لا يُساعدك داود عبد السيد على النجاة من دوامته، ولا الهرب من التوتر الساكن في جوف شخصياته. عند هذا المشهد تحديدًا حدثت معي حالة "ديجافو" فلم أعرف هل هذا بحر الإسكندرية أم نهر الكيت كات؟
يبدو أن ما شاهدته كان يسبق الأحداث بكثير. "يوسف" ابن الشيخ حسني الشاب الهادئ الطبع والحركة، دائم الحيرة، المختنق بين جدران بيت أبيه، يوسف "اللي مش عارف يعمل حاجة"، يوسف الذي يُريد الهرب من هذه الشوارع وهذا الواقع، يهرب من كل شيء ويذهب للصيد.
لا يُساعدك داود عبد السيد على النجاة من دوامته، ولا الهرب من التوتر الساكن في جوف شخصياته
أما "يحيى" فيرفض عرض أخيه للسفر، يرى أن العالم أصبح صغيرًا عليه لكنه يريد التحليق بداخله، يرفض حاضره ولا يطمح في مستقبل، يجمع أمتعته ليهرب إلى ماضيه، النوستالجيا التي نلجأ لها عند الوحدة، عند قلة الفرص والحيلة، يحيى الطبيب الذي لا يُزاول مهنته لمشاكله في الكلام والنُطق. ينتهي به الحال إلى الإسكندرية. البحر. أن يمتهن الصيد بالصنارة.
يُخبر يوسف جارته "لساني مكنش بيتكلم لأنه لو نطق هيتهته"، لم يكن يوسف يتحدث معنا عن واقعه، بل عن صراعه الداخلي لكن هذا الكلام يخص "يحيى" الذي مل وحدته لأنه يريد الحديث مع الناس لا مع نفسه لكنه للآسف "يتهته".
يوسف يقول بقلة حيلة "عمري ماعرفت أعمل حاجة مش عارف ليه" فشل رغم تجاربه القليلة، فشل حتى مع جارته التي تُحبه، فشل في أن يُمارس معها فعل الحب ربما لأنه حقًا تائه ولأن هذه الفرصة أتته وأنه لم يكن يبحث عنها. بالمقابل كان يحيى جيدًا في الحب، جيدًا رغم خيبته في الحديث، ورغم قلة تجاربه وإفلاسه ووحدته.
اقرأ/ي أيضًا: فيلم "Holy Motors" ومحاولة خلق الجمال
يُضللني عقلي أكثر فأكثر، أيهما أقل حيلة وأكثر خيبة؟ في مشهد الصيد كان يحيى وسط الكثير من الصيادين، لم يكن غريبًا عنهم، لم تكن ملامحه أكثر تعاسة. على الجانب الآخر يقف يوسف غريبًا بملامسه الحمراء في عالم رمادي، كان حزينًا وفاقدًا للصبر، يصطاد لسبب غير معروف، تبدو عليه رغبة في الهروب بعكس يحيى الذي كان الصيد ملجأه الوحيد.
يستخدم داود المرأة كمُحرك قوي للأحداث. المرأة عنده هي التغيير الوحيد في حياة أبطاله الرتيبة، المرأة دائمًا شهوة متحركة، والمرأة دائمًا تتواجد في حياة هذا البطل البائس الحزين الوحيد في عالمه، البطل قليل الحيلة، رغم أن هذه الصفات لا تجذب المرأة، المعروف أن من يجذبها هو الرجل القوي الصارم ذو الشأن الهام وصاحب المال والجاه. المرأة عند داود لا تبحث عن الرجل، في البدء يكون مرورًا عابرًا منه "هو" ثم تُكمل "هي" الحكاية.
في الكيت كات يبدأ الشيخ حسني مجرى الأحداث بأن حكى لأصحابه كيف أصبح أعمى. للوهلة الأولى تعرف أنك قادم على حكاية مأساوية عن تفاصيل العمى، لكنه ببساطة يحكي شيئًا ما بأسلوب شبه أسطوري عن تلك المرأة التي التي خلعت ملابسها ونزلت البحر عارية لتستحم، وكان هو يقف على الجانب الأخر "يبحلق" فيها، وكان هذا هو الذنب الذي اقترفه فكان العقاب فأصبح أعمى.
في الكيت كات يحكي الشيخ حسني كيف أصبح أعمى، تعرف أنك قادم على حكاية مأساوية، لكنه يحكي عن المرأة التي نزلت البحر عارية لتستحم
ذكر الشيخ حسني شيئًا عن ثورة البحر في هذه اللحظة الفارقة في حياته، مثلما حدث مع يحيى، عندما ثار البحر أمامه لكن هذه المرة بدون سبب، ليس ليحيى ذنب يُعاقب بسببه قبلة مختلسة تحت سلم العمارة!
لن أفترض سوء ظن البحر الذي طالما كان سكونه وملاذه. واجه يحيى هذه الثورة بثورة أشد لكنها قليلة الحيلة، نال الشيخ حسني نصيبه من اللذة ومتعة النظر والعمى، وكان نصيب يحيى في المزيد من الرسائل التي لا معنى لها ولا عائد منها سوى الحيرة. الحيرة التي رافقته طيلة حياته، والتي واجهها مستسلمًا، وواجهها يوسف أيضًا بالمزيد من قلة الحيلة والمزيد من الهدوء والسكون والموسيقى والعوالم المتشابكة.
اقرأ/ي أيضًا:
فيلم "عرق البلح".. نساءٌ عاريات تحت رعب الشّمس
"محمود حميدة" فارس التمثيل الذي لم يجد حصانه