع بها أن تتحرك متزامنة لتنجز ثورتها في صناعة الفيلم السوداني
يجمع التجربتين الحديثتين لإنتاج فيلم سوداني الدسامةُ الفنية والدقة الهائلة في التركيز على موضوع رئيسي، صور فنية غاية في الإتقان وتنفيذ إبداعي أقل ما يقال عنه أنه رائع، فيهما تحدٍ كبير للسلطة الاجتماعية والثقافية والأبوية في الإخراج العام للعملين، هذه السمات مجتمعة منحت الفيلم قدرة ادائية فذة وقوة على تحطيم السائد وفرض أرضية طازجة لتشكيل رؤية جديدة للثقافة في مجتمع يضج بالمتناقضات.
هذه الأفلام بداية عصر جديد وقوي للحركة السينمائية السودانية، ومحفز لدفع العاملين في الشأن السينمائي والمهتمين لطرق الحديد وهو ساخن، ولأن نهضة السينما لا تكون فقط بصناعة الأفلام فلا بد لكل لعوامل التي تدفع بها أن تتحرك متزامنة لتنجز ثورتها في صناعة الفيلم السوداني، فعلى الأقل نحن جمهور هذا الفن لا نريد أن نحتفي بعد ثلاثين عاماً أخرى بفيلم يحكي إهدار طموحات المخرجين اللذين وهبا السينما السودانية هذا الحدث الفريد، لأنه لن يعتبر نجاحاً حين ذاك.
اقرأ/ي أيضًا:
جاد الله جبارة.. ذكرى الكاميرا التي رسمت السودان
الفيلم السوداني "حديث عن الأشجار" يمنح العرب جائزة مهرجان برلين