حط كمال جنبلاط رحاله في دمشق، اجتمع بالرئيس حافظ الأسد على مدى ثلاث ساعات، ضمن محاولة لإقناع الأخير بمشروعه حول ضرورة حسم النزاع عسكريًا بوجه اليمين المسيحي، وذلك عبر اجتياح شامل يصل إلى بكفيّا.
كان بيار الجميّل يرسل نجله أمين إلى سوريا للقاء الأسد، فيما يُرسل نجله بشير إلى إسرائيل لفتح قنوات تعاون
رفض الأسد مشروع جنبلاط، وأصرّ على حتمية إنتاج حلٍ سياسي وفق نظرية لا غالب ولا مغلوب. لاحقًا دخل الأسد الحرب إلى جانب اليمين، بطلب واضح وموّثق من الجبهة اللبنانية. فعل فعلته بالحركة الوطنية وبمنظمة التحرير الفلسطينية.. وبجسد كمال جنبلاط كذلك.
اقرأ/ي أيضًا: عون وجعجع.. لقاء التكاذب ورد الصفعات
كانت استراتيجية الأسد قائمة على معادلة دقيقة مفادها أن التدخل بوجه اليمين سيدفعهم إلى الارتماء حتمًا في الحضن الإسرائيلي، وبالتالي فإن الحسم ممنوع، ودونه خرق واضح للخطوط الحمراء على المستوى الإقليمي والدولي، هذا ناهيك عن طموحه التاريخي بإقامة تحالف للأقليات تقوده دمشق. ولكن، ما لبث الأسد أن اكتشف الخديعة، فقد سارع اليمين إلى فتح قنوات اتصال واسعة مع إسرائيل، شارون-بشير، وأدرك أنهم استخدموه لتحسين مواقعهم العسكرية بوجه الطرف الآخر. كان الاكتشاف مؤلمًا، وقد ترك أثرًا عميقًا لديه، بحيث قال للنائب وليد جنبلاط ما حرفيته "لقد كان والدك مُحقًا، لا إمكانية لأي حل سياسي قبل نزع مخالبهم العسكرية".
بدوره، تصرّف اليمين مع هذه المتغيرات وفق استراتيجية مختلفة، فقد كان بيار الجميّل يرسل نجله أمين إلى سوريا للقاء الأسد والتنسيق معه، فيما يُرسل نجله بشير إلى إسرائيل لفتح قنوات تعاون واتصال، كانت الفكرة قائمة على الاستفادة من الطرفين، بحيث يكبح حافظ الأسد تقدم اليسار والحركة الوطنية ومنظمة التحرير، مقابل أن تكبح إسرائيل جموحه. وهذا ما تجلى بشكل واضح في وقت لاحق، حيث أدرك الإسرائيلون بأن بشير ورطهم بمواجهة عسكرية مباشرة مع سوريا على هامش معركة زحلة الشهيرة.
بالأمس خرج النائب سليمان فرنجية ليطلق موقفًا شديد الدلالة في شكله ومضمونه وتوقيته، معتبرًا أن وصول المسيحي الأقوى إلى رئاسة الجمهورية ربما يُرتّب أخطارًا كبرى على لبنان وعلى المسيحيين أنفسهم. الدلالة الأولى للموقف تتمثل بصدوره من طرابلس، وتحديدًا من منزل مفتيها الشيخ مالك الشعار، أما الدلالة الأهم، فهي رسالة مباشرة لحزب الله وغيره، مفادها "تسونامي ميشال عون وسمير جعجع لن يتوقف عند أي حدود، وكما أن اليمين انقلب على الأسد، ثم عاد وانقلب على إسرائيل، فإن هذا التحالف سينقلب علينا وعليكم وعلى الجميع.
النزاع السني الشيعي مرتبط بتجاذب إقليمي، بحيث أن أحدًا من أطرافهما اللبنانية لن يُقدم على أي تصعيد دون غطاء إقليمي واضح
المعادلة هنا بسيطة للغاية، فالنائب فرنجية قال، دون أن يقول، إن النزاع السني الشيعي مرتبط بتجاذب قائم في الإقليم، بحيث أن أحدًا من أطرافهما اللبنانية لن يُقدم على أي تصعيد دون غطاء إقليمي واضح، وبالتالي فإن الحل يرتبط بالصيغة عينها، فأي تقارب بين السعودية وإيران سينعكس بشكل حتميّ على تبريد الوضع بين حزب الله وتيار المستقبل. وهذا ما لا ينطبق على القوات اللبنانية والتيار الوطني الحر، لا سيّما وأن القدرة على الإمساك بخياراتهم السياسية تكاد تكون شبه معدومة.
اقرأ/ي أيضًا: القابضون على جمر الاعتدال
سابقًا وعد بشير الجميّل الإسرائيليين بتوقيع اتفاقية سلام حال وصوله إلى رئاسة الجمهورية، قال لشارون "هذه مدرستي، وكان يشير بيده إلى مدرسة الجمهور، لا بد أن يصل الاجتياح إلى هنا، وإلا فلا طائل منه. بعد انتخابه بأيام، عُقد اجتماع في نهاريّا ضمه إلى مناحيم بيغن، وقد وُصف بأنه اللقاء الأسوأ بين الرجلين. طالبه بيغن بتسديد فاتورة وصوله إلى القصر عبر تصريح علني يتعهد فيه ببدء مفاوضات رسمية لتوقيع معاهدة السلام. تمرّد بشير فورًا "أعدكم بالموافقة على أي اتفاق يقبل به رئيس الحكومة السنيّ"، وهي كلمات كافية ليفهم عبرها الإسرائيليون بأن بشير خدعهم واستغلهم لتحقيق وصول سريع إلى الكرسي الأول.
ميشال عون يُمثل الروحية نفسها، ولو بأدبيات مختلفة، وكذلك هي الحال مع سمير جعجع، الذي ذهب إلى ترشيح غريمه اللدود من خارج أي سياق تقليدي تحكمه طبيعة التوازنات الداخلية أو الإقليمية، هو قلب الطاولة على الجميع، وفي مقدمتهم السعودية، التي وقفت إلى جانبه منذ خروجه من السجن. كان الأمر أشبه بانتفاضة أكدت المؤكد، أي بأن "لا إمكانية لإمساك أو احتضان هذه الحالة، فعند أول مفترق سيقع الشرخ الكبير". وهنا تحديدًا يكمن خوف الجميع من وصول ميشال عون، وعلى رأسهم حزب الله، الذي يريده حليفًا لا رئيسًا للجمهورية.
اقرأ/ي أيضًا: سياسيو لبنان من "طهّر نيعك" إلى "سد بوزك"
خطورة المسيحي الأول لبنانيًا تكمن تحديدًا في المزاج المسيحي العام، الذي ينتمي، بشكل أو بآخر، إلى مدرسة بشير، وهي خطورة تتخطى القدرة على احتضانها أو تطويقها، لا سيّما وأنها تترافق مع شعور هادر ومتجدد حول مظلومية تاريخية يُجسّدها اتفاق الطائف، بالإضافة إلى نزعة فطرية خصبة قد تنسف أي إمكانية لقيام كيان لبناني موّحد، أو لحسم الجدلية الأبدية حول الهوية الوطنية. وانطلاقًا من هذه الخطورة، يجد الجميع صعوبة بالغة في تقبّل مجرد تحالف يجمع القوات والتيار الوطني الحر، وما قد ينتج عنه من تداعيات سياسية وغير سياسية، فكيف هي الحال إذًا مع وصول ميشال عون إلى بعبدا؟ الأمر أشبه بمغامرة غير محسوبة، إن لم نقل مدمّرة.
لا خشية من أي خلاف بين حزب الله وتيار المستقبل مهما كبر، فهناك ضابط إيقاع يحرّك العملية السياسية وفق مصالحه واستراتيجياته ورؤيته لمستقبل المنطقة ولنفوذه الناعم في غير مكان، لكن الخشية الحقيقية تكمن في قيام جبهة مسيحية وازنة لا تخضع لأي ضوابط إقليمية أو دولية، ولذلك فإن الجميع، في الداخل والخارج، يريد للمتحرك المسيحي أن يبقى ضمن إطار الصراع السياسي بين الزعامات التقليدية، وهم قد يختلفون حول كل شيء، لكنهم يجتمعون حتمًا حول خلاصة واحدة: لا للمارونية السياسية، لا للمدرسة البشيرية، لا لميشال عون.
اقرأ/ي أيضًا: