الإثنين الماضي، وفي حوالي الساعة الثالثة عصرًا، توجهت صحفية من مالطا إلى سيارتها ماركة "بيجو". ركبت السيارة، وشغلت المحرك، فانفجرت بها لتلقى حتفها فورًا.
إنها دافني كاروانا غاليزيا، الصحفية التي وصفتها صحيفة بوليتيكو بأنها من بين أكثر 28 شخصية قلبت أوروبا رأسًا على عقب، وقيل عنها إنها "كوثيقة مسربة على هيئة امرأة، استطاعت أن تقود حملة ضد اللاشفافية والفساد في مالطا وخارجها".
وصفت دافني كاروانا بأنها "وثيقة مسربة على هيئة امرأة" لجهدها البارز في كشف تورط مسؤولين حول العالم في قضايا فساد عبر وثائق بنما
أمّا رئيس الوزراء المالطي الذي وصل لمنصبه في 2013، فتتورط الدائرة المقربة منه في فضائح فساد، بما في ذلك زوجته. وكُشف تورطهم ذلك من خلال وثائق بنما التي قادت العمل عليها الصحفية ذاتها.
اقرأ/ي أيضًا: اغتيال الصحفية دافني كاروانا.. لن تغتالوا الحقيقة
وصباح اليوم التالي على اغتيالها، غرّد رئيس الوزراء المالطي، جوزيف موسكات، ليقول إن الهجوم الذي استهدف كاروانا وأودى بحياتها، هو "هجوم حاقد، ويستهدف حرية التعبير". لكن تلك التغريدة لن تُبعد عنه أصابع الاتهام هو وغيره من الذين تضررت أعمالهم المشبوهة من وراء قلم دافني كاروانا.
يكثر الأشخاص الموجهة إليهم أصابع الاتهام في مقتل دافني كاروانا، فهي تقريبًا لها في كل بلد عدو بحجم 11 مليون وثيقة تكشف فساد ما لا يقل عن 140 شخصيةً في جميع أنحاء العالم، ما بين مسؤول وسياسي وشخصية عامة، فمنهم ما لا يقل عن 12 من زعماء العالم، و60 آخرين على الأقل في دوائرهم المقربة جدًا.
جميعهم متورطون.. لكن من المتضرر الأكبر؟
من اللافت في تسريبات وثائق بنما، انتشارها الجغرافي، فهو يتضمن تقريبًا معظم دول العالم، بما فيها المنطقة العربية. فلكل بقعة جغرفية تقريبًا، نقطة سوداء أو أكثر كشفت عنها وثائق بنما. لكن بالنسبة للعديد من الأنظمة، كأنظمة المنطقة العربية وغيرها من الأنظمة الشمولية، قد لا يبدو الأمر هامًا بالنسبة إليها، فهي دائمًا تحت وطأة الكشف عن الفساد المتغلغل بها، وكأنها اعتادت الأمر، وزادت في التبجح بتجاهله.
يكثر المتهمون في مقتل كاروانا، فهي تقريبًا لها في كل بلد عدو بحجم 11 مليون وثيقة تكشف فساد 140 شخصية حول العالم
أمّا نجوم الرياضة الذين ذُكرت أسماؤهم في وثائق بنما، بأنهم يمتلكون حسابات في المناطق المعروفة بـ"الملاذات الضريبية"، فقد سبق وأن ترددت الأنباء حول تهربهم الضريبي إلى هذه الملاذات، حتى قبل تسرب وثائق بنما. ففي عام 2014، أي قبل عامين من ظهور وثائق بنما، ذكرت صحيفة "إل باييس" الإسبانية أنّ تحويلات بنكية بقيمة مليون يورو دخلت مناطق مشهورة بأنها ملاذ ضريبي في منطقة الكاريبي. وهي تحويلات بنكية كان يفترض أنها ذاهبة لمؤسسات خيرية، لكن انتهى طريقها إلى حسابات سرية في تلك الملاذات الضريبية على أيدي منظمي المباريات الخيرية لميسي.
اقرأ/ي أيضًا: وثائق بنما.. ساسة الفساد المالي حول العالم
ميشيل بلاتيني الرئيس السابق للاتحاد الأوروبي لكرة القدم، تورط هو الآخر في قضايا فساد أوقف بموجبها في تشرين الأول/أكتوبر 2015. إذن الجمهور الرياضي صار معتادًا على مثل تلك الأخبار، وهو أمر لا يُؤثر كثيرًا على شعبية الرياضين، فضلًا عن ثرواتهم.
لعل أوروبا هي واحدة من المستفيدين رسميًا من تلك الأموال المنهوبة في الخارج، التي تلقي الضوء على المسارات التي تُغيَب فيها رؤؤس الأموال الأوروبية، والتي تحتاجها أوروبا اليوم لاستعادة قوتها في مواجهة الباحثين عن حياة فيها من اللاجئين. كما أن أوروبا في العديد في بلدانها تتمتع بمجتمع مدني قوي، له صوتٌ مؤثر بدرجة ما على مصير المسؤولين وسلطاتهم. فعلى سبيل المثال اضطر رئيس الوزراء الآيسلندي آنذاك، إلى الاستقالة بعد أن صوّت البرلمان الآيسلندي على سحب الثقة عن حكومته، على خلفية انفضاح تورطه هو وزوجته في إخفاء ملايين الدولارات في إحدى الملاذات الضريبية.
الكثيرون إذن كشفت وثائق بنما عن تورطهم في فساد التهرب الضريبي وغسيل الأموال. الوثائق التي لعبت دافني كاروانا دور البطولة في تحقيقاتها. لكن يظل المتضرر الأكبر بالنسبة لما قامت به دافني كاروانا، هي السلطات المالطية، التي سبق لكاروانا أن وجهت لها النداء بتعرضها لتهديدات تمس حياتها، لكن تم تجالها كما يتضح.
حمل نجل كاروانا، السلطات المالطية مسؤولية مقتل والدته، خاصة وأنها تجاهلت البلاغات التي قدمتها كاروانا بشأن تلقيها تهديدات بالقتل
ورغم استنكار رئيس الوزراء المالطي، جوزيف موسكات، مقتل دافني كاروانا، لكن ذلك لا ينفي بالكلية احتمال تورطه في مقتلها، خاصة أن نجلها حمّل السلطات المالطية مسؤولية اغتيالها المروع. كما يظل ذلك الاحتمال قائمًا، وربما مرجحًا عن غيره، كون جوزيف موسكات استطاع قبل أشهر قليلة أن يخرج بولاية ثانية لمدة خمس سنوات، بعد أن حقق فوزًا بالكاد، في الانتخابات المبكرة التي دعا لها بعد أن كُشف عن تورطه في قضايا الفساد التي كشفت عنها وثائق بنما، فيُحتمل إذن أن جوزيف موسكات أراد تمضية ولايته الجديدة دون تعكير صفو.
على كل يظل مقتل دافني كاروانا لغزًا، وإن كان غير محيّر كثيرًا، فعلى الأغلب المتهمون معروفون، لكن الجاني لا يزال غير معروف، وإن كانت ثمة ترجيحات هنا وهناك. وفي كل الأحوال تبقى قضية اغتيال الصحافية دافني كاروانا نقطة سوداء اُخرى في تاريخ قمع، لدرجة القتل، للصحافة الباحثة عن الحقيقة.
صحفيو وثائق بنما.. طرد وفصل ومضايقات
كانت دافني كاروانا الضحية، لكن التهديدات على خلفية وثائق بنما طالت العديد من الصحفيين الذين عملوا على التحقيق فيها، والذين بلغ عددهم حوالي 400 صحفي وصحفية من حول العالم، بينهم صحفيون عرب، كالتونسي وليد الماجري، الصحفي في موقع إنكيفادا، والذي تلقى هو والفريق العامل معه في موقع إنكيفادا إلى تضييق وتشكيك في جودة عمله.
ومن العراق، هناك الصحفي منتظر ناصر، الذي خصص عامًا كاملًا للعمل على الوثائق، إذ انضم للفريق العربي التابع لمؤسسة أريج الصحفية المرتبطة بالاتحاد الدولي للصحفيين الاستقصائيين، للعمل على الوثائق. نتائج تحقيقات منتظر ناصر في الوثائق كشفت عن ملفات فساد في هيئة الإعلام والاتصالات العراقية التي يعمل بها، ما تسبب في تعرضه للفصل من العمل.
طالت التهديدات العديد من الصحفيين الذين عملوا على وثائق بنما لكشف تورط مسؤولين وشخصيات عامة حول العالم في قضايا فساد
وفي الجزائر رفضت السلطات منح مجموعة من الصحفيين في صحيفتي لوموند وكنال الفرنسيتين، تأشيرة دخول إلى البلاد، على خلفية نشرهما مقالات وتقارير حول قضايا فساد في الجزائر مرتبطة بمسؤولين. وكان الصحافييون في زيارتهم التي أُلغيت بسبب المنع، يسعون لتغطية زيارة رئيس وزراء فرنسا آنذاك، مانويل فالس إلى الجزائر.
اقرأ/ي أيضًا: