متعة الحياة تكمن في تفاصيلها الصغيرة الغامضة. بتلك العبارة السابقة نستطيع الدخول إلى فيلم "قدرات غير عادية" للمخرج المميّز داوود عبدالسيد. يحاول الفيلم أن يرسم صورة متقاربة للإسكندرية المنسيّة؛ تلك المدينة الكوزموبولوتانية التي ضمَّت طوائف وجنسيّاتٍ عدّة خلال فترتي الثلاثينيات والأربعينيات.
دائمًا ما يستعين داوود عبد السيد في أفلامه بطقطوقة "يا حلاوة الدنيا"، التي ترسم الأحداث إلى حدٍّ كبير
تدور قصة الفيلم حول دكتور يحيى (خالد أبو النجا) الذي يحاول البحث عن البشر الذين يمتلكون قدراتٍ غير عادية. لم تكن المهمة بالسهلة، فالصدفة وحدها هي التي قادته إلى أحد البنسيونات القديمة في الإسكندرية ليجد نفسه محاطًا بمجموعة من البشر أصحاب توليفة خاصة. فهناك الفنان التشكيلي الذي يقضي وقته على الشاطيء لرسم كل ما يصادفه، وشيخ الابتهالات المنشد الذي يدخل في جدل متواصل مع مغني الأوبرا المتقاعد، بالإضافة إلى الإيطالي أنطونيو الذي قضى أكثر من سنتين في المكان لعمل وثائقي حول عاهرات موانيء البحر المتوسط، وكذلك خادم المكان النوبي حبيب الله. لكن تبقى شخصيتا صاحبة البانسيون حياة (نجلاء بدر) وطفلتها فريدة (مريم تامر) هما الأكثر تأثيرًا.
لا تبدو القصة بهذه البساطة التي يوحي بها خط سير الأحداث، فعبد السيد هنا يحاول أن يطرح إشكالياتٍ متجدّدة بدءًا من قدرات البشر غير العادية ومحاولة البشر المستمرة في التستر عليها أحيانًا واستغلالها أحيانًا أخرى. بمجرد نزول يحيى إلى البانسيون تبدأ ملامح الشخصيات المحيطة في التكشف، فهناك الصراع المتواصل بيننا وبين الآخر. فعلى سبيل المثال: نجد أن شيخ الابتهالات (محمود الجندي) يدخل في جدالٍ متواصل مع مغني الأوبرا السابق (حسن كامي) حول الاختلافات الجذرية بين الموسيقى الشرقية والغربية، حول ما يُمكن أن نسميه طربًا وما هو غير ذلك.
وعندما يلجأ كل منهما إلى الغناء يختار مغني الأوبرا العزف على البيانو مع الغناء الأوبرالي، بينما يختار الشيخ طقطوقة "يا حلاوة الدنيا" لمطربة القطرين فتحية وألحان شيخ الملحنين زكريا أحمد، ونلاحظ أن داوود عادةً ما يستعين بتلك الطقطوقة في أعماله والتي ترسم إلى حدٍّ كبير أحداث الفيلم. ثم نجد جدالًا في موضع آخر حول كوّن ليلى مراد تعلمت الغناء الأوبرالي أم صول الغناء الشرقي على يد زكي مراد وداوود حسني. دون الاستمتاع بلحظة غنائها. بعدها يبدأ يحيى في اكتشاف قدرة غير عادية عند الطفلة الصغيرة التي تمتلك موهبة فائقة وسرعة بديهة غير مألوفة في الحصول على ما تريد.
لقطة أخرى ينبغي الوقوف عندها وهي مرور السيرك في وسط المدينة، وفي ظني أن السيرك هنا معادلًا موضوعيًّا للآخر الذي يجب أن نتقبله ونتحاور معه مهما كانت الظروف. هؤلاء الذين يحاولون إظهار مهارتهم الخاصة غير المألوفة يحتاجون إلى قدر من التعاطي والتوافق.
إننا نعيش في سيرك يومي في عالم يسحق البشر ويغتال أحلامهم اليومية
إننا نعيش في سيرك يومي في عالم يسحق البشر ويغتال أحلامهم اليومية. لم يمر السيرك بسلام في المدينة، وجد حاله منبوذًا ومطاردًا من المتشددين أحيانًا ومن البشر العاديين أحيانًا أخرى. إنها لغة الضيق والكره فلم يعد هناك مجالًا للتفاهم أو تقبّل الآخر. لكن تظلّ لقطة قتل الحمار داخل السيرك إحدى اللقطات التي تحتاج للوقوف عندها. لقد كان الحمار خائفًا من زئير الأسد المحبوس داخل القفص لأنه يعلم في النهاية أن الأخير سيفترسه أليس هذا حالنا اليوم؟ نعيش في حالةٍ من الرعب والفزع من كل صاحب رأس مال أو سلطة لأنه في النهاية سيقضي علينا.
لا يخلو الفيلم من نزعة الرومانسية التي تتكشف ملامحها عندما يجد يحيى حاله منجذبًا لحياة صاحبة البانسيون، فكلما يفكر فيها يجدها أمامه. كادرات فائقة الجمال لحالة البحر وشوارع الإسكندرية التي تضج بالحياة والحلم نحو الحرية. هذه العلاقة تتكشف ببطء حتى تصل لذروتها حين يستسلم كل منهما للآخر. لا يتوقف الأمر هنا، حيث يدخل يحيى في رحلة جديدة داخل عالم من التصوف والتوق نحو عوالم أخرى. حلقات ذِكر لا تنتهي وموسيقى تتعالى نحو السماوات العليا ومجموعة من البشر يتيهون يمينًا ويسارًا وسط تلك الأجواء، يطرح داوود سؤالًا جديدًا حول علاقة المخلوق بالخالق. لقد اختار هؤلاء المتصوفة بمحض إرادتهم أن يسرقوا لحظاتٍ من الحياة بعيدًا عن الضغوط والمشاكل من خلال رحلة طقسية روحية، ومع موسيقى الرائع (راجح داوود) يدخل المشاهد في لوحةٍ فنية من العشق والزهد.
ينجذب يحيى إلى حياة وفريدة معًا، ويبدأ معهما رحلة اكتشاف قدرتهما غير العادية ثم يحاول الإجابة عن السؤال المتواصل هل بالفعل تمتلك فريدة قدراتٍ غير عادية وهل لأمها حياة علاقة بتلك الجينات الوراثيـة؟ وقبل الوصول إلى إجابة قاطعة يتفاجأ يحيى بأن لديه قدرة غير عادية على تحريك الأشياء من مكانها! ربما يمتلك كلٌ منا قدرات غير عادية لكنه يحتاج إلى حب الآخرين والتواصل معهم بالشكل المناسب كي تظهر.
شخصية أخرى تؤثر في أحداث الفيلم هي الضابط الذي يحاول التقرّب من والدة فريدة ويتزوجها بهدف إحكام السيطرة على موهبة الطفلة الفريدة في محاولة منه لاستخدامها كوسيطٍ في حل بعض القضايا الشائكة. لقد انتُزعت تلك الطفلة البريئة من عالمها الطفولي ليتم زرعها في عالم آخر يضّج بالقسوة والإجرام مما أصابها بحالة اكتئاب حادة. إنه عالم الطفولة الحالي المُتجرّد من مضمونه وبكارته، فأطفال اليوم يعيشون حياة يومية تفيض بمشاهد الدمار والحرب. ربما حاول داوود أيضًّا أن يُلقي بظلاله على مجريات الحياة اليومية والواقع المؤلم الذي نعيشه كأن هناك حالة رفض دائمـة لكل ما هو فني ومتجدد، فهذه الصورة تظهر من خلال لقطات المتشددين الذين ينغصّون الحياة اليومية.
مع اقتراب الرحلة من نهايتها يتوصل يحيى إلى قناعة خاصة حول امتلاك كل منّا قدرات غير عادية، خصوصًا إذا شعر بتلك الروح من الحرية والأمـل. مرة أخرى يجعل داوود عبد السيد من الإسكندرية نقطة ارتكاز بعد فيلمه "رسائل البحر"، حول تلك المدينة العريقة التي شهدت قصائد كافافيس وأونجاريتي.
يصل بطل فيلم داوود عبد السيد إلى الاقتناع بامتلاك كل منّا قدرات غير عادية، خصوصًا إذا شعر بالحرية والأمل
أما عن الأداء التمثيلي فهناك حالة كبيرة من الانسجام والتقاطع داخل العمل تقترب من السهل الممتنع. لكن البعض قد ينتقد العمل بأن هناك مبالغة نحو الإغراق في الغموض وإطناب المشاهد. كمـا يتضّح في بعض المشاهد شخصية الزوج الأول لحياة والد فريدة الذي يرفض أية قدرة غير عادية عند ابنته بل ويصفها بأنها بنت إبليس. لقد حاول داوود خلال طرحه للفيلم أن يؤكد على إمكانية امتلاك أي شخص في الحياة لقدرة غير عادية لكن خوف الأهل يدفعهم دائمًّا للتخفي والتهرب من أعين المارة. وبمجرد الوصول لنهاية الفيلم تظلّ طقطوقة فتحية أحمد ترّن في أذنيك: "وما دام الدنيا ماهيش دايمة/ وقيامة على العالم قايمة/ حلوها وافرحوا بيها/ والطيب اعملوه فيها...".
لا أعرف لماذا أجد تقاطعًا بين تلك الطقطوقة من أوبريت "يوم القيامة – 1944" والحالة العامة للفيلم. وختامًا لهذا الطرح السينمائي يُمكننا اقتباس مقولة يحيى في أحد المشاهد التي تحاول تأصيل مفهوم الحب ومدى قدرته على الاستمرار والتواصل في عالم لم يعد يتسع لتلك اللحظات الحالمة: "أحيانًا بنعتقد إن الحب شيء راسخ وقوي زي الحجر.. بس ممكن فجأة نكتشف إنه هش أو رقيق زي حاجز من ورق.. لو اتقطع أو انكسـر يبقى وراه فراغ".
اقرأ/ي أيضًا: